
حل العقد الأخير على كل من تركيا وإيران بوصفه عقد الاستحقاقات التاريخية، والحقبة الذهبية لمشاريعهما التوسعية على وقع تداعي منظومة الأمن القومي العربي. حيث سادت العلاقات بين البلدين سياقات من التنسيق والتعاون الاقتصادي والأمني والاستخباراتي، وأحيانًا سياقات من الشراكة الاستراتيجية التي ظهرت أوضح صورها في القصف التركي الإيراني المشترك على مناطق بقضاء “حاجي عمران” التابعة لمحافظة أربيل شمال العراق، يونيو الماضي. حيث تعاون الطيران التركي مع مدفعية الحرس الثوري الإيراني ووجه ضربات مكثفة ضد أهداف تزعم أنقرة وطهران أنها تابعة لحزب العمال الكردستاني وفرعه في إيران.
كما قدمت أنقرة يد العون لطهران، للفكاك من عقوبات سياسة الضغط القصوى التي اتبعتها إدارة ترامب في التعامل مع إيران ودورها المزعزع للاستقرار في المنطقة. حيث أعلنت تركيا مرارًا بدءًا من العام 2018، أنها لن تلتزم بالعقوبات الأمريكية على إيران، ولاسيما فيما يختص بقطاعي النفط والغاز والشحن. كما وصل معدل التبادل التجاري بينهما في العام 2019 لـ 5.6 مليار دولار بالرغم من وصول برنامج العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران لمرحلة الذروة.
إلا أن سياقات الشراكة التعاون والتنسيق الأمني والاقتصادي بين الجارتين، لم يخفِ التناقضات التاريخية بينهما. فالدولتان إن كانتا تتشابهان كثيرًا في خلفية النظام السياسي الأيديولوجية القائمة على أدبيات الحاكمية الإسلامية؛ إلا أن الاختلافات المذهبية بينهما تعمق من ميراث العداء التاريخي للدولة العثمانية والصفوية وما بينهما من حروب طاحنة. بيد أن مؤشرات التناقض والعداء بين الثنائي سرعان ما أعلنت عن نفسها بوضوح من جملة التطورات الإقليمية الجارية، وتجلت فيما أثاره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أزمة دبلوماسية كبيرة مع إيران بعد إلقاءه قصيدة أثارت غضب المسؤولين في طهران، وذلك خلال حضوره فعاليات العرض العسكري لأذربيجان في 11 من الشهر الجاري.
وكان أردوغان قد ألقى خطابًا يوم الخميس في العاصمة الأذرية باكو خلال الاحتفال بمناسبة الانتصار العسكري الذي حققته أذربيجان على أرمينيا بعد ستة أسابيع من القتال حول إقليم قره باغ المتنازع عليه. وكان لافتًا حضور ومشاركة فيلق من القوات الخاصة التركية في الاستعراض العسكري، فضلاً عن اكتساء بعض المباني الحكومية الأذرية بالعلم التركي.
والقصيدة لشاعر إيراني من أصل أذربيجاني تتحدث عن تقسيم أرض أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن التاسع عشر. ويعتبر الشاعر من المنادين بفكرة توحيد أذربيجان الكبرى، في دولة واحدة، وضم الأذريين داخل إيران لهذه الدولة، حيث يشكل الأذريون 25% من إجمالي سكان إيران. ولهذا السبب تدعم إيران أرمينيا ضد أذربيجان الشيعية منذ أربعة عقود، وتخشى من تسلل النزعة الانفصالية للمواطنين من أصل أذري. وظهر ذلك في تحريك الحرس الثوري والجيش الإيراني لعدد من وحداته المدرعة والمدفعية لمحافظتي “أذربيجان الشرقية – أذربيجان الغربية” الحدوديتين المطلتين على أرمينيا وأذربيجان وتركيا.
وبدورها، استدعت الخارجية الإيرانية السفير التركي، 11 ديسمبر، للاحتجاج على ما قالت طهران إنها تصريحات تعد بمثابة تدخلًا في شؤون البلاد الداخلية، في إشارة للقصيدة التي رددها الرئيس التركي خلال زيارة لأذربيجان. وقالت وزارة الخارجية في بيان لها: “أبلغنا السفير التركي بأن حقبة المطالب المتعلقة بالأرض والإمبراطوريات التوسعية قد انقضت. لن تسمح إيران لأحد بالتدخل في وحدة أراضيها”.
لم تمض حوالي 24 ساعة على استدعاء إيران للسفير التركي للاحتجاج، حتى بدأت الشرطة التركية في إسطنبول حملة أمنية تستهدف شبكة تابعة للمخابرات الإيرانية حسبما أفادت قناة “تي آر تي”. وقالت القناة إن السلطات التركية ألقت القبض على 13 شخصًا يعملون لصالح المخابرات الإيرانية على خلفية اختطاف المعارض الإيراني “حبيب أسيود” من إسطنبول في أكتوبر الماضي.
كشفت قصة اختطاف “حبيب أسيود” عن تغول أجهزة الاستخبارات الإيرانية داخل تركيا، وصعود حرب باردة بين تشكيلات المافيا النشطة داخل البلدين والمرتبطة بأجهزة الأمن التركية والإيرانية.
من هو “حبيب أسيود”؟ وكيف توغلت الاستخبارات الإيرانية في تركيا؟
حبيب أسيود، من أبرز معارضي نظام الملالي في طهران، وكان الرئيس السابق لحركة النضال العربي لتحرير الأهواز. “أسيود” يقيم في السويد، ويحمل الجنسية السويدية. استدرجته عناصر الاستخبارات العسكرية للحرس الثوري للقدوم من السويد لإسطنبول، للقاء امرأة تُدعي “صابرين” والتي تبين لاحقًا أنها تعمل لدي الاستخبارات الإيرانية.
وقال مسؤول تركي كبير لصحيفة واشنطن بوست، 13 ديسمبر، إن عملية اختطاف الزعيم السابق لحركة النضال لتحرير الأهواز العربية، حبيب أسيود، تمت في إسطنبول وتم نقله لإيران بعد تخديره وتقييده، بمساعدة مهرب مخدرات معروف لدي السلطات في كلا البلدين.
وتحديدًا هاجم “أسيود” أعضاء فريق الاختطاف في محطة وقود في منطقة بيليك دوزو في إسطنبول، حيث مكان لقاؤه للمرأة المذكورة. ومن ثم جرى نقله مكتوف الأيدي عبر سيارة إلى محافظة وان شرقي تركيا ومن ثم تم تهريبه وإدخاله إيران.
وذكرت الصحيفة أن مهرب المخدرات الذي أدار عملية الاختطاف والترحيل بحق المعارض الإيراني “أسيود”، يُدعي شريف زيندشتي – من أصل إيراني – الذي يٌعتقد الآن أنه بات هو الآخر في إيران تحت حماية الاستخبارات الإيرانية.
وظهر “أسيود” في التلفزيون الإيراني بعد أيام من اختطافه، وهو يعترف ضد نفسه ورفاقه بالعمل لصالح أجهزة استخبارات أجنبية والقيام بعمليات عسكرية وتفجيرات، وكذلك عن تورط مزعوم له ولقادة الحركة التي ينتمي إليها في الهجوم المسلح على العرض العسكري السنوي الإيراني في 22 سبتمبر 2018 في مدينة الأهواز، والذي تبناه تنظيم ” داعش” في حينه واعترفت أجهزة النظام نفسه بذلك لاحقًا، وقالت إن خمسة مهاجمين قتلوا أثناء الهجوم.
وسمع الجمهور التركي اسم “زندشتي” لأول مرة في عام 2007 عندما ألقي القبض عليه في حي بووكسكمس في إسطنبول، وصادرت الشرطة 75.300 كيلو جرام من الهيرويين. حيث تعتبر تركيا هي نقطة انطلاق رئيسة في تهريب الهيرويين من أفغانستان عبر إيران إلى أوروبا. وأُطلق سراح زندشتي في ظروف غامضة في أغسطس عام 2010 وأصبح بعد عدة أشهر شاهدًا في محاكمات أرجينكون، تنظيم “الدولة العميقة”، وهي سلسلة من الاعتقالات والملاحقات القضائية ضد ما قال ممثلو الادعاء إنها مؤامرة لإسقاط الحكومة من قبل جماعة قومية علمانية مارقة تتألف من مئات الأشخاص داخل وسائل الإعلام والهيئات المدنية وقوات الأمن. ومنذ ذلك الوقت توطدت علاقات “زندشتي” بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وأصبح وسيطًا لإتمام الصفقات المشبوهة. كما اتهم الصحفي التركي المرموق فاتح التايلي، عضو حزب العدالة والتنمية البارز برهان كوزو بالارتباط بإطلاق سراح زندشتي. وبدأ تحقيق في أمر القاضي الذي أمر بتبرئة زندشتي. ووصف القاضي كوزو، دون ذكر اسمه، قائلاً إن السياسي ظل يضغط عليه باستمرار لإطلاق سراح زندشتي.
وبالرغم من تنامي العلاقات المشبوهة بين زندشتي ودوائر الاستخبارات بين تركيا وإيران، قُتِل أفراد من عائلته في إيران بسبب صلاتهم بحزب العمال الكردستاني.
وشبهت وسائل الإعلام عملية اختطاف إيران لـ “أسيود” بعملية اختطاف الصحافي الإيراني المعارض “روح الله زم”، حيث استدرجته الاستخبارات الإيرانية من فرنسا للعراق، ومن هناك اختطف ورُحِل على إيران حيث تم إعدامه يوم السبت الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن خطف المعارض الإيراني البارز “أسيود” هي ثالث عملية اختطاف لشخصية إيرانية معارضة بارزة في تركيا خلال سنوات. كما قُتِل إعلامي إيراني في اعتداء مسلح في إسطنبول العام 2017.
وكان الإعلامي الإيراني “سعيد كريميان” يستقل سيارة بصحبة شريكه، كويتي الجنسية، في منطقة مسلك في الجانب الأوروبي من المدينة التركية، عندما اعترضت سيارة رباعية الدفع طريقهما، وترجل المهاجمون من سيارتهم وفتحوا النار عليهما. وكان كريميان حكم عليه غيابيًا في طهران بالسجن لمدة 6 سنوات بتهمة “نشر دعاية مضادة ضد إيران.
تركيا والاستخبارات المضادة
في أكتوبر الماضي، عُثر على جثة تاجر أسلحة إيراني يُدعى فيروز سعيد أنصاري، مقتولاً في روما. ويعتبر فيروز أنصاري رجل طهران في إيطاليا. حيث ذكرت صحيفة “إندبندنت” البريطانية في تقرير لها، أكتوبر الماضي، أن السلطات الإيطالية تحقق في قضية مقتل أنصاري المرتبطة بنقل أسلحة قيمتها 300 مليون يورو إلى إيران.
سعيد فيروز سعيد أنصاري (68 عاما) هو نجل سفير إيران الأسبق لدى إيطاليا خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ويعمل سمسار أسلحة لحساب النظام الإيراني، ومتعهدًا بمده بالتقنية العسكرية الغربية.
وبدأت تركيا مؤخراً في وضع انتماءات أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية على طاولة الفحص والتحقيق، ولاسيما بعدما اكتشفت أنقرة ولاءات بين الجماعة لإيران، فمنعت الجنسية عن بعضهم.
يأتي هذا بالتزامن مع تحويل أموال جماعة الإخوان لإيران وعملائها، عوضًا عن استمرار وضعها في تركيا.
خاتمة، تشير المؤشرات الأخيرة للتوتر بين الجارتين تركيا وإيران، عن تناقضات المذهب والذاكرة التاريخية لكليهما، التي عبرت عنها بجلاء حرب المافيا وصراعات الاستخبارات بينهما، التي أضحت في طريقة عملها أقرب لشبكات الجريمة المنظمة منها إلى مؤسسات أمنية تقوم بهندسة المشهد الإعلامي الإقليمي لكلا البلدين بالترويج لأدبيات الحاكمية الإسلامية والأممية الإسلامية واحتكار الحق والقوة، والشرعنة الأخلاقية لمشاريع التوسع القائمة على دماء مئات الألوف من أبناء المنطقة العربية. إلا أن تلك المؤشرات لا تدفع بتصعيد أكبر من المستوى الدبلوماسي، كون الارتباط بين تركيا وإيران استراتيجيًا يحمل طموحات السيطرة الإقليمية للعاصمتين المتناقضتين.



