
جائحة كورونا … نقطة فاصلة في العلاقات الأمريكية الصينية
في مقاله بمجلة “ناشيونال إنترست”، تناول رجل الاستخبارات السابق بول هيرن، ملف واقع ومستقبل العلاقات الأمريكية – الصينية، على خلفية تداعيات تفشي جائحة كورونا، وما صاحبه من تراشق سياسي بين الجانبين، سبقه تراشق اقتصادي متزايد خلال السنوات الماضية.
يرى هيرن أنه وأن كان الوقت مازال مبكراً لتحديد آثار تفشي هذه الجائحة على العلاقات بين الجانبين، إلا أنها تمثل فرصة كبيرة، من الممكن استغلالها لتطبيع العلاقات بين البلدين، وتوحيد جهودهما لمكافحة هذه الجائحة، وهو ما يفتح مستقبلاً آفاقاً أوسع للتعاون الثنائي بينهما في كافة الملفات الدولية.
المؤشرات الحالية تشير إلى ان العلاقة بين بكين وواشنطن تتجه إلى التدهور المتزايد، ما بين اتهامات متبادلة بينهما، في جانب منها تتهم بكين الولايات المتحدة، بمحاولة ابتزازها سياسياً، وفي جانب آخر تُحمل واشنطن فيه بكين، المسؤولية عن تفشي هذه الجائحة في كافة أقطار العالم. لكن حسب ما يرى الكاتب، فإن الفرصة مازالت موجودة أمام الجانبين لتجاوز هذا الخلاف، وتأسيس علاقة استراتيجية ممتدة.
تموضع الجانبين عشية اندلاع الكارثة

قبيل بدء تفشي جائحة كورونا، كانت العلاقات بين بكين وواشنطن، متوترة بفعل عدة تطورات سياسية وجيو سياسية واقتصادية، تراكمت على مدار السنوات الماضي.
كان لهذا التوتر أربعة محددات رئيسية، الأول هو الرغبة الصينية في تأكيد منحنى صعودها التصاعدي في موازين القوى العالمية، والذي يقابله منحنى تنازلي بات هو السمة الأساسية للموقف الأمريكي الأستراتيجي، خاصة منذ الأزمة المالية العالمية ما بين عامي 2008 و2009.
بكين من جانبها كانت تحث خطاها وتسخر مواردها من أجل توسيع قوس نفوذها الإقليمي والدولي، وزيادة الضغط أكثر فأكثر على الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها تقاتل من أجل تحجيم أثار اختلال موازين القوى لصالح بكين، وتأثير ذلك على نفوذ واشنطن الدولي، الذي بدء في الإضمحلال البطئ.
المحدد الثاني هو، القناعة الأساسية، التي تعود جذورها إلى حقبة الحرب الباردة، أن التناقض والإختلاف بين الجانبين، يعكس ويعزز المنافسة الإيديولوجية بينهما. المحدد الثالث هو التصاعد المتزايد في التوتر بين الجانبين خلال السنوات الثلاث الماضية، بفعل عدة عوامل منها الحرب التجارية، ومحاولة واشنطن مواجهة التوسع الدبلوماسي والعسكري لبكين في العالم.
انبثق عن المحددات الثلاث السابقة، محدد رابع، هو التأويلات السلبية التي تقوم بها كل من بكين وواشنطن عمداً، للخطوات الإستراتيجية لبعضهما البعض على المستوى الدولي.
بكين من جانبها، تستخلص أدلة على إستراتيجية أمريكية، تركز على إحتواء وتغيير الأنظمة الحاكمة على مستوى العالم. أما واشنطن، فترى أن المحرك الأساسي للإستراتيجية الصينية الدولية، هو السعي الحثيث وراء الهيمنة العالمية، وبالتالي تحاول معادلة هذا السعي عن طريق إجراءات مضادة، وهذا الوضع بشكل عام يجعل من الصعب على كلا الجانبين، أن يفسرا بصورة واضحة وصحيحة، نوايا وتوجهات كل منهما، وبالتالي يكون من الأسهل عليهما تبادل إطلاق الاتهامات والادعاءات في كل أستحقاق أو ملف دولي.
هذه الأتجاهات السابق ذكرها، أنعكست بشكل كبير في ردود الفعل الأولية من كلا البلدين، على بدء تفشي جائحة كورونا، وهي ردود شابها انعدام الثقة المتبادل. هذا كان واضحاُ بشكل أكبر، من خلال اتجاهين أساسيين ظهرا منذ بدء هذه الأزمة، الأول تبادل فيه الجانبان الاتهامات بالمسئولية عن نشوء وانتشار هذه الجائحة، الأتجاه الثاني تنافس فيه البلدين حول من هو البلد صاحب الإجراءات الأكثر مرونة وفعالية حيال مكافحة هذه الجائحة.
الاتهامات المتبادلة حول منبع هذه الجائحة
تداولت منذ البداية أوساط صينية عديدة، من بينها بعض الأوساط الدبلوماسية والحكومية، نظرية مفادها أن مصدر تفشي جائحة كورونا هو عدد من جنود الجيش الأمريكي، قاموا بزيارة مدينة (ووهان) الصينية في أكتوبر الماضي، للمشاركة في الألعاب العسكرية الدولية.
في المقابل، تداول عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي، من بين أطراف أخرى، نظرية مفادها أن منشأ هذه الجائحة كان مختبر لتطوير الأسلحة البيولوجية في مدينة ووهان، وعضو مجلس الشيوخ الأمريكي (من بين آخرين) طرح نظرية أن الفيروس نشأ في مختبر أسلحة بيولوجية في ووهان.
بالتأكيد لا يمكن أن نضع كلا النظريتين في كفة واحدة، فالنظرية الصينية نقلها في الأساس متحدث رسمي بإسم الحكومة الصينية، في حين النظرية الأمريكية نقلها عضو بمجلس الشيوخ يعبر عن رأيه. على الرغم من تراجع حدة تراشق الاتهامات في هذا الصدد بين الجانبين، إلا أنه كان دليلاً واضحاً على إنعدام الثقة والعداء المتبادل بينهما، والإستعداد الدائم لتبادل الأتهامات، حتى ولو كانت غير مدعومة بأدلة قاطعة.
الحقيقة الأساسية في ملف هذه الجائحة، أن أجراءات كلا الجانبين في المراحل الأولى له، كانت سيئة وغير فعالة، وهذا يعود لعدم توافر أستعدادات كافية لديهما لمواجهة كارثة بهذا الحجم، وكذا الارتباك الذي ساد أوساطهما الحكومية، وسط محاولات لتجنب الوقوع تحت طائلة المسؤولية عن هذه الجائحة، وتردُد في فرض تدابير أكثر صرامة عن ما تم فرضه بالفعل في المراحل الأولى. هذا الوضع أدى إلى التسيس الكامل من كلا الجانبين، لملف مجابهة هذه الجائحة.
في الجانب الصيني، اتسم أداء الحزب الشيوعي الحاكم ، في تعامله مع جائحة كورونا بمراحلها الأولى، بعدم المصداقية والشفافية، وهذا يعزى إلى رغبة الحزب في تجنب تعرضه لانتقادات داخلية، قد تتهمه بالتسبب في مقتل وإصابة الآف الصينيين. أما في الولايات المتحدة، فقد تأخرت إدارة ترامب في الإقرار بخطورة جائحة كورونا، وهذا كان أساساً بسبب اعتقادها أن الأدعاءات حول مدى خطورة هذه الجائحة، هي مبالغات من خصوم ترامب السياسيين، في محاولة منهم للتأثير على فرص الرئيس الأمريكي في الفوز بفترة رئاسية جديدة.
على الرغم من أن أغلب الدلائل المتوفرة حالياً، تشير إلى أن منشأ هذه الجائحة هو مدينة ووهان، إلا أنها أدلة غير مكتملة المعالم، كما أن أسئلة مهمة تتعلق بالقصور في الأداء الحكومي الصيني حيال هذه الجائحة، واحجامها عن تحذير الدول الأخرى بخطورتها، مازالت تحتاج إلى إجابات، لكن بالنسبة للولايات المتحدة، هذا كله في جانب، وما يحدث الآن على أراضيها جانب أخر، فواشنطن الآن في خضم أزمة كبيرة، السبب الأساسي في تفاقمها هو ضعف استعدادات البلاد لهذه الجائحة، رغم أن أسابيع عديدة سبقت انتشارها في الولايات المتحدة، شاهدت فيها واشنطن ماذا حدث للصين من تداعيات.
جانب أخر من جوانب تبادل التأويلات والاتهامات بين الجانبين، يتعلق برؤية كل منهما لردود فعل الأخر حيال إنتشار جائحة كورونا في دول أخرى حول العالم، الولايات المتحدة ترى في جهود بكين لتسويق ما تراه نجاح باهر في كبحها لانتشار الفيروس على أراضيها، كمثال يحتذي به بقية العالم، ويؤكد تفوق نموذج الحوكمة الصينية وتطبيقها للتنمية الاقتصادية الداخلية.
محاولة لتصدير النموذج الصيني إلى الخارج، وذلك ضمن أستراتيجية أوسع يتم فيها تشويه صورة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، وتهديد نفوذها، وإزاحتها في نهاية المطاف من موقعها كقوة عظمى. بناء على هذه النظرة، قامت واشنطن بتسريع حملتها الدبلوماسية ضد بكين، وذلك بتسليط الأضواء على دورها في نشوء هذه الجائحة وانتشارها، بهدف التشويش على محاولاتها لتسويق نجاحها دولياً، ومزاحمتها في المنافسة على استمالة حكومات البلدان الأخرى التي تحتاج إلى المساعدة في مكافحة انتشار هذه الجائحة.
أهداف بكين الجديدة بعد جائحة كورونا

بكين في هذه المرحلة، تحاول إستغلال الفرص المتاحة من إنتشار هذه الجائحة، من أجل تسجيل نقاط جديدة في سياق صراعها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتعزيز جهودها لإصلاح (منظومة الحوكمة العالمية)، و(صيانة الاهتمامات الدولية المشتركة)، وهذا كله حسب رأي الكاتب، يتم من أجل صرف الأنظار عن سوء إدارة الحكم الشمولي في بكين، لملف جائحة كورونا في مراحلها الأولى، وتسليطها في نفس الوقت على المشاكل المتعلقة بضعف إستجابة الولايات المتحدة، لعملية انتشار الجائحة على أراضيها.
بالإضافة إلى ما سبق، سرعت بكين من وتيرة تقديم المعونات الطبية والإنسانية إلى دول عديدة تعاني من انتشار الجائحة على أراضيها، ما بينها دول تعد من أبرز حلفاء واشنطن، وهو ما يضمن للصين عقب أنتهاء هذه الجائحة، سمعة دولية أفضل، ونفوذاً متزايداً في الخارج، حتى ولو ظلت الولايات المتحدة الأكبر من حيث النفوذ والسمعة الدوليين.
لكن برغم ما سبق، إلا أنه حسب رأي الكاتب، لابد من عدم المبالغة في تحديد ماهية نوايا بكين وأهدافها الإستراتيجية في المرحلة المقبلة, بكين وأن كانت تسعى حثيثاً إلى توسيع نفوذها الدولي على حساب نفوذ واشنطن، إلا أنها في نفس الوقت لا تستهدف هزيمة أو إستبدال هذه الأخيرة، فأهداف بكين على المستوى الدولي تبقى محدودة وأكثر براغماتية، لأن قادة حزبها الحاكم يدركون تمام الإدراك أن وصول الصين إلى مكانة تهيمن فيها بشكل كامل على العالم، (وهو أمر ممكن على المستوى النظري والعملي)، سيكون أمر مؤقت وغير مستدام، وسيضع على كاهل بكين أعباء أقليمية ودولية قد لا تكون جاهزة لها في المدى المنظور.
عوضاً عن السعي للهيمنة الدولية، تسعى بكين إلى إضفاء الشرعية على نموذجها للحوكمة والتنمية على الصعيد الدولي، بحيث تضمن هامش من التعايش السلمي مع النماذج الأخرى، وتعزز في نفس الوقت من قيمتها الذاتية وقدراتها على التأثير في الحوكمة العالمية. علاوة على ذلك، تضع بكين أمام ناظريها وضعها الداخلي، وتريد تأمين بيئة أقليمية ودولية مستقرة، تسمح لها بإعادة النظر في ملفاتها الداخلية، ومواجهة استحقاقاته العاجلة. وقد أعطت جائحة كورونا لبكين، فرصة ذهبية لمراجعة وضعها الداخلي، وفي نفس الوقت التأكيد على فعالية أنظمتها الداخلية والحكومية، في كبح جماح هذه الجائحة والسيطرة عليها، وكذا تقديم الدعم والمساعدة للعديد من دول العالم.
ما على الولايات المتحدة فعله في هذه الظروف

رداً على ذلك ، تحتاج الولايات المتحدة إلى العودة إلى الساحة الدولية، والبدء في تسجيل نقاط دبلوماسية واقتصادية جديدة، وإعادة الترويج لنموذج الحوكمة والتنمية الخاص بها، وان كان تحقيق هذا يظل صعباً في هذا التوقيت، نظراً لتأثيرات تفشي هذه الجائحة على الأراضي الأمريكية، مقارنة بالوضع الحالي للصين، التي عبرت المرحلة الأخطر من هذه الجائحة، وأصبحت مستودعاً ضخماً لكافة أنواع التجهيزات الطبية والخبرات الميدانية، التي يسعى العالم كله للأستفادة منها، في حين أصيبت الولايات المتحدة بالشلل الكامل عقب بدء الجائحة في التفشي فيها، وهي في الطريق إلى المرحلة الأخطر في تداعيات انتشارها على أراضيها، وهذا بجانب نقاط ضعف أخرى في بنية الحكومة الفيدرالية، يعوق بشكل أساسي استجابة الولايات المتحدة بشكل كاف للجائحة، وأصبحت بذلك فعلياً ضمن الدول التي تحتاج مساعدات عاجلة من الصين.
التفاعل الأمريكي على المستوى الشعبي مع هذا الوضع، تضمن توجيه انتقادات لاذعة لبكين، لكن يمكن الإستفادة من هذه الأوضاع، بتحفيز الغرائز التنافسية والإنسانية للأمريكيين، وفي نفس الوقت السعي إلى أرتقاء الحكومة الفيدرالية إلى مستوى التحديات الحالية والمستقبلية، التي يفرضها أنتشار هذه الجائحة، وذلك بما يسمح بمقارعة بكين وإفراغ تحركاتها الدولية من أية مكاسب جيوسياسية قد تتحصل عليها. من ناحية أخرى ، من المرجح أن تؤدي بعض ردود الفعل الأمريكية إلى نتائج عكسية، مثل تصاعد تراشق الاتهامات بين الجانبين حول مسئولية كل منهم عن تفشي هذه الجائحة، خاصة وأن هذا قد يؤدي إلى إنفصال أمريكي كامل عن الصين في ما يتعلق بالتبادل التجاري، وهو أمر من الصعب جداً تصوره في ظل حاجة الولايات المتحدة العاجلة للمعدات والمستلزمات الطبية المصنعة في الصين.
لذلك، من الضروري أن لا يمنع التراجع الأمريكي الحالي امام بكين على المستوى الدولي، كلا الدولتين من أستغلال أزمة جائحة كورونا، لإعادة ترميم علاقاتهما وإيقاف التدهور المستمر فيها، والتعرف على الفوائد العاجلة والآجلة لتعاونهم معاً لتحقيق مجموعة من الأهداف المشتركة، ومن أمثلة ذلك الرسائل المفتوحة، التي نشرها فريقين من الأكاديميين الصينيين والأمريكيين، يطالبان فيها حكوماتهم بتوحيد جهودهما في مواجهة هذه الجائحة، والعمل على علاج التأثيرات الاقتصادية والسياسية الناتجة عنها.
خلاصة القول: لم ينتج عن أزمة جائحة كورونا، تغيراً واضحاً على أساسيات العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين. فقد دفعت دوماً الأعتبارات الجيوسياسية، وانعدام الثقة المتبادل والمنافسة المستمرة، البلدين نحو المواجهة المستمرة. وقد أُضيف إلى ذلك مؤخراً، محاولة كلا الجانبين تعزيز مواقفهم واصباغها بصبغات إيجابية، وفي نفس الوقت إلقاء اللوم والمسئولية على الطرف الأخر. برغم هذا، لا يزال بإمكان بكين وواشنطن التحرك لتخفيف حدة التوتر، ومحاولة الوصول إلى صيغة للتقارب السياسي والتعايش السلمي. وهذا يتطلب من كلا الجانبين أيضاً، التوصل إلى فهم أكثر دقة لوجهات نظر وطموحات بعضهما البعض،وكذا الاعتراف بمصالحهما المشتركة على المستوى الدولي، وحقيقة أحتياجهما كل منهما للآخر في مجالات عدة، منها مكافحة جائحة كورونا.
باحث أول بالمرصد المصري