روسيا

قراءة في انسحاب روسيا من معاهدة “السماء المفتوحة”.. الأسباب والدلالات

أعلنت وزارة الخارجية الروسية في بيان نشرته أمس الجمعة 15 يناير الجاري، عبر موقعها الإلكتروني، أن موسكو تبدأ بالانسحاب من معاهدة السماء المفتوحة وأن انسحابها جاء بعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية، قد أعلنت انسحابها من ذات الاتفاقية بتاريخ 22 نوفمبر الماضي، باستخدام ما أطلقت عليه الخارجية الروسية بـ “ذرائع وهمية”، مؤكدة أن قرار انسحاب الولايات المتحدة قد تسبب في نسف توازن مصالح الدول الأطراف في الاتفاقية، وألحق ضررًا كبيرًا بفاعليتها وقوض دورها كآلية لتعزيز الأمن والثقة.

وذكرت الخارجية الروسية، أن موسكو من ناحيتها طرحت مقترحات جوهرية تتماشى مع البنود الأساسية للاتفاقية بهدف إنقاذها من الانهيار في الظروف الجديدة، لكنها للأسف لم تحظ بدعم حلفاء الولايات المتحدة. 

وتابع البيان: “في ظل غياب التقدم في إزالة العوائق التي تحول دون استمرار سريان الاتفاقية في الظروف الجديدة، فإنه قد تم تفويض وزارة الخارجية بالإعلان عن بدء الإجراءات الداخلية في سبيل انسحاب روسيا من اتفاقية السماء المفتوحة، ولدى استكمالها سيتم إبلاغ جهات الإيداع بذلك”.

تفاصيل معاهدة “السماء المفتوحة”… ما هي أسباب الخلاف؟

معاهدة السماء المفتوحة، هي اتفاقية تم إبرامها عام 1992. وتسمح الإتفاقية التي تضم أكثر من 30 دولة، بتحليق طائرات مراقبة غير مسلحة في أجواء الدول الأعضاء، بهدف تعزيز التفاهم المتبادل والثقة عن طريق منح جميع الأطراف دور مباشر في جمع المعلومات عن القوات العسكرية والأنشطة التي تهمها. وكانت الاتفاقية أصبحت هي ثالث اتفاقية دولية في مجال الرقابة على الأسلحة، ولكن انسحبت منها إدارة ترامب التي سبق وأن تركت الاتفاق النووي مع إيران عام 2018.

ويتركز الخلاف، في أن روسيا طالبت الدول أطراف المعاهدة، بالتزام شرطين؛ أولهما ألا يتم تقييد رحلات المراقبة الروسية فوق أراضيهم مما يُتيح لروسيا الفرصة لمراقبة الأهداف الأمريكية في أوروبا. وثانيهما، أن تقدم الدول الأعضاء، لموسكو ضمانات مكتوبة تُفيد بأن البيانات التي تم جمعها من تحليقهم فوق الأراضي الروسية لن يتم تقديمها وتمريرها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالطبع رفض الحلفاء الأوروبيون الامتثال للطلبات الروسية، والأسباب كانت تتلخص في أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تطلب منهم تقييد رحلات الطيران الروسية فوق المنشآت التابعة لها. والسبب الثاني، هو أنه يوجد هناك بالفعل بند في المعاهدة يقتضي حظر نقل البيانات إلى الدول غير الأعضاء، ولهذا السبب يعتقد الدول الأعضاء أنه ليس من الضروري أن يتم إعادة تأكيده.

ومن ناحية أخرى، يوجد هناك الرواية الأمريكية التي تُبرر الانسحاب. وفي هذا السياق، يذكر أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد أعلن نهاية مايو الماضي انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة. وسبب الانسحاب من الاتفاق، وفقًا لواشنطن، هو تكرار الخروقات الروسية.

وفي الوقت الذي نشرت فيه إدارة ترامب تبريرات رسمية على لسان وزير خارجيتها، مايك بومبيو، تداولت صحيفة واشنطن تايمز عشية إعلان ترامب لقرار الإنسحاب، إن الرئيس الأمريكي لم يُعجبه حقيقة أن طائرة روسية حلقت بالقرب من مسكنه الخاص ولهذا السبب قرر الانسحاب من المعاهدة. 

ومن ناحيته، كان مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي في عهد ترامب، قد فسر قرار الانسحاب بأنه تم بسبب عدد من الأسباب، من ضمنها؛ أن الرحلات الجوية الروسية يتم استخدامها لاستطلاع أهداف لهجمات روسية محتملة على البنية التحتية الأمريكية بأسلحة غير نووية.

كما أن روسيا رفضت السماح بتحليق رحلات مراقبة فوق ممر حدودي طوله 10 كيلو متر ما بين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ووفقًا لبومبيو، فإن موسكو تحاول بهذه الطريقة أن تعزز وجهة النظر القائلة بأن هذه الأراضي هي دول مستقلة. من ناحية أخرى، ترى واشنطن أن إصرار موسكو على عدم السماح بالتحليق فوقها يدلل على أن هذه الأراضي هي أراضي محتلة من قِبل روسيا.

هناك نقطة خلافية أخرى، وفقًا لواشنطن، وتلك تتلخص في أن موسكو أصرت على تخصيص عددً من المطارات للطائرات التابعة لدول المعاهدة، لأجل التوقف والتزود بالوقود بموجب المعاهدة. ولكن تم تخصيص عدد من المطارات الواقعة في شبه جزيرة القِرم، وتلك المنطقة تعتبرها الولايات المتحدة والغالبية العظمى من دول العالم أراضي تابعة للدولة الأوكرانية.

وبناء عليه، رأت واشنطن، أن هذه محاولة من موسكو من أجل إثبات تبعية شبه الجزيرة لروسيا، وهو ما لا توافق عليه الولايات المتحدة وتُصر على أنها لن توافق عليه أبدًا.

كما اعترضت واشنطن كذلك على القيود التي فرضتها موسكو على الرحلات الجوية فوق “كالينجراد”، وهي تُشكل “جيبا روسيا” يفصل ما بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لبومبيو، فإن كمية كبيرة من الأسلحة الروسية تتركز في هذه المنطقة، بما يشتمل على صواريخ نووية قصيرة المدى تستخدمها روسيا لأجل استهداف دول الناتو.

وكان وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، قد أعلن في نوفمبر 2020، إن بلاده مستعدة للبقاء طرفًا في المعاهدة، شريطة أن يلتزم الشركاء الآخرون بمتطلبات الوثيقة. ثم تابع الوزير واصفًا سلوك الزملاء الغربيين، “بأنه ليس دائما مهذبًا”، لكنه شدد أن روسيا سوف تكون مستعدة مرة أخرى لتوحيد التزامات الدول الغربية المتبقية في المعاهدة قانونيًا.

قرار الانسحاب الروسي.. ودلالات التوقيت

كان قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب، متهور ويتصف بدرجة كبيرة من الغموض. والدليل على ذلك، تعرض هذا القرار لهجوم كبير وانتقادات واسعة النطاق من الداخل الأمريكي نفسه، ولم يعترض على القرار الديموقراطيون فقط، ولكن الجمهوريون أيَضًا، أي أعضاء حزب الرئيس نفسه.

والأسباب وراء هذه الانتقادات كثيرة، يأتي على رأسها أن الولايات المتحدة الأمريكية ستفقد السيطرة تمامًا على متابعة الأنشطة العسكرية الروسية. ولهذا السبب بمجرد أن خرجت الولايات المتحدة بشكل رسمي من المعاهدة في أواخر نوفمبر الماضي، بدأ منتقدو ترامب بتوجيه دعاوى لإدارة بايدن يدعوه فيها الى معاودة الانضمام مرة أخرى إلى المعاهدة بمجرد توليه مهام منصبه.  

والأكثر من ذلك، أن جو بايدن نفسه، كان قد سبق وانتقد قرار الولايات المتحدة بالخروج من المعاهدة. فقد صرح في 22 مايو الماضي، إنه كان يدعهم هذه المعاهدة لأنها ساعدت بلاده كثيرا. وأوضح بايدن أن هذه المعاهدة لعبت دورًا كبيرًا، على وجه الخصوص في عام 2014، للسيطرة على تحركات القوات الروسية عندما تفاقمت الأزمة مع أوكرانيا.

إذا، نستنتج مما سبق أنه من الممكن أن تكون موسكو قد اتخذت بالفعل قرارًا بالخروج من المعاهدة منذ لحظة إعلان الولايات المتحدة اعتزامها الخروج منها. ولكن تعلن وتنفذ القرار الآن، لسببين، أولهما أن موسكو لم تكن ترغب في الظهور في مشهد الطرف الرافض للتعاون مع الغرب، لهذا السبب بقيت موسكو لفترة بعد الانسحاب الأمريكي قضتها في محاولة إظهار مدى حرصها على المضي قدمًا في المعاهدة رغم الخروج الأمريكي منها، ولكن بشروط روسية جديدة.

وثانيهما، أن الوقت الراهن هو التوقيت الذي يفصله أيام عن خروج ترامب الرسمي من منصبه كرئيس للولايات المتحدة، مما يعني أن خروج روسيا الآن يبعث إشارات إلى الإدارة الأمريكية. وهذه الإشارات لا تعني بالضرورة أن تقول موسكو للغرب أو للولايات المتحدة أنها ترغب في معاداته، ولكن من المرجح أن تكون موسكو ترغب في أن تقول للإدارة الأمريكية الجديدة، من خلال هذه الخطوة، أنها جاهزة للتعاون، ومستعدة للشراكة مع الغرب ولكن ليس بهذه السهولة وليس وفقًا لشروط الغرب.

والتأكيد على أنه في حالة كان لدى بايدن رغبة في إعادة تنسيق العلاقات الأمريكية مع موسكو، وإعادة الإنضمام إلى المعاهدة مرة أخرى في حضور موسكو، فإن روسيا في هذه الحالة ستكون مستعدة للإنضمام ولكن على أسس جديدة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى