
صلاح النصراوي يكتب: “طالبان” وأسئلة المستقبل
ترتبط الظاهرة الأفغانية المعاصرة بالعديد من القضايا والتطورات والأحداث التي جرت في عالمنا العربي خلال العقود الخمسة الماضية. ومثلما تفاعلت تلك الظاهرة منذ البدء وأنتجت فيما بعد الجهاد الأفغاني، والويلات التي جرها على المنطقة، فان عودة إمارة “طالبان” إلى كرسي الحكم في كابل ينبغي الا يمر مرور الكرام، بل أن تكون بمثابة الضوء الأحمر، انذارا لما يمكن أن تفرضه على المنطقة من تحديات في المستقبل.
لا ينبغي أن يكون أحد قد تفاجئ من انهيار النظام الأفغاني ودخول طالبان إلى كابل وسيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية هذا الأسبوع. فجميع التوقعات كانت تؤشر منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ نيته سحب القوات الأمريكية ثم توصله إلى اتفاق مع حركة طالبان بشأن ذلك في مايو العام الماضي أن هذا اليوم آت لاريب فيه. المفاجأة الوحيدة كانت الذهول الذي أبدته القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية من سرعة ذلك الانهيار الذي صنعوه بأيدهم وهم يشاهدونه على شاشات التلفزيون والذي ذكر العالم بهزيمة امريكا في فيتنام.
بدء العد العكسي لعودة طالبان أصبح أكثر جلاء بعد المفاوضات التي أجراها المبعوث الأمريكي زلماي خليلزاد مع الحركة والتي أنتجت اتفاقا يمهد للانسحاب ثم تلك المباحثات التي بدأها مع المكتب السياسي للحركة وفد يمثل حكومة كابل في الدوحة واخيراً بعد القرار الحاسم الذي اتخذه الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن في ابريل من هذا العام بإكمال الانسحاب قبل شهر سبتمبر القادم.
ليس مهما ما كان يصدر من تصريحات ومواقف علنية من قبل بايدن ومسؤولي ادارته والتطمينات الخادعة التي كانوا يبعثون بها للرأي العام الامريكي، بل فيما كان يجري خلف الكواليس الدبلوماسية وفي دهاليز أجهزة المخابرات الدولية والاقليمية والتي كانت تتسرب عن الخطط والتصورات والسيناريوهات التي يتم مناقشتها بالسر بشأن مستقبل افغانستان بعد السقوط المتوقع لحكومة أشرف غني.
لم تكن تلك استنتاجات نابعة مما يعرف عن خليلزاد، الدبلوماسي الأمريكي ذي الأصل الأفغاني البشتوني ولوبيات واشنطن التي ينتمي اليها، او الأجندات التي يتبناها، ولا عن مجمل التطورات الجيوسياسة في منطقتي غرب اسيا وأوراسيا والصراعات التي تدور حولها، بل لانها جاءت نتيجة التحليلات الموضوعية للوضع الأفغاني التي كانت تشير بوضوح إلى تآكل سلطة الحكومة وانهيارها في مناطق شاسعة من أفغانستان مقابل توسع طالبان وفرضها سلطاتها وممارساتها على أقاليم عديدة، وبالتالي إلى تغيير متسارع في موازين القوى بين الطرفين.
وإذا كانت عودة طالبان قد أثارت هواجس الأطراف الإقليمية والدولية من التبعات التي ستخلفها عليهم فانه من الأجدر ان تثير قلقنا ومخاوفنا من ان يؤدي ذلك إلى تغيير الكثير من قواعد اللعبة في منطقتنا التي تضم قلب العالمين العربي والإسلامي والتي تتعرض اليوم إلى الكثير من التحديات، وعلى رأسها الارهاب والتطرف، اللذان هما اصلاً من نتاج الجهاد الافغاني، واللذان سيجدان في عودة الحركة المتطرفة للمشهد قوة مثال وعنصر قوة كي يمدهما بتربة وبنسغ جديد للحياة.
أسئلة عن الماضي
وبالتالي فان النظر الى تطورات المشهد الافغاني خلال فترة العام المنصرم والتأويلات المتوفرة عن مجرياته تثير سؤالين مركزين، الاول هو هل كانت الدول العربية الرئيسية ومؤسساتها السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية والبحثية على دراية كافية بما يجري منذ اعلان ترامب عن نيته بسحب القوات، والثاني هو هل استعدت هذه الدول واجهزتها، مجتمعة، ام فرادى، لمواجهة النتائج المتوقعة عن عودة طالبان ورسمت سيناريوهات ووضعت خططا للتعامل مع ذلك؟
واذا كان المدخل المناسب للجواب على هاذين السؤالين هو تاريخ التجربة العربية في او مع افغانستان فان من المؤكد ان هذا التاريخ يمتلك تجربة غنية بالشواهد والاحداث والدلالات، على الاقل منذ الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1979 والذي شكل منعطفا في تاريخ المنطقة، كما زج بها عميقا في الصراعات الشرسة للحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي لم تكن ابداً في الحسبان.
كانت تلك هي البداية بعد ان انخرطت دول واجهزة وجماعات ومؤسسات دينية وهيئات اجتماعية ونقابات مهنية في العالم العربي في مشروع “الهلال الاسلامي” الذي روج له مستشار الامن القومي الامريكي أنذاك زبيغنيو بريجينسكي والحروب المقدسة التي اشعلتها المخابرات الامريكية كجزء من خطة محاصرة الاتحاد السوفيتي والقضاء النهائي عليه، مستغلة حماقة قادته في احتلال أفغانستان. الزمن التاريخي ذلك المثقل بوقائع الصحوات الاسلامية التي كانت تنطلق على وقع صيحات الجهاد، احدثت قطيعة مع مجرى تطور المنطقة العربية ودولها ومجتمعاتها، من جهة، واعادت صياغة مستقبلها من، جهة ثانية.
ما حصل بعد ذلك لم ينطو مع انتهاء الجهاد الافغاني، او مع سقوط الامبراطورية السوفيتية، بل ظل يعيش بين ظهرانينا ابتداء من عودة المجاهدين من افغانستان وبعشريات دموية هنا وهناك ومرورا بقاعدة اسامة بن لادن والجهاد العالمي وتفجيرات 11 سبتمبر وانتهاءً بتنظيم التوحيد والجهاد الذي اسسه ابو مصعب الزرقاوي في العراق، وليس انتهاءً بداعش ودولتها الاسلامية وتفرعاتها التي تناسلت وتشظت وعبرت الصحراء الافريقية حتى وصلت الى موزمبيق.
ليست القضية هنا العودة الى تاريخ معقد وشائك، رغم انه يبقى تجسيداً حيا لوقائع ترتبط بالذاكرة مثلما تخدم البرهان عليه والاستدلال به على ما ستلده تلك الوقائع من تداعيات. القضية هي الى اي مدى كانت تلك التجربة مفيدة في تكوين تراكم معرفي سياسي واستراتيجي وخبرة امنية واستخباراتية بهدف الاستعداد لهذا اليوم الذي كان يخشى فيه ان يعيد التاريخ نفسه وان تعيد عجلة الارهاب دورانها انطلاقا من المناطق الرخوة والتي اخفقت اكبر القوى الدولية من معالجتها والقضاء عليها.
كيف جرت مياه طالبان تحت جسور كثيرة
كانت الاستراتيجية الامريكية منذ اليوم لغزو افغانستان في اكتوبر 2001 قصيرة النظر لأنها اعتمدت على استخدام اسلحتها الفتاكة ضد بلد صغير ومتخلف ومفكك تحكمه مليشيا متهرئة بهدف انجاز نصر سريع وحاسم رداً على تفجيرات 11 سبتمبر. ولم يكن في وارد الادارات الامريكية المتعاقبة التي تولت السلطة خلال عشرين عاما القيام بعملية اعادة بناء الدولة في افغانستان على الرغم من نحو ترليون دولار تم انفاقها على القوات الامريكية وفي بناء الجيش الافغاني وتسليحه وفي دعم المؤسسات الحكومية وهيئات المجتمع المدني.
وعلى مدى عشرين عاما كانت النخب السياسية الافغانية المتحالفة من لوردات الحرب وزعماء القبائل قد انغمست تماما في الفساد المالي والسياسي واظهرت المزيد من سؤ الادارة وعدم الفاعلية مما شل فعالية الدولة واجهزتها العسكرية والامنية وحولها الى مرتع خصب للسرقة ونهب المال العام. كانت “وثائق افغانستان” التي كشفت عنها الواشنطن بوست عام 2019 قد رسمت صورة مفزعة عن اخفاقات تلك الحكومة والتي جرت تحت بصر وسمع الادارات السياسية والعسكرية الامريكية التي لم تعمل شيئا لإيقافها.
كانت اعداد القوات الافغانية بمختلف صنوفها قد بلغت في يناير 2021 حسب ارقام الحكومة نحو 307.000 فردا بلغت تكاليف ادامتهم، ومنها رواتبهم التي تدفع الولايات المتحدة الامريكية نسبة 75 بالمائة، نحو ستة مليارات دولار امريكي سنويا. غير ان اعداد الجنود لم تكن حقيقية، بل تمثل اسماء وهمية مقيدة في السجلات يتقاضى عنها اعضاء الطبقة السياسية المتنفذة الرواتب والتي كان يذهب جزء منها للمحاسيب والمقربين وهو أمر يتكرر في حسابات الاعاشة والتموين وفي ادارة العمليات اللوجستية للجيش.
على الجانب الأخر كانت طالبان التي انسحبت من المدن وتحصنت في المناطق الجبلية الوعرة قد امتصت الصدمة وبدأت سريعا في اعادة بناء هياكلها وتنظيم صفوفها في المناطق البعيدة عن المدن ثم بدأت بشن حرب عصابات منظمة وذات فاعلية تمكنت خلالها من السيطرة على اراض شاسعة وكسبت تأييد قطاعات واسعة من الافغان الذين تضرروا من الفساد المزمن للطغم الحاكمة.
وقبيل شن هجماتها الكاسحة بعد اتفاق الدوحة كانت التقارير الامريكية تشير الى احتفاظ الحركة بنحو 60.000 الى 70.000 مقاتل فاعل، اضافة الى دعم لا بأس به من الجماعات المحلية والقبلية، وخاصة في حاضنتها الاساسية مناطق البشتون الذين يكونون حوالي 42 بالمائة من سكان افغانستان، مقابل نحو ثمانية اقليات رئيسية يتوزع عدد سكانها على النسبة الباقية.
غير ان الاهم من كل ذلك كله كانت قدرة طالبان على التعبئة والتحشيد في الإطارين العقائدي والايديولوجي باعتبارها حركة ذات اصول وتوجهات دينية، من ناحية، وجذور قومية تتعلق بالانتماء البشتوني الذي يمتد عميقا في التربة الافغانية، من ناحية ثانية. اذ بينما كان العالم ينظر للحركة كمليشيا من المتزمتين الدينيين كانت طالبان تتكيف على ارضية الصراعات التاريخية بين المُستعمَرين ومستعمِريهم الاجانب، وخاصة على خلفية تلك الاسطورة الشهيرة عن كون افغانستان مقبرة للغزاة. لكن كأي حركة سياسية تسعى لتحقيق غايتها بوسائل اخرى كانت معظم جهود قادة طالبان تتمركز على ايجاد المصادر من اجل ممارسة النفوذ وتطوير القدرات.
ووفق مفهوم الاقتصاد السياسي هذا سعت الحركة الى ان تعمل على مسارين: الاول هو تعزيز مواردها من اجل بناء قوة قتالية مستدامة للجهاد ضد الامريكان المحتلين، بينما كانت تحاول عبر مسار ثان الى خلق ثقافة سياسية ذاتية داخل المجتمع الافغاني استخدمتها في تطوير نفسها اولا كظاهرة وكقوة سياسية وعقائدية تتعدى حجمها العددي بإمكانها دحر قوات الناتو، كما استخدمتها ثانيا للانفتاح على الاقليات الاخرى ومحاولة استيعابها في برنامجها للدولة التي ستديرها بعد خروج القوات الامريكية والاجنبية وسقوط حكومة غني.
وعلى الرغم من وجود بعض المعلومات التي تنشرها المواقع الموالية او القريبة من الحركة الا ان المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الاطر التنظيمية لطالبان تبقى شحيحة ولا تساعد على تكوين صورة متكاملة عن حركة يبدو ان فيها الكثير من اللامركزية في هياكلها ونشاطاتها. غير ان هذا لا يمنع من القول ان الحركة تبدو متماسكة تنظيميا على المستوى القيادي من الناحيتين العسكرية والسياسية. فعلى صعيد القيادة فان زعيمها، او رئيس مجلس الشورى الاعلى فيها، المولوي هيبة الله أخوند زاده وهو مجاهد سابق وعضو مؤسس للحركة، يتمتع بولاء الجماعة كما يحظى بنفوذ كبير داخلها، خاصة بعد ان نجح في توحيدها وقيادة زمامها منذ توليه المسؤولية عام 2016.
اما المكتب السياسي للحركة والذي يقوده الملا عبد الغني برادر فيبدو انه فاعل في ادارة الملف السياسي لها ومن بين ذلك قيادة المفاوضات مع الأميركيين التي أدت إلى انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان ثم محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية التي لم تسفر عن شيء.
كما ان من المتوقع ان يلعب برادر الذي عاد الى افغانستان بعد يوم من سقوط كابل دورا مهما في قيادة الحكومة القادمة، وخاصة في محاولة اضفاء طابع متسامح على سياسات الحركة الاجتماعية في محاولة الحصول على الاعتراف والدعم الدوليين. لا يعرف على وجه التحديد عدد اعضاء المكتب السياسي الذين ينقسمون بين افغانستان والباكستان وقطر لكن ما هو معروف عنهم ان اغلبيتهم ممن تخرج من المدارس الدينية التي فرخت كوادر الحركة كما ان عددا منهم حصل على شهادات عليا في الاختصاصات الشرعية والفقهية، وهو ما يثير تساؤلات عن خبراتهم السياسية والادارية التي ستمكنهم من ادارة الدولة.
أسئلة عن المستقبل
ازاء هذه الخلفية تطرح عودة طالبان للحكم عدة اسئلة اساسية على صانعي السياسة، وعلى الاجهزة التنفيذية وعلى النخب الفكرية والثقافية وعلى المجتمع بشكل عام في العالم العربي بشأن تقييم المرحلة القادمة على ضوء حقيقية جوهرية وهي ان البيئة السياسية والاجتماعية السائدة الأن في العالم العربي هي غير تلك البيئة التي كانت سائدة في ثمانينات القرن الماضي عند بدء المشكلة الافغانية، او في التسعينات التي وصلت فيها طالبان الى السلطة. وبتعبير آخر لا تتوفر اليوم الشروط التي خلقت ذلك التحالف الاقليمي مع الولايات المتحدة لمواجهة الغزو السوفيتي لافغانستان الذي هيأ ظروف نشأة الارهاب تحت مسمى الجهاد العالمي.
هذه البيئة شهدت خلال العشرين عاما الماضية حربا لا هوادة فيها على الارهاب والتطرف الذي اورثته تجربة الجهاد الافغاني كما شهد خلالها العقد الماضي انحسارا في المد الإسلاموي بمختلف تياراته كنتيجة لتداعيات الربيع العربي ومراجعات جذرية جرت في بلدان رئيسية كمصر والمملكة العربية السعودية في قضايا تجديد الخطاب الديني والمنهج الاصلاحي. هذه التحولات التي شهدتها المنطقة والخبرات التي اكتسبتها دولها ومجتمعاتها في مواجهة التطرف سيكون من الصعوبة اهدارها، او التضحية بها امام المخاطر والتحديات التي قد تثيرها تحول افغانستان الى ارض الجهاد من جديد.
لا يبدو عالم اليوم ايضا مثل عالم الحرب الباردة والصراعات الايدولوجية التي مهدت الطريق امام الحرب في افغانستان وتحولها الى مرتع للإرهاب. فالدول الكبرى جميعها اكتوت بنار الارهاب وشظاياه التي انطلقت من هناك ولا تزال تعاني منه ولن تكون على استعداد لكي ترى نظاما يرعى الارهاب ويصدره الى العالم من جديد. اما من النواحي الجيبولتيكية فأن المنطقة التي تقع فيها افغانستان هي الان بؤرة تتقاطع وتلتقي فيها مصالح اقتصادية دولية واقليمية كبرى سيكون من الصعب القبول بنظام، او وضع، يمكن ان يخل بها. فالصين مثلا، وضعت افغانستان على خارطة مشروعها العالمي “الحزام والطريق” وبالذات ضمن التفريعة المسماة “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني” او China-Pakistan Economic Corridor (CPEC) اضافة الى مشاريع اخرى عبر كازخستان وطاجكستان وتركمنستان واوزبكستان وقرغيزستان.
في الطرف المقابل، هناك بالطبع مخاوف من ان مناطق التصدع التي تعاني من ازمات ونزاعات وانهيارات في قوى الدولة في بعض انحاء العالم العربي والتي تحتوي في الوقت الحاضر على حواضن للإرهاب كسوريا والعراق واليمن وليبيا قد تصبح بؤر لتصدير واستيراد الارهاب مع افغانستان اذا ما شهد المستقبل وضعا مختلفا وانزلقت افغانستان الى سيناريو الفوضى تحت حكم طالبان وتمكنت التنظيمات الارهابية كداعش والقاعدة من استثمار الفوضى في اعادة تنظيم صفوفهما والانتشار من هناك شرقا وغربا. ففي الوقت الذي تتمتع فيه طالبان بعلاقات تاريخية مع القاعدة التي اعلن زعيمها ايمن الظواهري البيعة لأمير طالبان أخوند زاده فان علاقات الاخيرة مع داعش التي يحتفظ تنظيمه المسمى “ولاية خراسان” حسب مصادر المخابرات الامريكية بحوالي 1000 مقاتل في افغانستان اكثر تعقيدا لأسباب عقائدية وتنافس حركي. الأمر المؤكد ان التنظيمين الارهابين اللذين يمتلكان فروعا نشطة في المنطقة العربية سيجدان ارضية مشتركة مع طالبان كما سيجدان الفرصة لإعادة النظر بشأن تمددهما.
على هذا الطرف ايضا تقف جماعات الاسلام الحركي بمختلف صنوفها وتياراتها وافرادها والتي تقلص حجمها ودورها في ظل البيئة الجديدة موقف المنتشي بما اسرعوا بتسميته انتصار طالبان الاسلامية والهزيمة المهينة لأمريكا. هذه التيارات التي دخلت في العقد المنصرم سياقات ملتبسة واحتمالات مجهولة بشأن مستقبلها ربما بدأت ترى في عودة طالبان تحولا جديدا في مصائرها يعطيها جرعة الامل في العودة على النقيض من التوقعات الرائجة بنهاية دورها. ربما كانت حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) في طليعة من هنأ طالبان لدحرها الاحتلال الامريكي لكن حملات التطبيل الواسعة لإنجاز طالبان من قبل اصوات ممثلي الاسلام السياسي والحركي تظل مؤشرا على التطلعات التي لدى هذه الجماعات في عودة الروح للصحوة الاسلامية.
هذه التهديدات التي يواجهها السياق الجديد الذي شهد سقوط جماعات الاسلام السياسي الرئيسية في التجربة وتقويض مكاسبه التي حققها عبر عقود يتطلب الوعي بما حدث في افغانستان وفهم السياقات التي تعمل بها طالبان من خلال مقاربات متعددة الابعاد للجوانب الحركية والعقائدية وضمن الاطارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي استجدت في افغانستان خلال العقدين الماضيين. وفي الوقت الذي يتضح من خلال الحوارات الجارية، وبعضها على لسان الخواص او “الخبراء” وجود قصور معرفي بشأن طالبان فان هناك جهل مدهش على نطاق العوام يشكل بداية غير مبشرة في محاولة ادراك المخاطر والتحديات التي يشكلها صعود الحركة ووضع تصورات واقعية وتطوير استراتيجيات فعالة للتعامل معها.
ستكون هناك حاجة عاجلة للإجابة على الاسئلة التي تتعلق بطبيعة طالبان الجديدة في ظل المستجدات القائمة والمتوقعة بعد استلامها للحكم وهي اسئلة تتعلق بالجوانب الحركية وفي ما اذا كانت قد اجرت مراجعات على تكتيكاتها السابقة التي كانت قد ورثتها من حركات الجهاد ضد السوفييت مثلما يتطلب الامر اعادة تقييم للجانب الايديولوجي سواء كان الأمر متعلقا بالجوانب العقائدية المتصلة بتطبيق الشريعة، او فهمها لطبيعة الدولة، او قبولها بالتنوع والتعددية الدينية والمذهبية والثقافية وان كان ذلك سينعكس في تركيبة السلطة وفي ممارساتها.
يبقى ان الأمر المهم بالنسبة لمنطقتنا هو ما يرتبط بالدور الذي ستمارسه طالبان في المستقبل وبالذات في موضوعين اساسين، اولهما ان الحركة كانت ستطرح نفسها كنموذج لدولة اسلامية متشددة على العالم الاسلامي، والثاني ان كانت ستعود افغانستان تحت قيادتها الى قاعدة للحركات الارهابية المتواجدة فوق اراضيها، او تلك التي ستلجأ اليها مستقبلا.
الناطق الرسمي باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، أعلن من كابل ان الحركة ستقيم نظاما اسلاميا شاملا خاصا بأفغانستان وان على العالم ان يتفهم ذاك، كما اقر بوجود الحركات المتطرفة في افغانستان ووعد بعدم السماح لها باستخدام الاراضي الافغانية في عمليات خارجية.
هذان الامران سيبقيان على المخاوف والقلق من مستقبل افغانستان على المستوى العالمي وعلى مستوى منطقتنا بالدرجة الاولى. سيكون على العالم اذا ما اراد التعامل مع افغانستان الجديدة مراجعة الكثير من سياساته وحتى قوانينه وإجراءاته التي اتخذها منذ تفجيرات 11 سبتمبر 2001 ولحد الان. وفي الواقع ان العالم سيفيق قريبا على كوابيس الانسحاب الامريكي غير المدروس مثلما نام على خدر احتلال افغانستان قبل ذلك وسيجد نفسه في ورطة سياسية واخلاقية بعد ان يضطر لفتح ذراعيه لطالبان بعد كل ما فعله من اجل مواجهة التطرف والارهاب، بل ما مواجهة ما يدعيه بالخطر الاسلامي.
على مستوى منطقتنا سيكون هناك تحديات جمة وتهديدات تواجهها دول المنطقة ومجتمعاتها التي لاتزال تواجه مخاطر الارهاب والتطرف والغلو والمحاولات المستميتة من التيارات الإسلاموية لاستعادة مواقعها التي خسرتها خلال السنوات الاخيرة.
هذه التحديات ستأتي من قبل التنظيمات الارهابية المتواجدة في افغانستان وتلك التي ترتبط بها في المنطقة، او غيرها من عناصر كامنة او متعاطفة ستجد في الظروف الجديدة وتحت وقع خطابات التحشيد الديماجوجية المناخ المناسب للانشداد الى المشروع الجهادي مما يجعلها صيدا سهلا بيد تنظيمات الارهاب القديمة او التي ستستحدث. وبدلا من ان تتلاشى مخاطر الارهاب والتطرف ستضيع كل المكاسب المتحققة لحد الان وستنفتح ازمات جديدة تجرب دول المنطقة ومجتمعاتها ما جربته في تسعينات القرن الماضي وسنوات الجمر التي تلتها.
هذه وغيرها نواقيس خطر بدأت تقرع واسئلة ستواجهنا في المرحلة القادمة علينا ان نستعد لمواجهتها والاجابة عليها.