أوروباإيران

إلى أين تمضي العلاقات بين لندن وطهران؟

تصاعدت التوترات بين الطرفين الإيراني والبريطاني مؤخرًا في وقت يلفه الغموض؛ بسبب كواليس ما يجرى من مفاوضات بين الدول الموقعة على الاتفاق النووي مع إيران. وهو ما دفع إلى التساؤل حول مستقبل الدور البريطاني بالمفاوضات، وإلى أين سيتجه في ضوء تلك المناوشات المتكررة بينها وبين الطرف الإيراني.

ماذا حدث؟

وفى 11 أغسطس الجاري، قد نشرت السفارة الروسية في طهران عبر حسابها على موقع تويتر صورة تجمع بين السفير “لوان جاغريان” ونظيره البريطاني “سيمون شركليف” يجلسان في البهو الخارجي للسفارة الروسية.

وتحاكي الصورة الجديدة من حيث المكان والجلسة والدولتين الممثلتين صورة شهيرة التقطت إبان الحرب العالمية الثانية لكل من رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” ورئيس الاتحاد السوفيتي السابق “جوزيف ستالين”. وتعود الصورة القديمة تحديدًا إلى عام 1943، وقتما كانت إيران تخضع لاحتلال مشترك من بريطانيا والاتحاد السوفيتي.

ووصف وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الصورة الجديدة بأنها “غير لائقة تمامًا”. تلاها استدعاء الخارجية الإيرانية لكلا السفيرين للاستفسار عن مغزى وهدف هذه الصورة. إلا أن السفيرين لم يقدما اعتذارًا رسميًا عن هذه الصورة، واكتفيا بإبراز أسفهما عن سوء الفهم الذي تسببت فيه. وقد سبق ذلك، تعرّض سفينة “ميرسر ستريت” التي تديرها شركة “زوديك ماريتايم” البحرية ومقرها لندن للهجوم بنهاية شهر يوليو الماضي قبالة سواحل عمان. والذي أودى بحياة اثنين من أفراد طاقم الناقلة، أحدهم بريطاني والآخر روماني.

وقالت الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل إن طائرة مسيّرة استخدمت في الهجوم على السفينة؛ وحمّلوا إيران مسؤولية الهجوم على السفينة. وقال رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون مطلع الشهر الجاري، إنه يتعين على إيران “مواجهة عواقب ما فعلته”، واصفًا الحادث بأنه “هجوم غير مقبول وشائن على الشحن التجاري”. والتي ترتب عليه استدعاء كل من بريطانيا وإيران ممثل البلد الآخر على خلفية هذا الهجوم. 

تأتى تلك المناوشات في وقت تجري فيه محادثات فيينا التي بدأت إبريل الماضي، والتي تهدف إلى العودة للامتثال ببنود الاتفاق النووي الإيراني، بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، وتحرر إيران من الكثير من بنوده. وتعد تلك المحادثات نجاحًا لجهود مجموعة E3 (المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا) المستمرة لإعادة الولايات المتحدة للاتفاق، وهي الدول التي استمرت في الالتزام بالاتفاق رغم ضغوط إدارة ترامب المستمرة على الجانب الأوروبي وبخاصة البريطاني (الحليف الأكبر للولايات المتحدة) للانسحاب كذلك.

الموقف البريطاني من البرنامج النووي الإيراني

بدأت القوى الأوروبية في الاضطلاع بدور نشط في المفاوضات النووية مع إيران بين 2003-2006، مما أدى إلى اتفاقية باريس الخاصة بمجموعة الدول الثلاث E3 (المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا) في عام 2004، إلا أنها قد انهارت لاحقًا. وبدءًا من عام 2006، بعد أن أعاد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تشغيل المرافق الخاصة ببدء تخصيب اليورانيوم في إيران، توسعت مجموعة E3، وأصبحت مجموعة 5 + 1 (المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا). وقد أقرت هذه المجموعة من الدول عددًا من العقوبات التي تم إقرارها بالأمم المتحدة، مع استكمال الاتحاد الأوروبي هذا الجهد بمقاطعته الخاصة للغاز والنفط الإيراني في عام 2012.

وعليه فقد كانت خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) تتويجًا لما يقرب من عقد من المفاوضات. إلا أنه في 8 مايو 2018، أعلن الرئيس ترامب أن الولايات المتحدة ستتوقف عن تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة وتبدأ في إعادة فرض العقوبات المتعلقة بالمجال النووي على إيران. ومن هنا بدأ الاختلاف بين موقف الدول الأوروبية وعلى رأسهم المملكة المتحدة وبين موقف الولايات المتحدة. فتبع ذلك الإعلان إصدار قادة فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا بيانًا مشتركًا نيابة عن بلدانهم أعادوا فيه التأكيد على دعمهم للاتفاق وأهميته في تعزيز منع الانتشار النووي.

وفى يناير 2019، قامت مجموعة (E3) بتطوير أداة دعم التبادل التجاري (INSTEX) والتي تعمل كمقاصة للتبادل التجاري فيما يخص السلع الأساسية فقد خارج نظام العقوبات الأمريكية. ولكن إيران اعتبرت أن هذا الإجراء غير كافٍ لتخفيف آثار العقوبات الأمريكية، وهو ما يرجع إلى أن الشركات الأوروبية كانت لهم مصالح أكبر بالسوق الأمريكي، لذا فتخوفهم من توقيع عقوبات عليهم، جعلهم لم يقدموا على استخدام تلك الأداة.

وفي أكتوبر 2020، انحازت المملكة المتحدة لباقي الدول الموقعة على الاتفاق، ورفضت ضغوط الإدارة الأمريكية السابقة بالتحفظ على قرار رفع الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على توريد الأسلحة التقليدية لإيران، والذي تم اعتباره جزء من التزام تلك الدول ببنود الاتفاق مع إيران.

دوافع الدور البريطاني

بالرغم من أن وزير الخارجية البريطانية “دومينيك راب” قد سبق وأن وصف خطة العمل الشاملة المشتركة بأنها “ليست صفقة كاملة إلا أنها لا تزال أفضل طريقة حالية لتقييد برنامج إيران النووي”. ويمكن فهم دعم المملكة المتحدة لاستمرار الالتزام بالاتفاق، لعدد من الأسباب، أبرزها:

أهمية المنطقة: تستحوذ منطقة الخليج على أكبر تجمع للقوات العسكرية البريطانية خارج المملكة المتحدة، وما يقرب من ربع قوات البحرية الملكية النشطة. بالإضافة إلى توقيعها اتفاقات أمنية مع دول الخليج، وكذلك لعلاقاتها الاقتصادية القوية بتلك الدول. بالإضافة إلى انخراطها في تعزيز الأمن البحري في الخليج، حيث تساهم بشكل أساسي في حمايته من خلال الانخراط بفرقة عمل التحالف “Sentinel” التي تأسست في خريف عام 2019. بجانب دورها النشط في قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش بالعراق. وعليه فإن تقليل مستوى التوترات بالمنطقة، يساهم في حفظ مصالح المملكة المتحدة بمنطقة الخليج. 

الاستثمار في التغيير من الداخل: تتقارب المملكة المتحدة مع الموقف الأوروبي المؤمن بأن أي تغيير للنظام الإيراني يجب أن يأتي من داخله. وهي خبرة اكتسبتها من تدخلها بإسقاط حكومة مصدق ودعم نظام الشاه، الذي تم اسقاطه من قبل النظام الإيراني المتشدد بعد الثورة الإسلامية 1979؛ وهو ما ساهم في خسارتها لإيران التي كانت من أكبر حلفائها وقت نظام الشاه. ولهذا نجد أن المملكة المتحدة في إطار عضويتها بالاتحاد الأوروبي، قد سبق وأن دخلت مفاوضات مع إيران لتوقيع اتفاقية للتجارة والتعاون ما قبل الإعلان عن برنامج إيران النووي في 2003. 

وعليه فإن الموقف الأوروبي يرتكز على أهمية دمج إيران في النظام العالمي، وإن هذا الدمج سيساهم في إحداث التغيير من داخل النظام. والتركيز على ضرورة أن يكون التغيير من الداخل، يرجع إلى أن الدول الأوروبية ترى منطقة الشرق الأوسط امتدادًا حيويًا لها، وهو ما أثبتته أزمة اللاجئين السوريين في 2015. وعليه فإن أوروبا تُفضل أن يكون التغيير نابع الداخل، وبسبل سلمية، بما لا يؤدي إلى انهيار النظام؛ وينتج موجات هجرة ونزوح مثل ما تعرضت له سوريا وغيرها من دول بالمنطقة.

الرغبة في محاصرة النفوذ الصيني والروسي: تجادل المملكة المتحدة بأن التوجه نحو سياسة “الضغط الأقصى” على إيران، سيعزز من تقاربها مع روسيا والصين. ويمكن ملاحظة وجاهة هذا الطرح، من خلال عرض سلسلة التقاربات التي قامت بها إيران في الفترة الأخيرة، مع كلا من الصين وروسيا.

على سبيل المثال، وقعت الصين وإيران في 27 مارس 2021، اتفاق “شراكة استراتيجية شاملة” لمدة 25 عام على الأقل. والتي تشير التكهنات إلى أنه سيسمح للصين بالاستثمار داخل إيران بقيمة تصل إلى حوالي 400 مليار دولار. بالإضافة إلى وجود تسريبات بأن الصين ستشيد قاعدة عسكرية قوامها خمسة آلاف جندي في جزيرة كيش الواقعة في الخليج العربي، تمكنها هي وإيران من لعب دور مهم في التحكم بالممرات البحرية في المنطقة.

وبالنسبة لروسيا، فتتضح أبرز علامات هذا التقارب بين موسكو وطهران في سوريا. وهو ما انصرف إلى المزيد من التعاون العسكري بينهما بخاصة في المجال البحري. فمنذ بداية عام 2021، أفادت التقارير أن البحرية الروسية حمت السفن الإيرانية في البحر الأبيض المتوسط في طريقها إلى سوريا. وتقارير أخرى أفادت بإنشاء آلية تنسيق روسية إيرانية سورية في البحر الأبيض المتوسط، من أجل ضمان إمدادات النفط من إيران إلى سوريا. وكذلك فإن خروج القوات الأمريكية من أفغانستان سيجبر موسكو وطهران على توثيق الصلة بينهما من أجل منع انتشار تهديدات التنظيمات المسلحة إلى أراضي كل منهما.

ختامًا، يمكن أن نستخلص أن مجموع الأسباب السابق ذكرها، ستدفع المملكة المتحدة نحو السعي لإلزام إيران باتفاق يساهم في تخفيض مجموع المخاطر، التي يمكن أن تنتج عن النظام الإيراني، حال ما تعزز من تقاربه مع المحور الشرقي، المعادي للمصالح الغربية بالمنطقة. بالإضافة إلى أن امتلاك إيران لسلاح نووي، يعزز من الانزلاق نحو سباق تسلح نووي بالمنطقة، وهو ما سيجلب المزيد من عدم الاستقرار داخل نظام الأمن الإقليمي بالمنطقة.

ولهذا فبالرغم من تحفظ المملكة المتحدة على السلوكيات الإيرانية المخربة؛ وتصاعد حدة المناوشات الأخيرة بينهما. إلا أنها ستسعى إلى لعب دورها التقليدي كوسيط بين E3 والولايات المتحدة، بجولات المفاوضات التي تجري بفيينا حاليًا. ومن المحتمل أن تزداد فرص نجاحها تلك المرة، نظرًا لتقارب الرؤي بين إدارة بايدن والقوى الأوروبية، بعكس إدارة ترامب السابقة.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

الشيماء عرفات

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى