
عودة الخلافة العثمانية بمرجعية أمريكية.. وصية “صامويل هنتنجتون” المنسية
تشكل فكرة “إحياء الخلافة العثمانية” ركن رئيس من خطاب التيار الإسلامي في تركيا، ومع بدء ما يعرف بالربيع العربي، وبدء المشروع الاستعماري التوسعي الإمبريالي التركي في سوريا والعراق وليبيا ومحاولات أنقرة الفاشلة للحصول على تأثير مماثل في مصر قبل ثورة 30 يونيو 2013 واليمن وتونس، أصبح التساؤل المشروع هو مدى موقف وفهم الولايات المتحدة الامريكية خاصة إدارة باراك أوباما لما يصدح به إعلام رجب طيب اردوجان طيلة الوقت عن الحق التاريخي لأنقرة في بعض الأقاليم العربية على ضوء تبعتها يوماً ما للدولة العثمانية.
والحاصل أن إدارة باراك أوباما لم تمانع يوماً في مخططات إردوغان ورفاقه في إعلان قيام الدولة العثمانية الثانية، وذلك ليس لأن أوباما متعاطف مع الإسلاميين أو مسلم سراً كما تدعي بعض الدوائر السياسية، ولكن لأسباب سياسية خالصة تتمثل في توصيات “صامويل هنتنجتون” صاحب نظرية صدام الحضارات بأن ترعى واشنطن قيام الدولة العثمانية الثانية، بشرط ان تكون تلك الدولة ذات أجندة ومرجعية أمريكية وتنفذ وترعى المصالح الغربية في الشرق الأوسط.
ما لا تعرفه عن صامويل هنتنجتون
للمفارقة فأن أكثر من سوق أراء هنتنجتون في الشرق الأوسط هم الإسلاميين، على اعتبار أن هنالك حرب أمريكية مقبلة على دين الإسلام، ولا يستبعد ان يكون هذا التسويق جزء من الخطة التي طرحها هنتنجتون.
ولكن من هو هنتنجتون حقاً، وماذا اقترح بعيداً عن الاجتزاء الذي قام به المثقف العربي بمرجعية إخوانية وقدمه للقارئ في الشرق الأوسط؟
صامويل هنتنجتون من أهم مفكري الحزب الديموقراطي الذي ينتمي إليه “جيمي كارتر وهيلاري كلنتون وباراك أوباما وجو بادين”، من مستشاري الرئيس كارتر الذي راعي في سنوات حكمه فكرة استخدم الإسلاميين لتركيع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وعمل هنتنجتون مستشاراً خاصاً لـ “هوبرت همفري” نائب الرئيس الأمريكي في زمن إدارة ليندون جونسون، الرئيس الذي أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل في حرب 5 يونيو 1967.
وفى عام 1973، قام “ديفيد روكفلر” بتأسيس ما يعرف بـ اللجنة الثلاثية، وهو بنك أفكار من أجل الحرب الثقافية، تضم اللجنة الثقافية عشرات المثقفين والأكاديميين والمفكرين والفنانين وكل من يمتلك القدرة على تقديم فكرة مفيدة للحروب الثقافية واستراتيجيات الإبادة الثقافية وحروب الوعي، وسميت باللجنة الثلاثية لأنها تضم جنسيات القارة الأمريكية والأوروبية والطرف الثالث هو اليابان.
و”آل روكفلر” من أهم الأسر الرأسمالية في التاريخ الحديث، والتي تعتبر جزء من شبكات المصالح الغربية التي تدير المشهد العالمي وتصدر التوصيات والاستراتيجيات التي تنفذها الحكومات الغربية.
صناعة مصطلح الحكم العسكري
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن مصطلح الحكم العسكري موجود في العلوم السياسية، إذ منذ فجر التاريخ وحتى نهاية أربعينات القرن العشرين، كانت نظم الحكم ما بين ديني أو مدني، وكانت المؤسسة العسكرية باعتبارها مؤسسة غير دينية فهي مؤسسة مدنية من ضمن مؤسسات الدولة المدنية.
ولكن مع بدء الحرب الباردة، جمعت المخابرات الامريكية عدداً من المنظرين والمثقفين من اجل إيجاد أفكار ومصطلحات صالحة للحرب الثقافية وخلخلة الوعي في دول الكتلة الشرقية، وعلى ضوء حقيقة أن اغلب تلك الدول كان يحكمها رجال من الجيش، تم ابتكار مصطلح “الحكم العسكري” وأدبيات الثورة على الحكم العسكري من أجل خلخلة دول الكتلة الشرقية.
يعتبر هنتنجتون من أهم المثقفين والمفكرين في الغرب الذين شاركوا في صنع مصطلح “الحكم العسكري” سواء عبر كتبه ومحاضراته أو عبر مشاركاته في اللجنة الثلاثية.
عمل هنتنجتون مستشاراً لبعض الحكومات الديكتاتورية الموالية لواشنطن في أمريكا اللاتينية إضافة الى حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو صاحب نظرية “الموجة الثالثة لنشر الديموقراطية” وكيفية “توظيف الديموقراطية في نشر الفوضى” التي تفرز نتائج متوافقة مع الاجندة الامريكية وهو ما أسمته كونداليزا رايس اختصاراً بـ “الفوضى الخلاقة”.
وهنتنجتون من أبرز منظري فكرة تخفيف سيطرة الحكومات الوطنية على الحدود وإلغاء الولاء الوطني لصالح أدوات العولمة والسوق المفتوح والاقتصاد الحر.
لماذا صدام الحضارات؟
وفى إطار إيجاد مبرر لقيام شبكات المصالح الغربية في محاربة الأخطار المستقبلية القادمة من روسيا والصين والشرق الأوسط، وفى إطار استكمال الحرب الباردة في مرحلة ما بعد إنهيار سور برلين وتفكيك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وحلف وارسو، تأتي فكرة صدام الحضارات من أجل “التنظير” لحتمية تركيع باقي المنافسون أمام شبكات المصالح الغربية أو ما نعرفه سياسياً وإعلامياً بالغرب أو الكتلة الغربية.
أوصى هنتنجتون بتحويل الصراع من سياسي واقتصادي ودولة وطنية قومية إلى صراع ديني وثقافي، حيث يسهل خلط الأوراق وحشد الشعوب وتأليب المجتمعات المستهدفة، وفى إطار حرب الحضارات، يجب تنصيب دولة مركزية على رأس كل حضارة حتى يسهل الاستهداف الثقافي والحضاري والفكري تمهيداً للحروب الباردة أو حتى التقليدية.
يقول صمويل هنتنجتون في كتابه الشهير “صدام الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي”، إن كل حضارة أو ثقافة أو ديانة كبرى تمتلك دولة مركزية رئيسية، مثل الصين على مستوى الحضارة الكونفشيوسية الآسيوية الممتدة في تايوان والكوريتين وفيتنام، وروسيا على مستوى الحضارة الأرثوذكسية الممتدة في أوكرانيا وبيلاروسيا واليونان وبلغاريا وصربيا وقبرص، كما تمتلك الحضارة المسيحية الغربية البروتستانتية-الكاثوليكية زعامة بثقل الولايات المتحدة الأميركية، في المقابل يفتقد العالم الإسلامي إلى دولة المركز لإشعال صراع الحضارات والأديان بدلاً من صراع الأوطان.
وأوصى هنتنجتون نصاً أن تكون تركيا بالإرث العثماني هي الدولة القادرة على حساب ست دول منها مصر وإيران والسعودية وإندونيسيا وباكستان.
عكس روسيا الارثوذكسية والصين الكونفشيوسية، فإن تركيا الإسلامية سوف تنفذ مرجعية أمريكية غربية خالصة، أي أن الخلافة العثمانية سوف تكون في خدمة الولايات المتحدة الانجيلية او أمريكا الانجلوكاثوليكية، شريطة – كما كتب هنتنجتون – تركيا أن تتخلى عن “دورها المحبط والمهين كمتسوّل يستجدي عضوية نادي الغرب”، يطرح هنتنجتون شرطين رئيسيين حتى تستطيع تركيا أن تفعل ذلك، الأول هو أن تتخلى عن تراث أتاتورك على نحو أشمل مما تخلّت به روسيا عن ميراث لينين، والثاني هو أن تجد حاكماً يجمع بين الدين والشرعية السياسية، وكأن هنتنجتون يكتب في تسعينات القرن العشرين ورقة بعنوان “كيف تصنع رجب طيب إردوغان”!
تتريك العالم الإسلامي بمرجعية أمريكية
يتضح من حديث هنتنجتون أن الغرب لا يعيش في حالة رعب من ظهور الخلافة الإسلامية أو صعود تيار العثمانيين الجدد في تركيا كما يدعي الإعلام التركي، بل أن هذا الصعود هو من صميم الأجندة الأمريكية للشرق الأوسط.
ولكن للمفارقة فإن “تتريك العالم الاسلامي” في إطار “صدام الحضارات” لم يكن فكرة هنتنجتون، فالمستشرق “برنارد لويس” صاحب خريطة تقسيم المقسم في الشرق الأوسط هو أول من استخدم مصطلح صدام أو صراع الحضارات عام 1957
وليس هذا فحسب، بل أن لويس هو أول من نادي بــ “تتريك العالم الإسلامي” وتوثيق العلاقات مع تركيا كحائط صد أمام الاتحاد السوفيتي أو النهضة الروسية الجديدة عقب انتهاء الحرب الباردة، وفى مقابل تلك الحرب الثقافية على الثقافة الإسلامية فإن لويس سعى الى “تهويد الغرب” وجعل الثقافة اليهودية هي المرجع الرئيسي لثقافة وسياسات الغرب.
تعج المكتبة العربية والمحتوي العربي عبر الإنترنت بالحديث عن خرائط برنارد لويس الأستاذ الأول لهنتنجتون، حيث ناقش الكونجرس تلك الخرائط عام 1983، ولكن ما لا يذكره هذا المحتوي العربي هو أن أكثر من كرم لويس في الشرق الأوسط هما “تركيا وإسرائيل”، حيث كان لويس مولعاً بتاريخ تركيا والدولة العثمانية، وكتب ثلاثة كتب عنها، وكرمته الجامعات التركية والإسرائيلية مراراً.
إن أغلب خرائط الربيع العربي والغزو الأمريكي على العراق هي خرائط برنارد لويس صاحب فكرة تتريك العالم الإسلامي والذي أوحي لهنتنجتون بفكرة صدام الحضارات وعودة الخلافة التركية بمرجعية أمريكية.
نص لويس على تقسيم العراق إلى شمال كردي سني ووسط عربي سني وجنوب شيعي، أليس هذا ما طبقه بوش الابن في عراق ما بعد صدام عام 2003؟
دعا لويس إلى دولة كردستان الكبير بين الأقاليم التي يقطنها الكرد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، أليست تلك الأفكار التي رددها الانفصاليين الكرد السوريين والأتراك حينما صنع الغرب لهم جمهورية “روج آفا” شمال شرق سوريا عام 2016 أثناء الربيع العربي؟
نص لويس على تقسيم السودان إلى شمال مسلم وجنوب مسيحي ودولة للنوبة، ألم يستقل جنوب السودان عام 2011 وفقاً لهذا التقسيم؟
طالب لويس بدولة لأقباط إثيوبيا، ودولة قبطية ثانية في جنوب مصر مع تقليص مساحة مصر إلى شمال مسلم وتهجير المسيحيين إلى الصعيد حيث دولة الأقباط المقترحة، وضم النوبة المصرية إلى النوبة السودانية في دولة واحدة، وضم الصحراء الغربية المصرية إلى دولة البربر من سيوة إلى المغرب، وفى شمال إفريقيا يتم إنتاج دولة في دارفور السودان، ودولة لـ البوليساريو، مع خصم كل ما سبق من مساحات ليبيا والمغرب وتونس والجزائر.
ويلاحظ أن صوت الأمازيغ/البربر سياسياً أصبح يصدح في شمال افريقيا في سنوات الربيع العربي، مع مطالب سياسية وغير سياسية ليس لها أصول تاريخية تذكر!.
وقبل الحرب السورية بثلاثون عاماً، طالب لويس بتقسم سوريا إلى جمهورية دمشق السنية وجمهورية حلب السنية، والجولان الدرزية ودولة الساحل السوري للشيعة الشوام، وللمفارقة فإن سوريا قسمت لبعض الوقت أثناء الحرب إلى هذه الخريطة بالفعل قبل التدخل الروسي في سوريا أواخر عام 2015.
من تفكيك القضية الفلسطينية واعتبار الأردن هي فلسطين، الصيحة التي رددها “أرييل شارون” رئيس الوزراء الإسرائيلي أوائل القرن الحادي والعشرين إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية وصولاً إلى سلخ “بلوشستان” من باكستان ثم تصويت الكونجرس الأمريكي بعد ثلاثة عقود وفى زمن باراك أوباما على حق هذا الإقليم في طلب تصويت لتقرير المصير ما بين البقاء في باكستان أو الاستقلال، تبدو خرائط برنارد لويس هي الملهم الأول للحرب العالمية ضد الإرهاب ثم حروب الربيع العربي، وهى المهم الأول قبل ذلك لكتابات صامويل هنتنجتون عن حروب الحضارات.
من صدام الحضارات إلى من أنا؟
وللمفارقة فإن صاحب النظريات والتوصيات بإعادة هيكلة التاريخ والجغرافيا والمجتمعات، قد تفاجأ في سنوات حياته الأخيرة بأن السحر قد انقلب على الساحر، وأن العولمة والدولة النيوليبرالية قد دهست الخصوصية الأمريكية تحت أقدامها، فأصدر في مايو 2004 كتابه “من نحن.. التحديات التي تواجه الهوية الوطنية الامريكية” Who Are We? The Challenges to America’s National Identity عن التحديات التي تواجه الثقافة والقومية الأمريكية، وأن المهاجريين المسلمين واللاتينيين (المسمى النخباوي لكاثوليك القارة الأمريكية) سوف تؤدى إلى تقسيم الولايات المتحدة إلى ثقافتين ولغتين وشعبين، ودعا إلى حتمية اعتناق المهاجرين إلى الأديان البروتستانتية – نصاً من كتابه – واللغة الإنجليزية دون لغة أخري.
اعترض هنتنجتون على فكرة أن أمريكا “أمة من المهاجرين”، مشيراً إلى أن مؤسسي الولايات المتحدة لم يكونوا مهاجرين بل مستوطنين والفارق ضخم، وأن تأسيس الولايات المتحدة جري على يد المستوطنين في المستعمرات البريطانية البروتستانتية وأن المجتمعات الأخرى حينما انضمت إلى الولايات الـ 13 المؤسسة للدولة الأمريكية جاهدت للانضمام إلى ثقافة المستعمرات البريطانية الأصلية.
ويسأل هنتنجتون:” هل ستكون أمريكا هي أمريكا كما هي اليوم إذا لم يتم تسويتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر ليس من قبل البروتستانت البريطانيين ولكن من قبل الكاثوليك الفرنسيين أو الإسبان أو البرتغاليين؟ الجواب لا. لن تكون أمريكا. ستكون كيبيك أو المكسيك أو البرازيل”.
وأضاف “إن العقيدة الأمريكية هي الإبداع الفريد لثقافة البروتستانتية”، مشيراً إلى أن أمريكا قامت على التراث الإنجليزي ونتائج عصر الإصلاح الديني البروتستانتي، وأن خروج الولايات المتحدة الأمريكية عن ثقافة “الأنجلوساكسون البروتستانت الإنجيليين” يعني خسارة الهوية الوطنية الأمريكية.
هكذا فأن من دعا إلى الحدود المفتوحة وإلغاء القوميات والدولة الوطنية، ما أن طالت تلك القيم بلاده حتى طالب بأن تشتعل جذوة الشعور الوطني وإعلاء قيم الدولة القومية على دولة النيوليبرالية ذات السوق المفتوح والاقتصاد الحر وتعدد القوميات إلى آخر قاموس الصوابية السياسية.
العثمانيين الجدد.. الجهاد من أجل البيت الأبيض
يتضح من أفكار صامويل هنتنجتون وبرناد لويس أن “العثمانيين الجدد” مكلفين من النظام العالمي بأحياء الخلافة العثمانية وفقاً لأجندة أمريكية، وبالتالي فإن محاولات بعض الدول العربية للتعويل على انشقاقات داخل التيار الإسلامي التركي على يد “عبد الله جول” أو “أحمد داود أوغلوا” أو غيرهم هو تعويل في غير مكانه، لأن التيار الإسلامي التركي المسمى اليوم بـ العثمانيين الجدد بكامل رجالاته وليس رجب طيب إردوغان فحسب ينفذ مهمة أمريكية خالصة لتتريك الإسلام والذهاب به إلى حروب لا تنتهي بوجه أعداء الغرب في روسيا والصين وما يستجد من أقطاب دولية منافسة للقطب الغربي، وتغذية الخلاف الديني والثقافي بين شعوب الشرق وحضارات الغرب.
باحث سياسي