أوروبا

هل تسعى أوروبا إلى تفكيك “فرنسا الماكرونية”؟

شكل انهيار الثنائية الحزبية في فرنسا في سنوات الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت في سبتمبر 2008 أزمة كبرى، ليس في فرنسا ولكن لدول الاتحاد الأوروبي وشبكات المصالح الدولية التي يهمها أن تظل أوروبا كيانًا سياسيًا موحدًا بشكل كونفيدرالي كما الحال مع الاتحاد الأوروبي.

ولقد حاول الحزبان الكبيران الصمود أمام الغضب الشعبي، إلا أن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية الديجولي (حزب التجمع الديجولي سابقًا) تحت قيادة الرئيس نيكولا ساركوزي قد تداعت شعبيته، وخسر ساركوزي انتخابات الرئاسة أمام زعيم الحزب الاشتراكي فرنسوا أولاند، وما لبث أن تفهّم الغرب في العام الأخير من رئاسة أولاند أن الحزب الاشتراكي قد انهار بدوره ويجب البحث عن حزب بديل عوضًا عن ذهاب الرئاسة إلى حزب الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان.

واستطاعت الدوائر الغربية أن تجد في شخص الوزير الشاب إيمانويل ماكرون المشروع الناجح للرئاسة الفرنسية، على ضوء طموحه الواضح داخل الحزب الاشتراكي، وآرائه التي تتوافق مع الأجندة النيوليبرالية للعولمة، حتى خُيل للغرب أنهم أمام الإصدار الثاني من جاستين ترودو رئيس وزراء كندا.

خاض ماكرون انتخابات الرئاسة عام 2017 بحزب تحت التأسيس، هو حزب الجمهورية إلى الأمام، وعقب فوزه بالرئاسة أمام المرشح الديجولي والاشتراكي والقومي، قام منشقون من الحزب الديجولي الذي أصبح اسمه حزب الجمهوريين بالإضافة إلى منشقين من الحزب الاشتراكي بالانضمام إلى حزب الجمهورية إلى الأمام، وهكذا استطاع ماكرون أن يشكل حكومته.

ولكن الدوائر الغربية تفاجأت بأن لـ”فتى النيوليبرالية الأول” في فرنسا توجهات وطنية مختلفة عما ظنوه، أدرك الرئيس الشاب ما أدركه الرؤساء شارل ديجول وجاك شيراك من قبله، أن فرنسا حتى تحافظ على بقايا إرث الإمبراطورية والقطب العالمي المؤثر يجب أن تعمل بشكل مستقل عن الاتحاد الأوروبي، خصوصًا على ضوء تضخم دور ألمانيا الفيدرالية عقب توحيدها وسقوط سور برلين وانهيار الكتلة الشرقية والاتحاد الأوروبي. تمامًا كما تفهمت بعض الدوائر البريطانية والشعب البريطاني الأمر ذاته، وإن كانت المعالجة البريطانية أكثر صرامة بالذهاب إلى الخروج الحاسم من الاتحاد الأوروبي، بينما الدوائر الأوروبية لم تكن لتسمح للرئيس ماكرون بالذهاب إلى الأمر ذاته، بغض النظر عن كونه يدعم هذا الاتجاه من عدمه.

ولكن ماكرون سن سياسة خاصة بفرنسا بعيدًا عن أوروبا وتأثير ألمانيا وسياسات أنجيلا ميركل، خصوصًا فيما يتعلق بالتعامل البرجماتي مع الأمر الواقع في الولايات المتحدة الأمريكية متمثلًا في صعود اليمين القومي وترؤس دونالد ترامب لأمريكا، فقد كان ماكرون هو أكثر رئيس أوروبي ينسق مع ترامب.

وبينما كان الغرب يتنفس الصعداء من التخلص من شبح تولي مارين لوبان رئاسة فرنسا، تفاجأ الغرب بسياسة ماكرون شديدة الشبه بالتيار الوطني أو اليمين القومي، يمكن أن تُعد “الماكرونية” هي يمين الوسط القومي، فالرجل لم يذهب إلى دروب مارين لوبان ووالدها ولكنه لم يمكث في الوسط النيوليبرالي او الليبرالي التقليدي كما ارادته أوروبا.

وتوافق ماكرون مع ترامب في الكثير من المعطيات، خصوصًا فكرة أن حلف الناتو أصبح فكرة قديمة وبحاجة إلى ثورة تصحيح، وهو ما أثار غضب أوروبا ودوائرها السياسية على حاكم الاليزيه.

وحينما اندلعت الاضطرابات الشعبية تحت مسمى انتفاضة السترات الصفراء، بعض أصابع الاتهام أشارت صراحة إلى الدوائر الأوروبية غير الراضية عن ماكرون والراغبة في استبداله، بينما اشارت أصابع أخرى إلى ترامب الذي كان على خلاف مكتوم مع ماكرون وقتذاك، بينما ذهب رأي ثالث إلى وجود مصالح مشتركة بين دوائر أوروبية والبيت الأبيض في تأديب الرئيس الفرنسي بهذه الانتفاضة الشعبية.

ولم يكن الابتعاد عن ترامب هو مطلب أوروبا الوحيد من ماكرون، ولكن شبكات المصالح الغربية كان لها لائحة مطالب، تتضمن عدم التصدي الحاسم لتوطين الإسلاميين واللاجئين في فرنسا، وعدم أخذ صف المحور المصري الإماراتي في ملف ليبيا والتقارب مع إيطاليا في هذا المضمار، بالإضافة إلى فك العلاقات الوثيقة بين مصر وفرنسا، أو على الأقل توظيفها للضغط على القاهرة في ملفات حقوق الانسان وفتح المجال السياسي المصري أمام الإسلاميين مرة أخرى، ولكن ماكرون رفض كل ما سبق واستمر في طريقه.

وعلى ضوء الاستعداد لانتخابات الرئاسة الفرنسية في ابريل 2022، فإن بورصة المرشحين قد اشتعلت، رفض فرنسوا فيون مرشح حزب الجمهوريين الديجولي الترشح بدعم أوروبي، علمًا بأنه ترشح لانتخابات الرئاسة عن الحزب في 2017 وخسر امام ماكرون.

وتجري بعض الدوائر الأوروبية اتصالات مع سيجولين رويال وزيرة الطاقة والبيئة السابقة والقيادية بالحزب الاشتراكي ومرشحة الحزب لانتخابات الرئاسة عام 2007 من أجل الترشح للرئاسة بدعم أوروبي على ضوء أنها من مدرسة أيدولوجيا الطريق الثالث كما الحال مع الأمريكي بيل كلنتون وآل جور والبريطاني توني بلير والألماني جيرهارد شرويدر والاسباني خوزيه مانويل زاباتيرو والبرازيلي ايناسيو لولا دي سيلفا، وهي مدرسة اليسار النيوليبرالي الحداثي.

ولكن على ضوء عجز الحزب الجمهوري الديجولي والاشتراكي الفرنسي عن تقديم منافس حقيقي لماكرون وقيام الأخير بالسيطرة على حزب الجمهورية إلى الأمام، استقرت الدوائر الأوروبية على تقديم دعم إلى ميشيل بارنييه Michel Barnier كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا خلال سنوات ترتيب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، أو كبير مفاوضي البريكست ما بين أكتوبر 2016 ويناير 2021 وهي المهمة الدبلوماسية التي انتهت بالفعل.

ويعد بارنييه هو كبير التيار الأوروبي في المطبخ السياسي الفرنسي، ولد في 9 يناير 1951 وأتم عامه السبعين منذ بضعة أيام، انضم للحزب الديجولي بمسمياته المختلفة، اختاره الرئيس فرنسوا ميتران وزيرًا للبيئة ما بين عامي 1993 و1995، واختاره الرئيس جاك شيراك وزير دولة للشؤون الأوروبية ما بين عامي 1995 و1997 ثم وزيرًا للخارجية ما بين عامي 2004 و2005، واختاره الرئيس نيكولا ساركوزي وزيرًا للزراعة والثروة المائية ما بين عامي 2007 و2009 قبل أن يتم اختياره مفوضًا للاتحاد الأوروبي للتجارة الخارجية ما بين عامي 2010 و2014.

وعقب انتهاء مهمته مع الاتحاد الأوروبي، حصل بارنييه على دفعة من الدوائر الغربية في أوروبا للعودة إلى باريس وضبط المشهد السياسي، فأعلن أنه عائد للسياسة الفرنسية وصرح بالقول انه “وطني واوروبي” في إشارة واضحة لبرنامجه السياسي المقبل.

حزب الجمهورية إلى الامام –حزب الرئيس ماكرون- حاول استمالة بارنييه ولكن الأخير أكد انه مستمر في حزب الجمهوريين الديجولي، ما سوف يسهل عليه الترشح عبر دوائر الحزب الديجولي للرئاسة عام 2022 على ضوء انهيار الحزب وعدم قدرته على تقديم مرشح رئاسي قوي.

صاغ ماكرون مشروعًا وطنيًا يطلق عليه بعض الدوائر الأوروبية “الماكرونية”، على ضوء دمج أفكاره ما بين اليمين القومي واليمين الديجولي إلى جانب بعض المبادئ النيوليبرالية، لينتج اليمين الماكروني الوطني، وفى خارطة سياسية معقدة، تشهد الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022 وفقاً للسيناريو الأوروبي منافسة ما بين ماكرون مرشح اليمين الماكروني وميشيل بارنييه مرشح يمين الوسط النيوليبرالي وإن كان مرشحاً على قوائم حزب اليمين الديجولي، بينما تظل مارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني هي مرشحة اليمين القومي، وفى انتظار مرشح اليسار الاشتراكي وإن كان الاشتراكيون قد خرجوا من اللعبة وأصبحت المنافسة الرئاسية 2022 ما بين اليمين الماكروني والديجولي والقومي فحسب.

وتأتي خطة دعم ميشيل بارنييه في انتخابات فرنسا 2022 في إطار سعي شبكات المصالح الغربية التي تدير الرأسمالية الدولية ومنظومة العولمة في القضاء على الحركات الوطنية القومية، مثل البريكست البريطانية والترامبية الامريكية والماكرونية الفرنسية، وتمشيط دول الاتحاد الأوروبي من كل ما هو مخالف للرؤى النيوليبرالية.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى