أفريقياتركيا

دلالات وأبعاد زيارة “آبي أحمد” إلى أنقرة

شكّلت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” إلى أنقرة في الثامن عشر من أغسطس 2021، محطة مستمرة من محطات التنسيق والتعاون الإثيوبي التركي والرغبة الإثيوبية في البحث عن بدائل داعمة للسياسات التعسفية الداخلية ومواجهة الأزمات الداخلية والإقليمية الممتدة. ولعل مخرجات الزيارة التي تمثلت في توقيع أربع مذكرات تفاهم تمتد إلى التعاون في مجال المياه واتفاقية الإطار العسكري والتعاون المالي تبرهن على المساعي التركية لاختراق الملفات الحرجة الداخلية في إثيوبيا والتي تمس الإقليم ككل.

وقد جاءت تلك الزيارة في أعقاب إبداء إثيوبيا حسن النوايا تجاه “أنقرة” عبر المقايضة بتسليم المدارس التابعة لمنظمة “فتح الله كولن” إلى وزارة وقف المعارف التركية، كخطوة استباقية من جانب أديس أبابا للحصول على الدعم العسكري واللوجستي والمادي لمواجهة التحديات الداخلية.

دلالات متعددة

إن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي لأنقرة تحمل في طياتها عددًا من الدلالات، خاصة وأنها تأتي في أعقاب فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز الأسبوعين من زيارة الفريق أول “عبد الفتاح البرهان” رئيس المجلس السيادي السوداني إلى أنقرة وبحث سبل التعاون، ولعل هذا يُفهم منه الرغبة التركية في جمع الطرفين لحل القضايا الخلافية والمبادرة بعرض الوساطة لحل النزاع الحدودي بين الجانبين.

وهذا الانخراط التركي لم يكن وليد اللحظة الراهنة بل سبقته إشارات إثيوبية متعددة ترغب من خلالها في تدخل تركيا على خط التوتر لتهدئة الأوضاع كان من أبرزها تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية “دينا مفتي” في فبراير 2021 برغبة إثيوبيا في وساطة تركية لحل هذا النزاع، وهو ما يُعزز من فرص التواجد التركي في تلك المنطقة من منطلق سعيها لترسيخ للسلام.

الأمر الآخر وثيق الصلة بالسابق؛ أن إسراع تركيا في عرض وساطتها بين السودان وإثيوبيا جاء ليحقق هدفًا استراتيجيًا آخر وهو مزاحمة أو قطع الطريق أمام أي مبادرات خليجية (إماراتية) في حل هذا النزاع، والتي أبدت للجانب السوداني تطلعها للعب دور الوساطة في هذا النزاع.

ولعل الأمر الآخر وثيق الصلة حالة التطور غير المسبوقة التي يشهدها النزاع في إقليم تيجراي والتمدد الذي حققته جبهة تحرير تيجراي في الكثير من المناطق المحيطة بـ”تيجراي” وما تبعها من حالة تعبئة عسكرية من جانب الحكومة الإثيوبية وإلغائها وقف إطلاق النار الذي أعلن في يونيو 2021 مع جبهة تحرير تيجراي. ولعل التوجه لأنقرة وتوقيع اتفاقيات للتعاون العسكري ربما يمتد لتعزيز ومعاونة الحكومة الإثيوبية في مواجهة “جبهة تحرير تيجراي”.

واتصالًا بالسابق؛ وفي ضوء المناكفة التي تنتهجها إثيوبيا في التعامل مع الجوار الإقليمي وعلى رأسها مصر خاصة في ضوء ملف “سد النهضة” هناك رغبة تركية في تحقيق اختراق في أعالي النيل الأزرق ضمن استراتيجيتها الرامية للضغط على مصر، ولعل توقيع اتفاقية التعاون في مجال التنمية المائية في ضوء مخرجات اللقاء الجامع بين “آبي أحمد” و” أردوغان” واحدة من بين مساعي تركيا للتغلغل في هذا الملف وتحقيق سيطرة به للضغط على القاهرة، واقتصار الانخراط على كل من السودان وإثيوبيا في إشارة واضحة لإلحاق ضرر جسيم بمصر ومصالحها المائية. 

علاوة على ذلك فإن الرغبة التركية في تأمين مصالحها في تلك المنطقة، خاصة وأنها تمتلك أكبر قاعدة عسكرية في الصومال اللصيق بإثيوبيا، إلى جانب مساعيها للعودة إلى إحياء اتفاقية إدارة جزيرة سواكن ووضع موطئ قدم لها على البحر الأحمر، دوافع جوهرية لتحرك “أنقرة” على صعيد ملف الأزمات الإثيوبية السودانية. 

أدوات التأثير وفرص حل التوتر الإثيوبي السوداني

لقد تمحورت زيارة “آبي أحمد” بصورة رئيسة حول قضية النزاع الحدودي مع السودان، وقد حظيت تلك المسألة باهتمام الجانبين، بل وأبدت “أنقرة” استعدادها لتقديم الحل السياسي بين الجانبين وعرض الوساطة، وهنا يمكن القول إن العلاقات التركية السودانية في مرحلة ما بعد البشير حدث بها تراجع كبير، خاصة بعدما جمدت “الخرطوم” اتفاقية جزيرة سواكن التي كانت قد اتفقت عليها “أنقرة” مع سودان البشير، وهو ما يبرهن على تراجع واضح وتخوف من الوجود التركي داخل السودان.

ولعل حجم التأثير التركي في العمق الإثيوبي يتبلور في حجم الاستثمارات المضخة في الاقتصاد الإثيوبي والبالغة نحو 2.5 مليار دولار، فضلًا عن حجم التبادل التجاري بين أديس أبابا وأنقرة والمتطلع الوصول لنحو مليار دولار. فضلًا عن التأثير الثقافي والذي برز بصورة كبيرة خلال تصريحات “أردوغان” والتي عبر فيها عن تسلم وزارة المعارف التركية لكافة المدارس التابعة لمنظمة فتح الله كولن، وهو ما يبرز خطورة التأثير والتغلغل التركي على الصعيد الثقافي داخل إثيوبيا، ويبرهن في ذات الوقت على قدرة تركيا في استمالة إثيوبيا في أي أطروحات لتهدئة مع السودان، في مقابل تقديم الدعم اللازم للجانب الإثيوبي في فرض سيطرتها على إقليم “تيجراي”.

بينما على الزاوية الأخرى؛ وكما أشرنا إليه أعلاه فإن علاقة الخرطوم بأنقرة لم تعد كما كانت عليها إبان حكم “البشير” التي كانت تستند بصورة رئيسية على البعد الأيديولوجي الرابط بينهما حينذاك، غير أنه ومن الملاحظ أن هناك تقاربًا سودانيًا تركيًا قائمًا بصورة أساسية على جانب المصلحة دون النظر للاعتبارات الأخرى، وهو ما تبرزه الزيارات المختلفة التي قام بها المسؤولون السودانيون مؤخرًا كما هو الحال بالنسبة للفريق “محمد حمدان دقلو”، ولعل حاجة السودان تكمن في تعزيز قدراتها الاقتصادية عبر ضخ مزيد من الاستثمارات التركية والتبادل التجاري والبالغ تقديره خلال عام 2020 نحو 480 مليون دولار ، وهو ما عكسته تواجد رجال الأعمال والمستثمرين خلال اللقاء الذي جمع “البرهان” بــ “أردوغان” خلال الزيارة الأخيرة، ومن ثٌم فإن هناك رغبة سودانية في دفع وتيرة التعاون الاقتصادي والتجاري مع تركيا مع ضمان عدم وجود أي تهديدات أمنية للسودان يكون مصدرها تركيا. 

ويكمن “تقارب الضرورة” بين السودان وتركيا في رغبة الأولى لتحييد “أنقرة” في موقفها تجاه أحداث التوتر مع الجانب الإثيوبي وتحديدًا في منطقة “الفشقة” وتجنب خوض مواجهة مستمرة في هذا الملف حال قيام تركيا بتقديم الدعم اللوجستي والعسكري لإثيوبيا.

ختامًا؛ تبقي مساعي تركية للوساطة في حل النزاع الحدودي بين كل من إثيوبيا والسودان مرهونة بشكل كبير على قدرتها في إقناع إثيوبيا بالالتزامات بالعلامات الدولية المتعلقة بالحدود، بما يُعزز من فرص السودان في بسط سيطرته على كامل أراضيه، ولكن الخطر الحقيقي هو التمدد التركي في القضايا الأخرى العالقة وعلى رأسها ملف سد النهضة فمن الواضح أن هناك محاولات من تركيا للاصطفاف بجانب إثيوبيا في تلك المسألة، وترغب في استمالة السودان لهذا المسار رغبةً في الضغط على القاهرة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى