كورونا

لماذا إيطاليا هي “الخاسر الأكبر” في حربها مع فيروس ٍكورونا؟

اقترب العالم من مليون إصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) فقد سجلت حتى اللحظة  أكثر من تسعمائة ألف إصابة بالفيروس الغامض منتشرة في كل أرجاء الكرة الأرضية، لذا تقوم الحكومات من كل أنحاء العالم بإتخاذ أشد الخطوات التي تنقذ دولها من الهلاك بسبب هذا العدو الخفي، ومع إستمرار جائحة كورونا يستمر صناع القرار بالبحث عن سبيل لحماية دولهم، لهذا السبب يتوجب النظر بكثب نحو الأخطاء التي أدت لتفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة في دول بعينها لتفادي تكرارها، تهدف الدراسة للتدقيق حول مسببات تفاقم الأزمة في إيطاليا تحديدًا وذلك لأنها الأولى من حيث عدد الوفيات عالميا (أكثر من 13 ألف حالة وفاة ) كما أنها الثانية من حيث عدد الإصابات عالميا قبل أن تسبقها الولايات المتحدة في عدد الإصابات بنهاية شهر مارس، برغم من ظهوره سادساً في إيطاليا في 29 يناير بعد كل من الصين ثم كوريا الجنوبية التي ظهرت فيها أول إصابة يوم 19 يناير ثم الولايات المتحدة في 20 يناير تلتها فرنسا في 23 من نفس الشهر ثم ألمانيا يوم 26 يناير، إلا أن إيطاليا هي الأولى في عدد الوفيات التي تخطت 13 ألف حالة وفاة (بمعدل 218 حالة وفاة بين كل مليون إيطالي ) كما أنها الثانية من حيث عدد الإصابات المسجلة والثالثة في معدل الإصابة بوقع 1829 لكل مليون شخص.

مجابهة مترددة

رسم بياني يوضح إرتفاع عدد حالات الإصابة بالأيام

في غضون خمس أسابيع  وصلت إيطاليا من إكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كورونا إلى إعلان الحكومة حظر كامل للتجوال على 60 مليون إيطالي  وإغلاق كامل للدولة في كل أقاليمها .في أزمة دون شك هي الأكثر ضرراً للبلاد منذ الحرب العالمية الثانية، هذه الأسابيع الخمس بين ظهور أول حالة وإعلان الحكومة الإيطالية حالة الطوارئ القصوى هي الأسابيع التي يتوجب النظر إليها لتفادي الأخطاء، فمن المعروف للخبراء في إدارة الأزمات أن الفترة الأولى لأي خطر عندما لا يكون بالجسامة المتوقعة هي الأهم في مجابهته، إلا أن الأمر قد تجاوز ذلك في إيطاليا التي وصلت في مرحلة متأخرة بل متأخرة جداً.

أتذكر جيداً مع أولى فترات ظهور الفيروس في إيطاليا خروج عدد كبير من الساسة والشخصيات العامة لتهدئة الرأي العام والترويج إلى أنه لا داعي للخوف من الأمر كما قوبلت التصريحات الأولية لحالة الطوارئ بالشك في أوساط الجمهور والدوائر السياسية برغم من تحذيرات العلماء المتكررة لدرجة أن جمع من السياسين ( أصيب أحدهم بالفيروس في وقت لاحق) هموا لمصافحة حشد جماهيري في العاصمة الإقتصادية ميلانو لإرسال رسالة مفادها أن الإقتصاد الإيطالي بخير.

 سلوك السياسيين في بداية الأزمة إنتقل بدوره للجمهور الإيطالي الذي لم يلتزم كذلك بالإجراءات الحكومية في بداية الأمر لشعوره بعدم جدية الخطر وهو ما أدى للاستهتار بالأمر، فمع بداية فرض حظر التجوال لم يلتزم الإيطاليين به لدرجة أن البعض اعتبروه إجازة حكومية، كما لم تتوقف الأنشطة في البلاد إلا متأخرًا، مباريات كرة القدم على سبيل المثال في الدوري الإيطالي لم يتم إيقافها إلا مع إعلان رئيس الوزراء جوسيبي كونتي الحظر الكامل في البلاد في العاشر من مارس الماضي، حالها حال العديد من الأنشطة الرياضية والثقافية والمجتمعية المختلفة، ولا يمكن هنا إلا لوم الساسة الإيطاليين الذين نقلوا أستخفافهم بالأزمة للشعب الإيطالي مما أدى للوضع الحالي.

ردة فعل الساسة الإيطاليين بمحاولة تخفيف حجم الأزمة تكرر في عدد من الدول وهو ما يسميه علماء السلوك – التحيز للتأكيد – هو ما يعني الميل للإستفادة والتحيز من المعلومات التي تأكد صحة الموقف أو الفرضية المفضلة للجمهور.

عندما تواجه الدول جائحة يكون الوقت الأثمن للتصرف هو اللحظات الاولى قبل وقوع حالات إصابة مما يعني توجب تدخل سريع وإجراءات مشددة في وقت مبكر جداً، مثل هذا التدخل الحكومي في حياة المواطنين حال نجاحه في تحجيم الخطر كان سينظر له الشعب على أنه ردة فعل مبالغ فيها وهو ما لم يرغب به صناع القرار في إيطاليا مما أدى لتأخر ردة الفعل المناسبة.

برغم من توافر معلومات مسبقة ونماذج للمجابهة فعلتها الصين ودول أخرى للتقليل من العقبات، لكن يظهر بشكل واضح عدم إستيعاب الساسة الإيطاليين للدرس مما أدى إلى افتقار تام لمعرفة كيفية التصرف في الوقت الجوهري للأزمة بدلا من سرعة اتخاذ الإجراءات المناسبة.

نتائج عكسية

أمر أخر يمكن استيعابه من الدرس الإيطالي هو أهمية الطرق المنهجية للتعامل مع مثل هذه الظروف بدلاً من تفضيل الحلول الجزئية الأسهل نظرياً لكنها أخطر بكل تأكيد من حيث التبعات في مثل هذه الظروف الغامضة، الحلول  الجزئية قد تكون مقبولة في الظروف العادية لا الاستثنائية، الحكومة الإيطالية كانت أعلنت عن أنها ستحدد مناطق في الشمال (14 مقاطعة) لتعزلها عن باقي البلاد مع تفشي الفيروس في الشمال في البداية وأنها ستتوسع في إجراءاتها وكذلك ستوسع ” المنطقة الحمراء” بشكل تدريجي، هذه الخطة فشلت لسببين الأول هو عدم وجود أي تحليلات تنبؤية بما سيؤول إليه الوضع خلال الأيام القادمة أو أي تحليل لسرعة التفشي المتوقعة للفيروس مما أدى إلى تتبع إيطاليا للفيروس بدلاً من منعه ومحاصرته، ثانياً فكرة عزل مناطق بشكل تدريجي واختياري في الشمال  أدت لتوجه عدد كبير من الطليان إلى مدن الجنوب فمع تسرب إشاعات تحديداً في السابع والثامن من شهر مارس عن أن الحكومة ستقوم بإغلاق الأقاليم الشمالية الغنية والتي يعمل بها عدد لا بأس به من أهالي الأقاليم الجنوبية مثل إقليم لومبارديا وعدد من الأقاليم الشمالية الغنية، أدى تسرب الخبر لزحام على محطات القطارات المتجهة للجنوب وغيرها من وسائل المواصلات لينقل المسافرون العدوى من الشمال للجنوب قبل أن يخرج رئيس الوزراء جوسيبي كونتي ليعلن في العاشر من مارس عن حالة الطوارئ القصوى وإعلان إيطاليا كلها “منطقة حمراء” بدلاً من ال14 مقاطعة في الشمال.

من خلال ذلك يتضح لنا مما لا شك فيه أنه كان يتوجب أن يتم تنسيق الإستجابة الفعالة وإتخاذ إجراءات متعددة كنظام متماسك من الإدارة المركزية في وقت واحد، يمكن الاستدلال على ذلك أيضا من خلال التجربة الصينية في مواجهة كورونا الأكثر فاعلية ومركزية في إجراءاتها من إيطاليا.

تكلفة اللامركزية في معالجة الأزمة

كما أشرنا سابقًا فإن عدم تعميم القرارات واللامركزية فيها في إيطاليا أدى لنتائج سلبية في معالجتها للأزمة، نفس الأمر كان له تبعياته على مستوى الإدارات الصحية في إيطاليا التي وبرغم من تقدم مستوى الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين الطليان مقارنتاً بدول أخرى إلا أنها لم تستطع المساهمة في إدارة الأزمة أو تحجيمها بسبب غياب المركزية في القرارات والإجراءات الصحية المتبعة، بنظرة أكثر تمعناً لما جرى في الأسابيع الأولى من إنتشار الفيروس على مستوى الأقاليم الإيطالية يمكننا رصد إختلافات واضحة في مختلف الإجراءات الصحية المتخذة من قبل الإدارات الصحية في الأقاليم الإيطالية،  فمثلا وبالرغم من تجاورهما إلا أن الإجراءات المتبعة في إقليم لومبارديا مختلفة عن تلك التي اتخذتها الإدارة الصحية لإقليم فينيتو، ففي فينيتو قررت الإدارة الصحية عمل حملة كشف مبكر ومكثفة على الأفراد تضمنت سحب عينات دم من المنازل وفحوصات في الأماكن الحيوية مما مكن الإدارة الصحية من إكتشاف حالات مبكرة أدى ذلك لشفاء عدد كبير منها، إضافة إلى ذلك فالإجراءات الإحترازية أختلفت حدتها بين الإقليمين وهو ما أحدث فارق واضح في معدلات الإصابة ففي فينيتو وصلت عدد الإصابات بالفيروس في أوائل مارس لأكثر من 200 شخص بينما تخطت عدد الإصابات في لومبارديا حاجز ال400 شخص، أمر آخر أحدث فارق كبير في النتائج بين الإقليمين وهو ضغط الإدارة الصحية لإقليم فينيتو للحصول على مساعدات وأدوات وقائية مبكراً على الإدارة في روما لحماية أطقمها الطبية وهو ما أولت له الإدارة الصحية أولوية كبيرة، على العكس من لومبارديا التي دفعت ثمن عدم وجود أدوات وملابس طبية وقائية كافية بعد أن ضرب الفيروس مستشفى لومبارديا العام وأصاب العاملين والأطقم الطبية فيها، نفس الأمر تكرر مع إجراءات التتبع للمخالطين للمصابين التي كانت جدية للغاية في فينيتو على العكس من لومبارديا.

ما سبق كان مجرد مثال للإختلاف الناتج عن عدم مركزية القرار حتى على مستوى الإدارات الطبية ويوجد العديد من الامثلة من الأقاليم الإيطالية تؤكد ذات النتيجة، ضرورة اتخاذ وتعميم الإجراءات الناجعة بشكل مركزي، برغم من ذلك كان من الممكن أن يستفيد الطليان من لامركزية الإدارات الطبية وإختلاف الإجراءات المتبعة في الأقاليم المختلفة حال تعميم الناجع منها وهو ما لم يحدث في إيطاليا حيث لم ينظر صناع القرار في إيطاليا لإختلاف الإجراءات على أنها ” تجارب” يمكن الاستفادة منها وتطويرها وتعميمها، بل نظروا إليها وأداروا الموقف على أنه مبارزة سياسية بين الأقاليم المختلفة، أمر أخر لو كان حدث لربما أنحسرت الأزمة في إيطاليا.

عدم الجاهزية

تشير العديد من التقارير أن أحد الأسباب الرئيسية طبيًا لارتفاع معدل الوفاة في إيطاليا الناجمة عن فيروس كورونا  هو إرتفاع معدل أعمار الشعب الإيطالي حيث تقدر نسبة من هم فوق ال65 عاماً ب24% من الإيطاليين، كما وتشير البيانات الصحية الصادرة عن الحكومة الإيطالية ان حوالي 32% من الشعب يعانون من أمراض مزمنة كالسكري، مرض ارتفاع ضغط الدم وحساسية الجهاز التنفسي،  بمقارنة هذه المعلومات مع نسب الوفيات ومعدل أعمارها وتاريخها المرضي نجد أن أغلب الوفيات هم من من تقدموا بالعمر أو يعانون أمراض مزمنة حيث خلصت دراسة من جامعة بولونيا أجريت حديثاً أن ما نسبته 98% من الوفيات في إيطاليا هي لأشخاص من فئة المتقدمين في العمر أو من لديهم أمراض مزمنة،  وبرغم من عدم دقة الدراسة التي نتجت عنها النسبة حيث قام الفريق البحثي بدراسته على 5% فقط من إجمالي الوفيات، إلا أن الأمر يشير بوضوح لعدم جاهزية القطاع الصحي في إيطاليا لمثل هذه الظروف، فلم تحدد إجراءات خاصة مثلاً لحماية المتقدمين في العمر من الإصابة كما لم تتوفر المعدات والأدوية الطبية الكافية للإدارات الصحية المختلفة ولم يرسل لها الدعم في الوقت المناسب من الإدارة الصحية المركزية، كلها أمور أدت لتفاقم حجم الأزمة بحدة تفوق قدرات الدولة الإيطالية.

الدروس المستفادة

مما سبق تتضح لنا نقطتان جوهريتان من التجربة الإيطالية لمكافحة جائحة كورونا أولا ليس هناك وقت لنضيعه نظراً لمعدلات تسارع إنتشار فيروس كورونا وهو ما أشار إليه رئيس هيئة الحماية المدنية الإيطالية بروتيزيوني سيفيلي “الفيروس أسرع من بيروقراطيتنا ” في تصريح له ردًا على سؤال ما سبب سرعة الإنتشار في إيطاليا.

ثانيا، تتطلب مواجهة جائحة فيروس كورونا إتباع نهج صارم لضمان فاعلية الإجراءات الحكومية كما تتطلب مجابهته إجراءات تشبه إستراتيجيات  التعبئة للحرب سواء على المستوى العسكري ( وهو ما قامت به إيطاليا متأخرة) وعلى المستوى الإقتصادي بالقطاعيين الخاص والعام كذلك على المستوى المجتمعي،  كذلك يتطلب الأمر التنسيق الشديد بين مختلف الكيانات والمؤسسات بالقطاعين العام والخاص، كما أنه وعلى السياسين دعم المنهجية العلمية لمجابهة الفيروس مما سيتطلب نهج مختلف وأكثر جراءة من صناع القرار حول العالم وعليهم فوراً دعم البحث العلمي والدراسات المنهجية كما توسيع نطاق التجارب وإتخاذ المرجعية العلمية كأساس في عملية إتخاذ القرار فيما يتعلق بجائحة كورونا،  بالطبع هذا أمر صعب خاصة في خضم الأزمة الهائلة التي نعيشها لكن بالنظر لحجم الخطر فلا بديل عن ذلك.

محمد هيكل

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى