
بعد “هوبي” الصينية..لماذا أصبحت “مدريد” الاسبانية ولومبارديا” الإيطالية بؤرتين جديدتين لانتشار كورونا ؟
أدى انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى شلل تام في مناحي الحياة المختلفة في عدة بقاع من العالم ، فبعد أن ضرب الفيروس الصين وسخرت الصين كل إمكاناتها لمجابهته استطاعت أن تصل لنتيجة إيجابية بحصر انتشار الفيروس الغامض على أراضيها.
وهو أمر إيجابي لكنه لا يعني زوال الخطر وفقا لتصريحات مسؤولي الصحة الصينين، لكن مع انحسار الفيروس في الصين واعلان البلد الذي بدأ انتشار الفيروس منه أنه ولليوم الخامس على التوالي لم تسجل أي حالات عدوى داخل الصين لكن الحالات المسجلة هي قادمة من الخارج فقط، هنا يتبادر للذهن سؤال ما الذي أدى لوصول أوروبا تحديداً إيطاليا وإسبانيا لهذه الدرجة من الخطورة والانتشار البالغ ولماذا لا تستطيع حصر الإصابات وسرعة الانتشار مثل الصين؟
يقدم التقرير التالي نظرة تحليلية عن أسباب الانتشار السريع والضرر البالغ الذي تسبب به الفيروس في إسبانيا وإيطاليا ، ولكي نستطيع الوصول لتحليل واضح لأسباب تفشي الفيروس بهذه الدول كان علينا العودة لما قبل انتشاره بها لمعرفة الأسباب التي أدت لذلك.
ولنتفق هنا على ما ذكرته منظمة الصحة العالمية أن أعراض انتشار الفيروس قد لا تظهر أو تظهر خلال أو بعد 14 يوما من الإصابة لذا سنعود لتحليل ورصد أحداث ما قبل ” الكارثة” بأسبوعين لمعرفة الأسباب المباشرة لما حدث.
في إيطاليا ظهر الفيروس لأول مرة منذ شهر تقريبا وسجلت السلطات أول حالة إصابة تحديدا يوم 15 فبراير الماضي سجلت فيه السلطات ثلاث حالات إصابة لأول مرة في شمال إيطاليا ، لكنه ما لبث أن أصاب كل مقاطعات البلاد خلال أول أسبوعين من ظهوره.
وتوضح البيانات أن إيطاليا سجلت 63927 حالة إصابة و6077 حالة وفاة حتى الأن ، بالتزامن مع إيطاليا ظهرت حالتا إصابة في العاصمة الإسبانية مدريد، فاسبانيا حتى الآن يوجد بها 39673 حالة إصابة و2696 حالة وفاة ، لكن ما الذي أدى للانتشار الواسع للفيروس في هاتين البلدين رغم امتلاكهما لنظام صحي كفؤ تقول عنه إسبانيا الأفضل في منظومة الاتحاد الأوروبي قبل أن ينهار بسبب كثرة المصابين وعدم كفاية الأماكن والأدوات اللازمة لمجابهة الفيروس ، ولماذا لم تستطع الدولتان السيطرة على انتشار الفيروس حتى الان مثلما فعلت الصين؟
ببساطة كانت قرارات الحكومة ودرجة وعي والتزام المواطن هي الفيصل في هذا الأمر فقد وقعت الحكومتان (الإسبانية والإيطالية) في عدد من الأخطاء التي أدت لتفاقم حجم الكارثة كما ساعد في ذلك استهتار المواطنين بالإجراءات الحكومية التي جاءت متأخرة.
إيطاليا
في إيطاليا البلد الأكثر تضرراً من الفيروس حتى الآن حيث تقترب من تخطي عدد الإصابات في الصين كما تخطتها في عدد إجمالي الوفيات بدأ عدد الإصابات في التفاقم لأول مرة في 23 فيراير حيث سجلت معدلا يوميا مرتفعا من الإصابات منذ ذلك الحين ففي الفترة بين 23 فيراير حتى 29 فبراير سجلت إيطاليا 2802 حالة إصابة بمعدل 560 إصابة جديدة يوميا.
في تلك الأثناء لم تعلق الحكومة الإيطالية الرحلات الجوية سواء الداخلية أو الخارجية ومع عودة العديد من المسافرين للبلاد وعدد الرحلات المسيرة بين إبطالبا والصين في فترة ما قبل انتشار الفيروس في إيطاليا يؤشر للخطأ الجسيم التي وقعة فيه الدولة بالسماح باستقبال العائدين من دول أسيا والصين تحديدا كما أنه ومن المعروف وجود عدد لا بأس به من الجالية الصينية بإيطاليا وبعدد أكبر في إسبانيا.
تزامن ظهور فيروس كورونا مع أعياد رأس السنة الصينية وهو العيد الذي يقوم فيه أبناء الجاليات الصينية المتشرة حول العالم بالعودة للصين لقضاء هذه المناسبة مع أسرهم في الصين من ثمة العودة للدول التي يعيشون فيها.
ويرى بعض من الخبراء أن حركة المسافرين من وإلى الصين قبل انتشار الفيروس هي ما أدت لانتشاره عالميا بالإضافة إلى عدم ظهور الأعراض أو ظهورها بعد الإصابة بأيام وقلة الخبرة في التعامل مع هذا الوباء المجهول أدت لسرعة إنتشاره.
بالعودة لإيطاليا، وتحديداً في العاشر من فبراير حتى الخامس عشر من الشهر نفسه تم تنظيم عدد من المتجمعات الجماهيرية في أنحاء متفرقة في البلاد أدت لسرعة وزيادة مطردة في عدد الإصابات والتي ظهرت بعد ذلك بأسبوعين ولا تزال إصابات جديدة تظهر يوميا لذات السبب.
ففي تلك الفترة نظمت عدد من الأحداث الجماهيرية كحفلات غنائية ومهرجان لبيع منتجات الألبان والجبن التي يشتهر بها إقليما لومبارديا وإميليا ريجانا ومباريات دوري أبطال أوروبا التي جرت بحضور جماهيري عال في مدينتي تورينو وميلانو.
وهو ما أكدته صحيفة “كوريير ديلو سبوت” الإيطالية التي نقلت في تقرير عن الطبيب فابيانو دي ماركو، مدير أمراض الرئة في مستشفى بابا جيوفاني في إيطاليا قوله إن “مباراة أتلانتا وفالنسيا في ملعب سان سيرو كانت بمثابة “قنبلة بيولوجية” ، خصوصا أنها كانت بحضور أكثر من 40 ألف شخص من مدينة بيرجامو ، كل ذلك أدى لزيادة الإختلاط وانتشار العدوى التي لم تظهر فداحته إلا بعد أسبوعين من هذه الأحداث لتتضاعف بعد ذلك متأثرتاً بالتخبط الحكومي والاستهتار المجتمعي.
حضور جماهيري كثيف لمبارة أتلانتا (الإيطالي) وفالينسيا (الأسباني)
أحد أبرز أخطاء حكومة جوسيبي كونتي والتي بدأت في إجراءاتها متأخرة في بداية شهر مارس هو تسرب أنباء في الصحف الرسمية الإيطالية عن نية الحكومة بإقرار حظر للتجول على 14 إقليما في شمال البلاد وهي الأقاليم الأكثر تضررا من الفيروس قبل أن يعلن رئيس الوزراء كونتي صباح اليوم التالي من تسرب هذه المعلومة أن البلاد بجميع مقاطعاتها تحت حظر التجوال وأن ” إيطاليا كلها أصبحت ضمن نطاق المنطقة الحمراء”.
قبل إعلان كونتي أسرع عدد كبير من أهالي جنوب إيطاليا العاملين في المقاطعات الشمالية الغنية للعودة لمقاطعاتهم الجنوبية قبل تطبيق القرار بسبب تسرب الخبر من خلال الصحافة مما أدى لحالة من الزحام على وسائل المواصلات والقطارات المتجهة للجنوب الإيطالي الأمر الذي أدى لتفشي الإصابة في كل مقاطعات إيطاليا ال50 بدلا من حصر انتشار الفيروس في ال14 مقاطعة الشمالية وهو ما استهدفه قرار الحكومة .
بالإضافة لما سبق فقد ظلت إيطاليا في بداية الأزمة في حالة إنكار للمرض ولم تتخذ التدابير الكافية في الوقت المناسب برغم من تحذيرات الأجهزة السيادية الإيطالية للحكومة.
من المعروف أن إيطاليا تعتبر واحدة من أعلى دول العالم من حيث ارتفاع أعمار السكان فقد قدرت نسبة من هم فوق ال65 عاماً في إيطاليا ب 23,6% الأمر الذي أدى لزيادة فرص إنتشار الإصابة وزيادة حالات الوفاة.
وتشابه الثقافة الأسرية في إيطاليا عادات الدول العربية حيث دائما ما تشهد الأسر الإيطالية تجمعات عائلية كبيرة اسبوعيا وهو ما أدى لزيادة الإصابات والتي من الممكن أن تكون انتقلت من الشباب ذوي المناعة الكافية لمقاومة أعراض الفيروس لاقاربهم الأكبر سنا والأقل مناعة.
كذلك وبالعودة لبداية الأزمة في أوائل فبراير لم تقم إيطاليا بوضع العائدين من الصين بالحجر الصحي بل لم تقم حتى بإجراءات كشف دقيقة على القادمين من الدول الأسيوية على عكس دول كألمانيا وفرنسا اللتين عزلتا كل من قدم إليها من الصين في فترة انتشاره الأولى بمجرد وصولهم للبلاد.
أما الخطأ القاتل فكان مشتركاً بين المجتمع والقادة السياسيين، فمع صدور قرار حظر التجوال ظهر تخبط واضح بين السياسيين الذي حاول كل منهم القفز على المشهد ، لدرجة أن بعض من أبرز السياسيين الطليان دعا المواطنين لممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
ولم يأخذ الايطاليون ، بدورهم ، الأمر بجدية في البداية ولم ينصاعوا لقرارات الحكومة التي جحاءت متأخرة حيث شهدت الأماكن العامة والحدائق ازدحاما بمرتاديها مع أولى أيام حظر التجول التي اعتبرها الايطاليون اجازة مدفوعة الأجر من الحكومة في بادئ الأمر.
رسم بياني يوضح معدل الإصابات في إيطاليا بالأيام
لينك يشير لدرجة توزع الإصابات في أقاليم إيطاليا منذ بدأ الأزمة :
https://observablehq.com/@jashkenas/italy-coronavirus-daily-cases-map-covid-19
إسبانيا
أما في إسبانيا فالوضع لا يختلف كثيراً عما حدث في إيطاليا حيث كانت البلاد في منتصف فبراير وأوائل مارس على موعد مع عدد من الأحداث الجماهيرية الرياضية والفنية والثقافية وهو بالطبع ما أدى لسرعة تفشي الإصابة في البلد الثاني من حيث معدلات التفشي في أوروبا .
ولم تتوقف مباريات كرة القدم بالدوري الإسباني حتى بعد ظهور أولى حالات الإصابة والتي تشهد حضور جماهيري واسع بجميع مقاطعات البلاد ،كما نظمت عددا من المسيرات بالمقاطعات الرئيسية كإقليم كتالونيا والعاصمة مدريد تحديدا يوم 8 مارس احتفالا بيوم المرأة العالمي والتي قدرت أعداد المشاركين فيها في مدريد فقط ب120 ألف شخص كما نظمت في بداية مارس عدد من الاحتفاليات الثقافية بمقاطعتي فلينسيا ومدريد مما أدى لانتشار الفيروس.
باتت مدريد التي تلاحقت فيها الفعاليات الجماهيرية في شهر فبراير بؤرة الوياء في إسبانيا حيث تم كشف ثلثي الحالات في إسبانيا بمدريد بوقع أكثر من 16 ألف حالة في العاصمة و10 ألاف في إقليم كتالونيا.
ليست فقط الفعاليات هي ما أدت لزيادة حجم الإصابة فمثلما حدث في إيطاليا توافد عدد من أبناء الجالية الصينية مع عودتهم من الصين بعد الاحتفال برأس السنة الصينية ومن المعروف أن الجالية الصينية في إسبانيا هي أحد أكبر الجاليات الموجودة في البلاد مما أدى إلى أنتقال المرض من الصين إلى إسبانيا ثم انتشاره في المجتمع الإسباني .
ولم تتخذ الحكومة الاسبانية قرارات الحظر إلا بعد فوات الأوان كما أن إعلان رئيس الوزراء بيدرو سانشيز عن الحظر في أرجاء البلاد بعدما قررت بعد المقاطعات بشكل فردي فرض حظر التجوال أدى لهلع الجماهير نحو محال المنتجات الغذائية تحديداً في أيام 7 و 8 و9 مارس مما أدى لزيادة الإختلاط بين المواطنين.
رسم بياني يوضح معدل الإصابات في إسبانيا بالأيام
صورة توضح توزع الإصابات وانتشارها في إسبانيا
ختاماً
كما أشرنا سابقاً فبالعودة لما قبل ” الكارثة” ب 14 يوما يظهر الكثير من مسبباتها، ومن خلال ما سبق يتضح أمر بالغ الأهمية وأن مجابهة فيروس كورونا تعتمد بالإضافة للشق الطبي والبحثي وجاهزية الأنظمة الصحية (التي لا مثيل لها في أوروبا) لالتزام ووعي من المواطن بالإجراءات التي تتخذها الدولة كما ضرورة أن تقوم الدول باتخاذ إجراءاتها الوقائية في وقت مبكر تفادياً للسيناريو الإيطالي أو الإسباني.
لم تكن الصين لتنجح في حصر الفيروس (حتى الآن) إلا من خلال صرامة الإجراءات المتبعة وأشد درجات الالتزام من المواطنين فالصين لم تعلن عن عقار أو لقاح للفيروس كورونا بعد لكن الالتزام الصيني الشعبي كان كلمة السر في حصر وتقليل حجم الكارثة في بلد يصل عدد سكانها ل1,3 مليار شخص على عكس إيطاليا وإسبانيا اللتين بالرغم من تقدمهما على الصين في منظومة الصحة يبدو أنهما غير قادرتين على مجابهة الكارثة.
على الدول حكومات وشعب أن تعي الدرس جيداً فإيطاليا اليوم تتلقى مساعدات طبية من مختلف الدول لتستطيع الاستمرار في المواجهة حيث تعلن السلطات هناك يومياً عن ما يقرب من 4 ألاف حالة جديدة حيث أعلنت أمس الإثنين عن 4789 حالة جديدة أما إسبانيا فقد حولت اليوم الثلاثاء قاعة للتزلج على الجليد لمشرحة للوفيات بسبب عدم وجود أماكن كافية لحفظ الجثث حيث وصل إجمالي الوفيات فيها ل2800 حالة تقريباً ، على الطرف الأخر من الكوكب سجلت الصين الإثنين 39 حالة جديدة فقط تقول الحكومة أن كلها واردة إليها من الخارج كما من المقرر اليوم الثلاثاء أن يرفع حظر السفر من إقليم هايووبي حيث ظهر الفيروس للمرة الأولى في الصين.
علينا أن نعي جميعاً أن الالتزام والالتزام فقط هو السبيل للنجاة ليس الالتزام الفردي بل الالتزام المجتمعي الجماعي ولنا مما حدث في الصين وأوروبا عبرة، فلا يوجد خيار ثالث إما أن ينحصر الفيروس أو ينتشر كالنار في الهشيم فلا فائدة من إجراءات حكومية دون التزام مجتمعي بها كما لا فائدة من إجراءات متأخرة وغير صارمة قد تؤجل الكارثة فقط.
باحث ببرنامج السياسات العامة