إيران

على نار هادئة.. اتساع رقعة “حرب السفن” بين إسرائيل وإيران

على قدر تَعقُّد المشد الميداني في إقليم الشرق الأوسط على مسارح المواجهة البرية؛ جاء المسرح البحري للإقليم ليشهد بزوغ مرحلة صراعية جديدة تنتقل به من حيز نمط “الكلاسيكية” في المواجهة، إلى نمط من الابتكار. تضافرت فيه أدوات الاستخبارات مع تطوير نوعي لقدرات البحرية غير المأهولة. وحلت كل من “إسرائيل وإيران” وهما قوتان تتنافسان على الاستئثار بالدولة المركز في الإقليم؛ في صدارة مشهد الصراع البحري داخل إقليم الشرق الأوسط في ثوبه الجديد المبتكر “الضرب الجراحي” للسفن دون إغراقها. 

سلسلة مفتوحة من الاستهدافات المتبادلة

ففي 25 فبراير الماضي، تعرضت سفينة الشحن الإسرائيلية “ام في هيليوس راي” لانفجار، وذلك أثناء إبحارها في منطقة شمال غرب خليج عُمان، إذ كانت في طريقها من ميناء الدمام في السعودية إلى سنغافورة. 

ووفق قناة “كان” الإسرائيلية الرسمية، تعود ملكية السفينة لرجل الأعمال الإسرائيلي رامي أونغار الذي يُعرف بقربه من مجتمع المخابرات الإسرائيلية، حيث أكد أن الانفجار أحدث “فجوتين بقطر نحو متر ونصف المتر”، وأنه “لم يتّضح بعد ما إذا نجَم “عن صاروخ أو ألغام ألصقت بالسفينة”.

واللافت أن الانفجار الذي طال السفينة الإسرائيلية لم يتسبب في مقتل أي من طاقهما، أو يحدث أضرار جسيمة، أو يتسبب في مواجهتها خطر الإغراق. فيما بدت وكأنها عملية رمزية وخاطفة تجيء ضمن سياقات المواجهة المفتوحة بين تل أبيب وطهران في مسرح ميداني يمتد من الغرب العراقي ليصل إلى هضبة الجولان وجنوب لبنان. 

فقد رجح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، أن تكون إيران وراء الانفجار الذي حدث ببدن السفينة الإسرائيلية المخصصة لنقل وتجارة السيارات. وتابع، أثناء حديثه لقناة “كان” التلفزيونية الرسمية في إسرائيل: “هذا تقدير أولي في ضوء القرب (من إيران) والمسار والسياق الذي وقع فيه الحادث”.

 في حين نفت طهران التقديرات الإسرائيلية بشدة. بالرغم من وجود مكثف لقطع بحرية إيرانية مدنية وعسكرية “المظللة بالأحمر“، بالقرب من السفينة الإسرائيلية المستهدفة “المظللة بالأزرق“. والتي رجح العديد من مصادر الاستخبارات المفتوحة كون تلك القطع الإيرانية كانت تراقب وربما شاركت في عملية تفجير أجزاء من بدن السفينة الإسرائيلية.

وفي مطلع مارس الجاري، اتهمت وزيرة البيئة الإسرائيلية غيلا غمليئيل طهران بالوقوف وراء -ما وصفتها- بأكبر كارثة بيئية إسرائيلية على الإطلاق، وتتمثل بتسرب نفطي لمئات الأطنان من القطران أمام سواحل إسرائيل على سواحل البحر المتوسط.

الاستجابة الإسرائيلية

لكن تقديرات جانتس الأولية لم تلبث إلى أن تحولت لتأكيدات بضلوع إيران في الهجوم على السفينة، فسرعان ما نفذت مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي غارات على دمشق، مساء الأحد في 28 فبراير الماضي، واضعة في بنك أهدافها نقاطًا للبني التحتية التابعة للحرس الثوري الإيراني في العاصمة السورية ومطارها الدولي. 

وعاد المشهد الصراعي بين النثائي تل أبيب وطهران، ليعلن عن استمرار مثول المسرح البحري ضمن تكتيكات المواجهة. ففي 10 من مارس الجاري قالت وسائل إعلام إيرانية إن سفينة تجارية إيرانية تعرضت “لهجوم إرهابي” في البحر المتوسط، بعد أن “اصطدمت بجسم متفجر”. والسفينة هي “إيران-شهركرد”، وهي من اسطول سفن الحاويات لشركة الشحن البحري الإيرانية، وكانت في مياه البحر المتوسط على بُعد 50 ميل من السواحل الإسرائيلية في طريقها من إيران لأوروبا.

استجابة مضادة إيرانية

في عضون أسبوعين من تعرض السفينة الإيرانية “شهركرد-إيران” لهجوم بجسم متفجر قبالة سواحل إسرائيل، تعرضت بالأمس سفينة شحن مملوكة لشركة إسرائيلية في بحر العرب بصاروخ يشتبه في أنه إيراني. فيما أفادت وكالة “رويترز” عن مسؤول أمني إسرائيلي، طلب عدم نشر اسمه، بأن السفينة كانت في طريقها من تنزانيا إلى الهند، وتمكنت من مواصلة الرحلة عقب الهجوم.

وأكدت القناة “12” الإسرائيلية، عبر موقعها الإلكتروني بأن السفينة مملوكة لشركة “إكس تي مانجمنت”، ومقرها ميناء حيفا، وتعرضت لأضرار جراء إصابتها بصاروخ إيراني.

محفزات الاستهداف الموسع وانتقال المواجهة من البر للبحر

يخوض الثنائي “تل أبيب – طهران” غمار حرب باردة، تحاول فيها الأولى تقويض المكاسب الاستراتيجية للثانية، ووضع دينامية علاقة النظام الإيراني بشبكته الإقليمية من الميليشيات المسلحة؛ قيد راقبة وسيطرة إسرائيلية استخباراتية وميدانية صارمة. تهدف هذه الرقابة بالأساس إلى منع إيران من الاستحواذ على موضع “الدولة المركز” في الإقليم ولاسيما بعد اتجاه الإدارة الأمريكية الحالية لإعادة العمل بالاتفاق النووي ما سيسمح لإيران بالتمدد وتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية. ويمكن عدّ محفزات الاستهداف وانتقال المواجهة من البر للبحر في الاتي: 

  • تعرض خطوط الإمداد البرية الإيرانية لسلة من المخاطر: حيث عكفت إيران طوال العقد الماضي على وصل جغرافياتها وطرق مواصلاتها البرية بثلاثة إحداثيات “العراق- سوريا- لبنان”، إذ باتت طهران تمتلك أصول عسكرية من البنى التحتية وعشرات الميليشيات المسلحة في المنطقة الممتدة من العراق وصولًا إلى لبنان. سوريا وحدها تنشط فيها أكثر من 70 ميليشيا إيرانية. فيما ركزت إيران جهودها على تعذية هذه الشبكة بمليارات الدولارات اللازمة لإعاشتها وتنفيذ قراراتها الاستراتيجية، فضلًا عن تطويق إسرائيل من جبهتها الشمالية والشرقية بما يشبه “حائط صواريخ” وبنية تحتية عسكرية تستخدم في تقديم الخدمات اللوجيستية وتأمين رأس الجسر الإيراني على البحر المتوسط. 

ما شغل سلاح الجو الإسرائيلي بصورة شبه يومية ووضع أمامه بنك أهداف تفوق على ما واجهه سلاح الجو الإسرائيلي منذ حرب أكتوبر وحرب لبنان 2006. إذ تعرضت كامل خطوط الإمداد البرية الإيرانية الممتدة من البوكمال في سوريا وصولًا لتخوم الجولان المحتل تحت ضربات المقاتلات الإسرائيلية، ما دفع إيران للتوجه للنقل البحري لكل ما يلزم إعاشة شبكة الميليشيات المسلحة التابعة لها وخاصة تلك العاملة في سوريا ولبنان.

  • ابتداع إيران لطرق جديدة في تهريب النفط والفكاك من العقوبات الأمريكية: بعد أن أعادت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب فرض العقوبات الاقتصادية على الحكومة الإيرانية وبدء تفعيل سياسة “الضغط الأقصي”، مع التهديد بمعاقبة البلدان التي تتعاون معها في شراء النفط الإيراني، بدأت الحكومة الإيرانية في تنفيذ مشروع جديد لنقل النفط الخام إلى مكان بعيد عن الخليج العربي، عبر بناء هيكل بحري تحت مسمى نظام “إس بي إم”. 

ويجري تركيب هذا الهيكل البحري خارج السواحل على مسافة تبلغ حوالي 6 كيلومترات عن ساحل ماكران على أن تبدأ المرحلة الأولي من المشروع قريبًا. وتعتبر محطة “جاسك” الإيرانية قيد الإنشاء حاليًا بواسطة شركة “فارس” للنفط والغاز الطبيعي، على مساحة تبلغ 60 هكتارًا من الأراضي، وباستثمارات تقدر بحوالي 260 مليون يورو. 

وسيتم تثبيت نظام “إس بي إم” على عمق 48 مترا تحت سطح البحر. ومن شأن خط الأنابيب البالغ طوله 1000 كيلومتر من بوشهر في إيران، الارتباط بمحطة “جاسك” ومنها إلى نظام «إس بي إم» عبر الأنابيب تحت المياه من أجل تحميل الناقلات بالنفط الإيراني الخام. ومن المتوقع أن تتحول محطة “جاسك” في وقت قريب إلى ثاني أكبر محطات تصدير النفط الإيراني.

الأمر الذي دفع إسرائيل لتكثيف استهدافها للناقلات الإيرانية في ثلاثة مسارح بحرية رئيسية “البحر المتوسط – خليج عدن – بحر العرب”، إذ نفذت إسرائيل منذ العام 2019 حوالي 12 هجوم على سفن إيرانية، فيما قالت مصادر أمريكية وإسرائيلية لصحيفة “الوول ستريت جورنال” إن عدد الاستهدافات الاسرائيلية للسفن الإيرانية في البحار تعدي 20 هجومًا. وتحرص إسرائيل على عدم إعلانها مسؤوليتها عن تلك الهجمات التي تنفذها وحدات من الكوماندوس البحري بجانب الألغام البحرية.

ختامًا، يقدم التنافس الإسرائيلي الإيراني أنماطًا جديدة لطرق الاستهداف، بدءًا من تنفيذ الاغتيالات وشن الهجمات السيبرانية لتخريب منشآت البني التحتية العسكرية والمدنية، فضلًا عن ابتكار أساليب استهداف السفن والناقلات من دون التسبب في إغراقها. بيد أن هذا التنافس المحموم والذي انتقل لتوه من البر للبحر قد ألقى بظلاله على أهمية خطوط المواصلات البحرية ومناطق اختناقها المرورية، ما يتطلب ضرورة المتابعة والمراقبة عن كثب وتباعًا مواكبة أنساق القوات البحرية للتعامل مع تلك التهديدات غير النمطية التي انتقلت لتوها من المسرح البري للمسرح البحري بسرعة لافتة. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى