
رؤية نقدية لـ “كوفيد-19” في الأدب.. ومساحات التأثير والتأثر بين الأدب والواقع
للفن أشكال وصور كثيرة ولكن الأدب من بين كل الفنون جميعا هو أكثرها التصاقًا بالواقع، ذلك لأن الكلمة هي وحدة الأدب، وهي نفسها أكثر الوسائط الفنية قدرة على تصوير وتشخيص واقع الإنسان. وبالكلمة يحيا الفرد وبها أيضا يتواصل مع غيره، ويتعامل مع مفردات حياته بمواقفها الفريدة والمختلفة، ويتجاوز بها الواقع ليصل إلى مرتبة الأماني والتخيلات والتطلعات.
والفرد يبني تخيلاته من واقع أحلامه وانعكاس لظروف مجتمعه وما يعانيه ويعاصره من أحداث في الحقيقة، بحيث يمنحه الخيال مساحة أوسع يستطيع من خلالها أن يقفز بسهولة في منأى عما يواجهه من عقبات منطقية بالواقع. وبالخيال يصنع الأدب ليمنح المرء انعكاسا صريحا أو مستترا للواقع.
ولكن هنا لابد أن نتساءل، عن المقصود من لفظة الواقع؟ وعلى أي نحو من الممكن أن يعبر الأدب عن الواقع؟ إن كلمة الواقع يمكن أن يُشار بها إلى أنحاء شتى، فهل المقصود بالواقع هنا الواقع الاقتصادي أم الاجتماعي أم السياسي، أم مجموع ذلك كله؟! كما أنه وجب التساؤل حول من يأتي أولاً ومن يصنع من؟ هل يصنع الأدب الواقع أم الواقع هو من يصنع الأدب؟ وهل ينعكس الواقع على الأدب أم العكس صحيح؟
وبالنظر إلى ما يعانيه العالم أجمع في الوقت الراهن، يمكن الجزم أن الأجوبة لن تكون في منأى عن أي فرد منا. إذ أن كابوس تفشي فيروس كوفيد-19، اقترن ظهوره باسترداد البشرية لمخزون رفيع المستوى من ذاكرة الروايات الأدبية التي تحدثت عن قصص مماثلة في أزمنة مبكرة قبيل ظهور هذا المرض أو حتى ذكر اسمه، بل أن الأمر لم يقتصر فقط على الروايات، حيث ظهرت أفلام تتحدث عن مآسي مماثلة على غرار فيلم “كونتيجن الأمريكي” الذي تم انتاجه في عام 2011، وكان يتحدث عن تفشي وباء خطير قادم من الصين، بفعل الإحتكاك بين البشر والخنازير.
رؤية لـ “كوفيد-19” عبر صفحات رواية “الطاعون” لألبير كامو

في سطورها الأولى، يستهل القارئ رواية “الطاعون” بالإنتباه إلى تشابه الأسماء بين مدينة ووهان الصينية معقل المرض في 2020، ومدينة “وهران” معقل المرض في الرواية التي صدرت 1947، وهي مدينة غرب الجزائر التي كانت تقع تحت الاحتلال الفرنسي.
يصف الكاتب أحوال سكان المدينة، ويقول إنهم يعملون بشكل مستمر من الصباح حتى المساء، ثم يقضون ما تبقى من وقت في اللعب بالورق أو المقهى والثرثرة. ويستمر الكاتب في وصفه قائلا إن “وهران” مدينة جافة للغاية، يضطر أهلها بسبب ضيق الوقت والتفكير الى أن يتحابوا على غير علم منهم. وفجأة تبدأ الظواهر الغريبة بانتشار الجرذان الميتة في أرجاء المدينة، يعقبها ظهور المرض الغامض الذي كان من أبرز علاماته في القصة هو ارتفاع درجات حرارة المريض وإصابته بحمى شديدة.
ويصف الكاتب ردود أفعال الناس وتفاعلهم مع حقيقة تفشي وباء في مدينتهم قائلاً: “الواقع أن البلايا هي شيء شائع، ولكنك تصدقها بصعوبة حين تسقط على رأسك. ولقد عرف العالم من الطواعين ماعرف من الحروب، ومع ذلك فإن الطواعين والحروب تفاجئ الناس دائما”.
وأضاف أنه “حين تشب حرب ما يقول الناس إنها لن تدوم طويلاً، ولاريب في أن حربا ما هي إلا أمر مفرط في السخف، ولكن ذلك لا يمنعها من أن تدوم. إن السخف يلح دائًما وهذا شيء يسير ملاحظته إذا لم يفكر الإنسان دائًما في نفسه”.
وبوصف الطريقة التى مارس بها المواطنون حياتهم أثناء انتشار الطاعون في “وهران”، قال كامو “إن مواطنينا كانوا في هذا الصدد كجميع الناس، يفكرون في أنفسهم فقط، وبعبارة أخرى كانوا إنسانيين. إنهم لم يكونوا يؤمنون بالبلايا. ويعتقدون أن البلايا كانت مستحيلة ولهذا السبب كانوا يتابعون أعمالهم التجارية ويعدون بالأسفار وكانت لهم آراؤهم، التي كانت تنص على أن الطاعون لا يجوز له أن يلغي المستقبل والتنقلات والمناقشات!”
ومن هذا المنطلق يرى “كامو” أنه ليس بمقدور الإنسان تقبل البلية، ومن أجل ذلك يقول المرء لنفسه أن البلية غير حقيقية، وأنها حلم مزعج سوف يمر، ولكنه لا يمر دائما، ومن حلم مزعج الى حلم مزعج آخر، يمر الناس أنفسهم والإنسانيون بالدرجة الأولى لأنهم لم يتخذوا حيطتهم.
وفي الوقت الذي تتناول فيه وسائل الإعلام المختلفة تقارير عن الشكل المتوقع للعالم بعد زوال أزمة “كوفيد-19″، وعن طبيعة العلاقات البشرية في ذلك الوقت، التي يتوقع كثيرون أن طابع الفتور سيغلب عليها بفعل اعتياد الغالبية العظمى من الناس على الحفاظ على مسافات التباعد الإجتماعي. بالإضافة إلى ذلك فأنه من المرجح أن الخوف من الفيروسات التي من الممكن أن ينقلها البشر لبعضهم البعض من خلال التلامس سيستمر لما بعد “كوفيد” وإلى أجل غير محدد بعد. فضلاً عن توقعات لتنامي أعداد المصابين بالوسواس القهري من النظافة بين البشر بعد رحيل الفيروس.
يصف “كامو” في ختام روايته، أحوال البشر بعد زوال المرض عنهم قائلا بالإشارة إلى بطل القصة: “لقد ود أنه يعود ذلك الشخص الذي كان عليه في أوائل الطاعون يريد أن يعود دفعة واحدة حتى خارج المدينة ويهرع الى لقاء من يحبها، ولكنه كان يعلم أن ذلك غير ممكن. لقد تغير بفعل الطاعون، والواقع أن الجميع كانوا مثله، ولكن بأقدار متفاوتة من الوعي.” ثم يكرر مرة أخرى وصفه قائلاً “أنه يريد أن يفعل ما كان يفعله جميع هؤلاء الذين يثقون أن الطاعون يمكنه أن يأتي ويذهب من دون أن تتغير قلوب الناس”.
ومثل كثير من القراء المدققين في هذه التشابهات – مثل وسائل الإعلام والأنباء- يميل بشكل أكبر الى الإعتقاد بأن الكاتب وراء هذه الصفحات كان مستبصرا، أو يملك دربا خاصًا به من دروب التنبؤ والتطلع عبر المستقبل. بحيث تميل هذه الآراء الى التجاوب مع تطلعات كثير من البشر، التي تتمنى في صميم أعماقها أن يكون هناك شخص ما بوسعه النظر عبر المستقبل وما يأتي بعده.
وفي الطريق إلى فهم كيفية بناء وكتابة ما ظهر على صفحات هذه الرواية من تشابهات مع الواقع، كان بالأحرى النظر الى قصة حياة ألبير كامو نفسه ومقارنتها بالرواية، بدلاً من مقارنة الرواية بالواقع. وذلك قد يكون إعمالا بالمقولة المتداولة في هذا السياق، والتي تقول إن الكاتب يكتب عن نفسه وما دون ذلك هو محض الخيال.
بمعنى آخر، أن ما كتبه ألبير كامو قد يكون صورة أخرى وانعكاس جديد لطبيعته الشخصية هو نفسه وشرح مستتر لأحداث عاصرها هو نفسه بحياته، وليس انعكاس للمستقبل. إذ أن “كامو” لم يكن مجرد كاتب عادي، بل كان كاتبا وفيلسوفا. شأنه كشأن أغلب الكتاب حول العالم، يجمع بينهم نفس الصفة وهي التعرض لطفولة قاسية للغاية. لكنه لم يعش طفولة “صعبة” فحسب، بل أنه عايش ويلات الحروب مرتين، مرة في طفولته وأخرى في شبابه.
فقد ولد كامو في الجزائر عام 1913 عندما كانت الجزائر وقتها لاتزال تحت الاحتلال الفرنسي. فيما كانت عائلته تعاني فقرا مدقعا، خاصة بعد أن توفي والده أثناء الحرب العالمية الأولى، فعاش مع والدته كاثرين كامو التي كانت مصابة بالصمم الجزئي وكانت وقتها امرأة أمية تعمل في تنظيف البيوت. وعاشت العائلة في منطقة خاصة بالمستوطنين الفرنسيين محدودي الدخل في الجزائر.
ولم يتعرض كامو للحرب فقط من خلال فقدانه لوالده في المقام الأول، ولكنه تعرض لها مرة أخرى عندما شارك في الحرب العالمية الثانية في المقاومة الفرنسية بهدف المساعدة على تحرير فرنسا من الاحتلال النازي. كما أنه اضطر للرحيل بعد اصابته بمرض السل عن أحبائه عام 1930 وأرسل ليعيش مع أقربائه ميسور الحال، خوفا من أن يُصاب من حوله بالعدوى.
في قصته، نرى بوضوح كيف شبه كامو حالة الحرب بحالة تفشي الوباء في البلاد، وكيف ربط ما بين طريقة تعامل الناس وتفاعلهم مع كلتي الحالتين. كما أطلق العنان لخياله للحديث عن المرض، وتأثيرات انتشاره بين الناس وكيفية ردود أفعالهم حياله، كما يجب ألا ننسى موقع المدينة في القصة وموقع مسقط رأس الكاتب نفسه على الخريطة الجغرافية والسياسية معًا والمقصود هنا الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي.
والواقع أن وباء الطاعون أو غيره لم يكونا بمثابة أشياء جديدة على حياة “كامو” أو حتى بعيدًا عن مخيلته، فقد كان وباء “الموت الأسود” بالفعل قد حصد أرواح ثلث أوروبا في الفترة ما بين عامي 1347- 1351. فيما اجتاح العالم وباء الأنفلونزا 1580، وكانت هذه هي الفترة التي شهدت إجراءات حجر صحي حقيقية ونقاط تفتيش حدودية في أوروبا، فضلاً عن وباء الكوليرا الذي انتشر في القرن التاسع عشر، وغيرها من الأوبئة التي من شأنها أن تمنح كامو بؤرة جيدة يمكن أن ينطلق منها خياله تجاه خلق قصة جديدة كاملة ومتكاملة الأركان، وتتحدث عن الوباء وطريقة استجابة الناس له، والتي في أغلب أحوالها وطبقا لعلماء النفس والاجتماع، تكون منحصرة عادة في أنماط محددة لا تخرج عنها أبدًا بحكم الطبيعة البشرية. هذا بالإضافة الى أن اصابته بمرض السل منحته القدرة كذلك على تجرع أحاسيس المصابين بالأمراض والأوبئة القابلة للعدوى وطريقة رؤيتهم للعالم المحيط بهم في هذه الظروف القاتمة.
قصة
قناع الموت الأحمر- لإدغار آلان بو

في بداية كل جائحة أو كارثة، يحتقن الفقراء والبسطاء ظنًا منهم أن هذه الجائحة لن تصيب أحدًا سواهم وأن الاخرين يحتمون حاليا في قصورهم وبداخل حصونهم المنيعة التي حتما ستقيهم من الكارثة أو من المرض وشروره. ولكن في حالتنا اليوم، وفي العالم الواقعي بـ 2020 يمكن أن نقول، إن الأمر في الحقيقة مغاير تماما، بل أنه قد يكون معكوس.
والدليل على ذلك ما حدث خلال الأيام الأخيرة، عندما تداولت وكالات الأنباء العالمية خبر إصابة ولي عهد انجلترا الأمير تشارلز بفيروس “كوفيد-19″، وما تلى ذلك من موجات سخرية انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تبشر بأن سقوط الأمير –المحصن خلف قصره وحاشيته الحريصة على حياته- في شباك الفيروس تعني بالضرورة أن الفقراء أو حتى العاديين ذاهبون الى نفس المصير لا محالة. ففي حالتنا يخبرنا الواقع أن هذا الفيروس شأنه كشأن الكثير من الفيروسات والأمراض، إنه عادل ولا يعرف التفرقة بين غني وفقير، أو بين رجل سياسة قوي ومواطن آخر عادي جدا. ولكن الحقيقة أن عدالة هذا الفيروس أو غيره، هو أمر منطقي للغاية ويمكن النظر إليه في إطار الحقائق المسلم بها.
ومع ذلك، سنرى الجمهور يميل الى ترك التفكير في –الحقيقة المسلم بها- والإتجاه نحو التصديق في احتمالية وجود شخص ترادوه رؤى عن المستقبل. وسوف يحدث هذا عندما نتأمل قصة “قناع الموت الأحمر” ، التي كتبها إدغار آلان بو عام 1842. واصفا عبر صفحاتها عدالة الوباء القاتل الذي انتشر في جميع أركان المدينة، ثم فتك في نهاية المطاف من الأمير المُحتمي خلف جدران حصينة ودفاعات منيعة، بناها بنفسه حتى يختبئ وراءها هو وحاشيته.
الكاتب في هذه الحالة، بنى قصته البديعة بجمالياتها المُترفة، استنادا الى الحقيقة العلمية المجربة عبر التاريخ، وهي أن الأمراض لا تتعرف على هوية الأشخاص الذين قررت اجتياح أجسادهم. ولكن بالقياس على أحداث العصر، سوف يترك القارئ الحديث عن خيال الكاتب الخصب الواسع الذي نجح من خلاله في توظيف حقيقة علمية لأجل سرد أحداث مقنعة، ويميل بشكل أكبر إلى الإعتقاد بأن هذه ايضا نبؤة تحققت على أرض الواقع.
رواية “عيون الظلام” للكاتب الأمريكي دين كونتز
الأدب أم الواقع.. من ينعكس على الآخر؟!
في روايته التي نشرت عام 1981، كتب الأمريكي دين كونتز، شارحًا كيف تُحقق أم حزينة في ظروف وفاة ابنها والذي توفي بسبب اصابته بفيروس قاتل يُدعى “ووهان-400″، في تشابه فريد من نوعه مع اسم المدينة التي خرج منها فيروس كوفيد-19 إلى العالم في 2020. وفي هذه القصة يعد هذا الفيروس الغامض، جزءا لا يتجزأ من الحرب البيولوجية، التي رأي عالم صيني يقف الى الجانب الأمريكي، أنه سوف يكون السلاح المثالي لأجل مجابهة الصين.
ومن الممكن تفسير هذا التشابه في ضوء النظر الى الفيلم المصري، الذي تم انتاجه في عام 1988 تحت عنوان “بطل من ورق”. حيث كان يلعب البطل فيه دور كاتب سيناريو أفلام، يقع في غرام كتاباته شخص مضطرب نفسيا يدعى سمير، يقرر أن يقوم بتنفيذ القصة على أرض الواقع بحذافيرها، ثم تتطور الأحداث بعد ذلك في نفس الإطار.

ومن هذا المنطلق، يمكن أن نتفهم أن فكرة الكاتب التي تبدو اليوم كتبنؤ بالأحداث الغيبية، ليست أكثر من مجرد تطور لحالة شعورية عميقة عصفت بقلب ووجدان صاحبها، وتركت في نفسه أثرًا عميقًا بالقدر الذي ساعده على تطويرها وتحويرها في خياله، بما يخلق نمطا موازيا من أحداث خيالية تسير جميعها على نفس خلفية الفكرة الرئيسية التي أثرت على الكاتب في بداية المطاف. وبهذه الطريقة يستطيع الكاتب أن ينقل إلى قرائه لمحات عن قصة المعاناة والتأثير الذي وقع عليه هو نفسه أولاً من قِبَل الواقع، بالإضافة الى رغبات الكُتاب التي تميل إلى استخدام الكتابة كأداة يمكن من خلالها التنفيس عما عايشوه من تجارب.
كما أن قفزات الكاتب وشطحاته الخيالية، قد لا تفعل شيئًا جديدًا سوى أنها تعيد شرحا وسردا لجدولة أنماط السلوك الجمعي في تفاعله مع وقوع نكبة ما. وهذا السلوك قد يكون الكاتب بحكم التجربة الشخصية عايشه بنفسه، أو قرأ عنه بفعل حدوثه في الماضي القريب جدًا من عصره، أو حتى تناقلته الأجيال بالرواية والقصص وصولاً اليه، ثم قام هو باستخدام الخيال بتطوير هذا الواقع بشكل سليم بعد ذلك. وهذا يقودنا الى تفهم كيف يمكن أن تكون القصة أو الرواية التي تبدو اليوم مثل نبؤة تحققت معظم أركانها في الواقع، ليست أكثر من مجرد أنعكاس آخر للماضي بل وتتويج له ولمعاناته.
بحيث تلعب الرواية في هذه الحالة دور الوعاء الناقل للتجربة الإنسانية التي تعبر من خلالها الأحداث بعد أن تم تطويرها في رأس الكاتب، من مرحلة التخيل الى الكتابة، ومنها انطلاقًا الى تحقيق معدلات تأثير هائلة على شريحة كبرى من المجتمع. وتحقق كل رواية على حدة معدلات تأثير متفاوتة، بالنظر الى مدى شهرتها ومدى شعبية كاتبها، التي قد تصل في أحيان كثيرة الى حد خلق مقلدين لها، وآخرين معجبون بالتجربة حد الهوس في السعي وراء محاكاتها وجلبها الى الواقع.
والتاريخ الإجتماعي المديد عبر دول مختلفة يعج بمهووسين وقتلة وسفاحين عمدوا إلى تقليد رواية ما أو عمل فني بعينه، وهذا أمر قد يزيح الغبار عن ماهية امتلاك بعض الأعمال الفنية لتنبؤات ظهرت بالفعل على أرض الواقع، سواء في الواقع السياسي أو الاجتماعي أو كل هذا.
وعليه، فإن الأجدر في حالة تحقق قصة ما، ألا نقول عنها –نبؤة- ونصف قائلها بالنبؤة أو نتحدث عنه كأنه عراف وساحر ينظر عبر المستقبل. إذ أن الأمر قد لا يتعدى كونه أكثر من مجرد قصة مدهشة إما عثرت على قارئ شغوف بتحقيقها لأجل الجلوس بعد ذلك ومشاهدة البشرية تقع في حيرة من أمرها بفعل تشابه الأحداث بين الأدب والواقع، أو أنها تكون محض صدفة تخضع بطبيعتها الى حقيقة مفادها أن التاريخ يعيد تكرار نفسه دائما وباختلاف العصور، ولهذا السبب يتشابه الماضي بالحاضر بالمستقبل.
وبالتطرق إلى ثنائية الأدب والواقع، للوقوع على ماهية العنصر المؤثر على الآخر، يمكن القول إن الأدب هو نتاج لحصيلة خيال الكاتب، وهذا الخيال لم يتولد من فراغ، فهو في الأساس حصيلة احتكاك صاحبه بظروف واقعية مؤثرة للغاية. وعليه، ينطلق الكاتب ويسرد قصته، التي تكتمل بها حلقة التأثير على المجتمع. وبهذه الطريقة، يصبح الأدب محركا رئيسيا للواقع وقوة دافعة له تستطيع أن تنعكس على الجمهور إما بالإيجاب أو بالسلب وفقًا لمحتوى كل عمل فني على حدة ودرجة انتشاره.
وبمعنى آخر، يمكن وصف العلاقة بين الأدب والواقع بأنها علاقة حلقية، تبدأ ببذرة قادمة من الواقع، ثم تنمو هذه البذرة في ذهن الكاتب الذي يرويها ويعمد الى تطويرها بعد ذلك في خياله، حتى ينتج عنها نبتة كاملة يحصدها القارئ بنفسه. وهكذا يستطيع الكاتب أن يستخدم أدبه حتى يرتقي بأحوال الناس ويساهم في خلق حلول بشأن مشكلات المجتمع، لكنه لا يستطيع أبدًا أن يصبح نبيا يقص ويروي النبؤات ويخبر الناس عن البشائر القادمة في الأفق.
وعلى الرغم من قتامة الصورة العامة التي يعايشها العالم بأسره، إلا أن الأدب باعتباره طرحًا انسانيا خالصًا لتجارب عايشها آخرون في زمن ما، ينقل لنا في هذه الحالة لمحات تدعو للتفاؤل.
ونعود مرة أخرى إلى رواية الطاعون ونقتبس منها عبارة “كامو” واصفًا عالم ما بعد المرض، ويقول “لقد انتهى الطاعون مع الرعب، وكانت هذه الأذرع التي تتشابك.. تُعبر في الحق عن أن الطاعون كان نفيا وتفريقا بمعنى الكلمة العميق”. ولأنه لم يكن تنبؤ بقدر ما كان تشابها في الحالة الإنسانية العامة التي دائما ما ترافق الأمراض والاوبئة على اختلاف مسمياتها، يمكن أن نخلُص من هذا الأمر بحقيقة تدعو للتفاؤل، مفادها أن كل شيء –مهما طال عليه الأمد- يؤول في النهاية الى زواله الحتمي. وهكذا سينتهي هذا المرض ويختفي ويتلاشى تماما كما فعل سابقوه، وستستمر الحياة مرة أخرى بشكلها الطبيعي.
باحث أول بالمرصد المصري