
التوترات بين موسكو وبروكسل.. ما بين التصعيد والردع
منذ سنوات والعلاقات الروسية الأوروبية تشهد حالة من انعدام الثقة المتزايدة وخيبة الأمل العميقة؛ إذ لم تتوافر مساحة مشتركة بين الطرفين، ولم تحقق روسيا التوقعات بالتحول إلى دولة ديمقراطية حديثة كما كان يأمل الغرب. وتضررت العلاقات الاقتصادية الروسية مع أوروبا بشدة جراء العقوبات، والتأثير على شحنات الطاقة التي كانت لعقود من الزمان بمثابة العمود الفقري للعلاقة الاستراتيجية بين موسكو وأوروبا.
فضلاً عن قضايا متعددة أرقًّت العلاقات بين الجانبين بدءًا من الأزمة الأوكرانية وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، والحوادث الإلكترونية، والخِلافات الدائمة حول المسائل المُتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخيرًا قضية اعتقال المعارض الروسي البارز “أليكسي نافالني”.
أدى اعتقال نافالني، إلى خلق مزيد من التوترات في العلاقات بين روسيا والغرب، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى توجيه انتقادات صريحة للنظام الروسي، ومنتقدًا في ذات الوقت النهج القاسي الذي اتبعته أجهزة الأمن ضد المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع لدعم نافالني والمطالبة بإطلاق سراحه.
قضية نافالني تؤجج التوترات بين موسكو وبروكسل
نافالني الذي يُعد أحد أكبر منتقدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمثُل أمام المحكمة ليواجه تهم تشهير يصفها بأنها ذات دوافع سياسية، خاصة بعد الحُكم عليه بداية فبراير الجاري بالسجن ثلاث سنوات ونصف.
جدير بالذكر أنّ “نافالني”، كان قد تم تسميمه في منطقة “سيبيريا” الروسية في أغسطس 2020، وبعد أن ذهب إلى ألمانيا لتلقى العلاج، أظهرت نتائج الفحوصات التي أجريت له في مختبر عسكري ألماني وكذلك في مختبرات في فرنسا والسويد أنّه قد تعرض للتسمم بغاز “نوفيتشوك”Novichok-، وهو مادة سامة من غاز الأعصاب، يٌعتقد تورط المخابرات الروسية في الحادث. واتهم “نافالني” الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بمحاولة اغتياله.
على الرغم من نفي الكرملين تورطه في تسميم نافالني، إلا أن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على عدد من المسؤولين الروس؛ مُتهمًا إياهم بالضلوع في عملية التسميم، منها تجميد الأصول وحظر السفر، وذلك بعد أن رفضت موسكو فتح تحقيق في الحادث.
صفعة على وجه الاتحاد الأوروبي…”موسكو” تطرد دبلوماسيين أوروبيين
تزامنًا مع زيارة “جوزيب بوريل” – الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية- لروسيا يومي 4 و5 فبراير الجاري، أصدرت “موسكو” أمرًا بطرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين من روسيا، يحملون الجنسيات الألمانية والبولندية والسويدية، متهمةً إياهم بالمشاركة في الاحتجاجات الداعمة لنافالني.
بقيام موسكو بطرد الدبلوماسيين الغربيين، فإن الكرملين أراد محاولة إذلال بوريل وإرسال رسالة مفادها أنه ينبغي على الغرب البقاء بعيدًا عن الشؤون الداخلية الروسية، مُعتبرا أنّ الاحتجاج الغربي على حبس نافالني فعل غير مقبول ولا يتوافق مع الأعراف الدبلوماسية. وعليه تم اعتبار الدبلوماسيين الثلاثة “أشخاصًا غير مرغوب فيهم”. موقف الكرملين مثّل صفعة للدول الأوروبية التي طالب قادتها موسكو التراجع عن قرارها، معربين أن الخطوة الروسية ستؤدي إلى مزيد من تعميق الأزمة.
فشل محادثات بوريل-لافروف
ركزت محادثات بوريل – لافروف، في شِق منها على الصراع في أوكرانيا، والاتفاق النووي الإيراني، وتغير المناخ، والشرق الأوسط، والتعاون في مجالات مثل مكافحة الإرهاب. وأثمرت عن نتائج إيجابية لصالح الجانب الروسي؛ بموافقة الاتحاد الأوروبي على اعتماد لقاح “سبوتنيك V” المضاد لفيروس كورونا، عندما أعلن “بوريل” عن فعالية اللقاح الروسي الكبيرة؛ وآمل في أن تتمكن وكالة الأدوية الأوروبية من التصديق على هذا اللقاح لاستخدامه في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. في السياق ذاته رحب القادة الأوروبيين، باستخدام اللقاح حال اعتماده من قِبل “وكالة الأدوية الأوروبية”.
وفي المقابل، فشلت في تحقيق أي نجاحات ملموسة للجهود المبذولة لإطلاق سراح نافالني. ورغم أن بوريل لم يتطرق خلال الزيارة إلى الحديث عن أي عقوبات إضافية من قِبل الاتحاد الأوروبي ضد موسكو، لكنه أشار إلى اتسام علاقات موسكو وبروكسل، خلال السنوات الماضية، باختلافات جوهرية وانعدام الثقة، بالإضافة إلى النظرة المتبادلة كمنافسين أكثر من كونهما شريكين، الأمر الذي دعا وزير الخارجية الروسي إلى وصف الاتحادَ الأوروبي بأنه “شريك غير موثوق به”، ومُعلنًا في الوقت ذاته استعداد بلاده لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا فُرضت عقوبات جديدة على موسكو، وأعلن إنّ بلاده لا ترغب في العزلة، ولكنها مستعدة للرد إذا أضر إجراء الاتحاد الأوروبي باقتصادها.
تصريح لافروف كان يُقصد به على ما يبدو لفتة تهديد، فموسكو تأمل في تجنب عقوبات جديدة حيث من المقرر أن يجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في أواخر فبراير الجاري.
خيبة أمل أوروبية
في كلمة ألقاها “جوزيب بوريل”، يوم 9 فبراير، أمام البرلمان الأوروبي، تعقيبًا على زيارته إلى موسكو، تطرق إلى سرد عدد من الاستنتاجات من خلال الزيارة منها:
- أن الحكومة الروسية تسير في طريق سلطوي مُقلق.
- تعمل على تقليص مساحة الحرية الممنوحة للمجتمع المدني.
- استمرار غياب البدائل الديمقراطية، وهو ما اتضح في قمعها للمظاهرات الأخير المنددة باعتقال نافاني.
- هيكل القوة الحالي في روسيا والسيطرة العسكرية لا تترك مجالًا لسيادة القانون والديمقراطية.
- أي نقاش يتعلق بحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية مع الروس يرونه بمثابة تهديدًا وجوديًا له.
- روسيا تريد الانفصال عن أوروبا وتقسيم الغرب.
وطالب بوريل الاتحاد الأوروبي بأخذ موقف حازم في علاقاته مع روسيا، والتفكير في فرض عقوبات جديدة عقب الحكم بالسجن على نافالني، مٌعتبرًا أن الحوار السياسي مع روسيا وصل إلى “حالة ركود”.
وفيما يتعلق بالموقف الروسي من تصريحات “بوريل”، فالروس لا يرون أن هذه التصريحات تحمل تغييرات في المواقف الأوروبية، فعلاقات الطرفين منذ عقود تحمل الكثير من التباينات ووجهات النظر المُختلفة.
يرى الروس أن المحادثات بين روسيا والاتحاد الأوروبي ستستمر وأن رحلة بوريل إلى موسكو كانت علامة إيجابية على الاستعداد للانخراط، كما أن بلادهم معتادة على العيش في ظل العقوبات، وأن أوروبا ستكون مهتمة بالتعاون مع روسيا للتغلب على قضاياها الاقتصادية.
في سياق آخر، أدان العديد من أعضاء البرلمان الأوروبي زيارة “بوريل” إلى موسكو، مستندين أنها جاءت في وقت غير مناسب بسبب التدهور الممتد في العلاقات بين الجانبين، ومؤكدين أن الحكومة الروسية ليست مهتمة بعكس الاتجاه السلبي في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، طالما أن الاتحاد الأوروبي يواصل إثارة القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان وسيادة القانون.
اتجاهات مُحتملة
ثمة اتجاهات متعددة يُمكن أن تحكم مسار العلاقة بين موسكو وبروكسل، في ظل حالة التوتر القائمة، الأمر الذي يُمكن الوقوف على أبرز ملامحها فيما يلي:
أولاً: الاتجاه التصعيدي
يرى أن المواقف الراهنة قد تدفع الطرفين إلى مواجهات صدامية، إلا أن هذا الاتجاه محدد بعدد من القيود التي تمنع الوصول للمواجهة المباشرة من بينها: أولا) علاقات التعاون بين الطرفين، حيث تتعاون روسيا والاتحاد الأوروبي حيثما كان ذلك مفيدًا، فعلى الرغم من الأزمات السياسية؛ يسعى الطرفان لفصل الخلافات السياسية عن العلاقات الاقتصادية.
ثانيا) من غير المحتمل توقع حدوث صِدام بين روسيا والاتحاد الأوروبي، نتيجة افتقار الاتحاد الأوروبي لشخصيته الخاصة في التعامل مع القضايا الأمنية بسبب طبيعة المعادلة المعقدة والاستراتيجيات الأمريكية. ثالثًا) المصالح المشتركة بين الدول الغربية وروسيا في الكثير من القضايا؛ حيث تم تجميد توسيع حلف “الناتو” في كل من أوكرانيا وجورجيا، علاوةً على الموقف السلبي لكل من “واشنطن” و”بروكسل” بشأن التحركات الروسية خلال الأحداث الأخيرة في بيلاروسيا والحرب الأرمينية الأذرية، وتجاهل الغرب تعاظم النفوذ الجيوسياسي الروسي في ليبيا وإفريقيا الوسطى وصربيا. فضلًا عن استمرار الاستثمار الغربي في روسيا بصورة كبيرة، وكذلك الحوار المشترك بين الطرفين حول إيران.
رابعًا) ترى أوروبا أنه من الأهمية بمكان الحفاظ على مساحة للمشاركة الرسمية مع روسيا، فلا تزال روسيا الجار الأكبر، وبالتالي يجب تحديد طريقة تتجنب المواجهة الدائمة، مع ضمان الدعم للمجتمع المدني الروسي، حيث يرى العديد من الروس، أنهم جزء من أوروبا، ويرغب جزء كبير من السكان الروس في الحفاظ على روابط قوية مع الاتحاد الأوروبي ولديهم تطلعات ديمقراطية حقيقية، وبالتالي يجب على الاتحاد الأوروبي ألا يدير ظهره لهم، وإذا كانت الحكومة الروسية تعمل على فك الارتباط، والانفصال عن أوروبا، فلا ينبغي لأوروبا الانفصال عن المجتمع المدني الروسي.
ثانيًا: اتجاه الردع بالعقوبات
يرى هذا الاتجاه أن الأحداث الراهنة بين الطرفين قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ عدد من الإجراءات العِقابية ضد موسكو من بينها: أولاً) زيادة الدعم الأوروبي لنافالني؛ فطرد الدبلوماسيين الأوروبيين الثلاثة من شأنه زيادة دعم الاتحاد الأوروبي لنافالني.
ثانيًا) مزيد من العقوبات: فالخلاف بين الاتحاد الأوروبي وروسيا سيؤدي إلى تجميد العلاقات، وسيزيد فرص تحرك الأوروبيين نحو فرض مزيد من العقوبات، والتي قد تشمل فرض حظر سفر وتجميد أصول بعض المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة بعد أن أعطت فرنسا وألمانيا الضوء الأخضر. ثالثًا) وقف خط الغاز “نورد ستريم-2: على الرغم من توتر العلاقات مع الكرملين، تمضي ألمانيا قدمًا في مشروع خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2”. ولكن بعد حرب التصريحات الأخيرة، ربما ترتفع الدعوات الأوروبية لوقف خط انابيب الغاز، وتنسيق السياسات الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية لبلورة سياسة مُشتركة تجاه موسكو.
المصادر:
- Georgi Kantchev, “Russia Clamps Down on Protests for Jailed Opposition Leader Alexei Navalny”, (The Wall Street Journal, Jan. 24, 2021): https://cutt.us/XR1PI
- Grove, Ann M. Simmons and Thomas, “Russia to Expel Diplomats in Dispute over Alexei Navalny”, (the Wall Street Journal, 5 Feb. 2021): https://cutt.us/9BPU4
- “MEPs Criticise Visit of EU Foreign Policy Chief to Moscow”, (European Parliament, 09-02-2021): https://cutt.us/FYLlX
- Maria Kiselyova, Tom Balmforth, “Russia says it will cut ties with the EU if sanctioned over Navalny”, (Independent): https://cutt.us/jHNt
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية