
د. نيڤين مسعد تكتب: ما وراء صراع الأدوار في تونس
استقالت حكومة إلياس الفخفاخ بعد أقل من خمسة شهور علي تشكيلها ، وبذلك فإنها تكون ثاني أقصر الحكومات التونسية عمراً منذ عام ٢٠١١ بعد حكومة محمد الغنوشي التي استمرت لأقل من شهر واحد . تعثرت ولادة حكومة الفخفاخ منذ البداية ، وذلك أن النهضة اضطرت لقبول الفخفاخ مرشح رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة بعد أن رفض البرلمان منح الثقة لمرشحها هي ، وإلا فإن البديل كان هو إقدام الرئيس علي حل البرلمان ، وفِي هذه الحالة لم تكن النهضة تضمن أن تحصل مجددا علي ٥٤ مقعداً في مجلس نواب الشعب . ومنذ لحظة التكليف هذه بدأنا نسمع الحديث عن تجاوز الرئيس صلاحياته الدستورية لأن الشخص الذي كلفه لا ينتمي للحزب الأول الفائز في الانتخابات أي النهضة ولا للحزب الثاني أي قلب تونس ، لكنه كلف شخصاً يشبهه بلا انتماء حزبي ولا ظهير سياسي ، وفي الحقيقة فإن هذا الادعاء فيه كثير من التلبيس لأن الدستور في الفصل ١٠٠ يعطي رئيس الجمهورية الحق في تكليف “الشخصية الأقدر ليتولى تكوين الحكومة “دون إشارة لضرورة أن تكون هذه الشخصية من الحزب الأول أو الحزب الثاني . وعندما ترأس قيس سعيد أول اجتماع لحكومة الفخفاخ تكرر اتهامه بتجاوز صلاحياته الدستورية ، وهذا أيضاً غير صحيح لأن الفصل ٩٣ من الدستور يسمح له بذلك إن هو أراد .وحين اجتمع سعيد بالمجلس الأعلى للجيوش وليس فيه الغنوشي قيل إنه ابتدع هذا المجلس ليتجنب دعوة مجلس الأمن القومي الذي يضم بالضرورة رئيس البرلمان . وكما تم انتقاد قيس سعيد صراحة وبالإسم بزعم أنه تجاوز صلاحياته ، انتقد هو أكثر من مرة رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لكن دون أن يسميه، وذلك أن الرئيس رجل قانون ولغته منضبطة تماما ً.ولذلك نجد مثلاً عندما هنأ الغنوشي رئيس حكومة طرابلس فايز السراج بعد السيطرة علي قاعدة الوطية العسكرية ، خرج سعيد ليقول إن الدولة التونسية واحدة ولها رئيس واحد في الداخل والخارج ، وكانت الرسالة واضحة . وعندما كلفت حركة النهضة الغنوشي بإجراء مشاورات لاختيار رئيس حكومة بديل للفخفاخ ، خرج سعيد ليقول إن الحكومة باقية طالما لم تثبت علي الفخفاخ تهمة استغلال النفوذ .
بهذا المعني يمكن القول فعلاً إن هناك صراعاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية علي الصلاحيات ، فراشد الغنوشي رئيس البرلمان يتمدد خارج مقعده وخارج حيزه الدستوري ، ورئيس الجمهورية متمسك بإعمال صلاحياته الدستورية كاملة وهو الأستاذ الجامعي المتخصص في هذا الفرع من القانون . وفي الصراع علي الصلاحيات كان رئيس الحكومة كبش فداء ، فمن الناحية الفعلية فإن معركة النهضة هي مع رئيس الجمهورية وليست مع رئيس الحكومة ، لكن لأن هذه الحكومة كما يسميها البعض هي حكومة الرئيس فإن الضرب في الفخفاخ كان يعني ضمناً الضرب في قيس سعيد . ولذلك راحت النهضة تناكف الفخفاخ تارة بمطالبته بتوسيع الحزام السياسي للحكومة وضم حزب قلب تونس، وتارة أخري بالتعنت في منحه صلاحيات استثنائية مع أزمة كورونا ، وأخيراً جاءت لها الفرصة عندها تردد أن الفخفاخ يملك أسهماً في شركة تعاملت مع الحكومة وتربحت منها ، وقبل أن تقول جهات التحقيق كلمتها بادرت النهضة بالإعلان عن اعتزامها سحب الثقة من الحكومة .تدخل قيس سعيد وأقنع الفخفاخ بالاستقالة حتي يكون له الحق كرئيس في تسمية من يتولي تشكيل الحكومة الجديدة .
لكن من جانب آخر فإن صراع الأدوار بين النهضة ورئاسة الجمهورية يخفي وراءه صراعاً آخر علي الموقف من القضية الليبية .النهضة تصطف بوضوح في المحور التركي القطري الميليشياوي الداعم لحكومة طرابلس ، والرئاسة تحاول تحقيق نوع من التوازن في موقفها من طرفّي الصراع سواء للحفاظ علي مصالح تونس مع كلٍ من تركيا وفرنسا (الداعمة للمشير خليفة حفتر) أو من باب الاتساق مع قناعات الرئيس التونسي كرئيس غير مسيس وبالتالي يعتبر أن الحياد هو الخيار الملائم . ونتيجة الهوة القائمة مابين مساعي الغنوشي للانحياز لفريق السراج وتمسك سعيد بالحياد قدر الإمكان بين السراج وحفتر تعددت الأزمات في علاقة الرجلين .وكانت الأزمة الأكبر التي انفجرت في وجه سعيد في أعقاب زيارته فرنسا وتصريحه من هناك بأن شرعية حكومة الوفاق شرعية مؤقتة ودعوته لشرعية دائمة منبثقة من إرادة الشعب مع قيام القبائل بكتابة دستور جديد . فيما يشبه التنسيق الأوركسترالي انطلق الهجوم علي الرئيس التونسي من طرابلس بالمطالبة بسحب السفير الليبي من تونس وترحيل السفير التونسي من ليبيا، ومن تركيا عبر قنوات الإخوان التي خرج منها أحدهم ليقول عن الرئيس “خدنا فيه مقلب كبير !!”، ومن تونس حيث دعا رئيس ائتلاف الكرامة (السلفي المتحالف مع النهضة ) لمحاسبة قيس سعيد الذي “مشي لفرنسا نهارين دمر لنا علاقاتنا بالجارة ليبيا وعمل لنا كوارث !!” أما راشد الغنوشي فرد قائلا “حكومة الوفاق هي الشرعية الوحيدة في ليبيا”. في كل هذه الضجة الغوغائية نلاحظ أن وصف قيس سعيد حكومة الوفاق بأنها مؤقتة وصف منضبط ، وذلك أن اتفاق الصخيرات منحها عاماً واحداً يتجدد مرة واحدة ، فإن لم يكن هذا هو المعني الحرفي للفظ “المؤقت ” فأي معني له ؟ وفي الحقيقة لو أراد الرئيس التونسي مزيداً من الضبط لكلامه لقال إن شرعية حكومة الوفاق انتهت منذ عام ٢٠١٧ .
سيذهب الفخفاح ويأتي رئيس جديد للحكومة ولن تُحَل المشكلة التونسية لأن المشكلة أصلًا ليست عند الفخفاخ بل عند الإخوان الذين ينظرون للدولة كجزء من مشروع عابر للحدود لا يعترف بالسيادة الوطنية ويؤسس للانتماء علي أساس الدين . قلبي مع تونس الحبيبة وثقتي في رئيسها ومجتمعها المدني وقواها الحية.
“نقلا عن صحيفة الأهرام”