ولاية ثالثة تبدأ بتحدٍ غير مسبوق: هل يستطيع لولا دا سيلفا توحيد البرازيليين بعد أحداث “الأحد الأسود”؟
انتقلت الأزمة السياسية الممتدة في البرازيل منذ انتخاب الرئيس لويس إيناسيو دا سيلفا أو “لولا دا سيلفا” أكتوبر الماضي إلى مرحلة جديدة يشوبها العنف وأعمال التخريب، يخشى الخبراء والمراقبون أن تكون الأزمة الممتدة سببًا في تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البرازيل بالأخص لتزامنها مع أحداث عالمية ممتدة تفرض الهدوء والاستقرار السياسي كسبيل للنجاة. بدأ فصل جديد من الصراع بين اليمين واليسار في دول القارة اللاتينية، يرفض فيه اليميني جيرالد بوليسونارو الرئيس السابق وأنصاره الاعتراف بالهزيمة في السباق الرئاسي متعللين “بفساد العملية الانتخابية” مطالبين القوات المسلحة البرازيلية باتخاذ أي إجراءات لازمة لإعادة الانتخابات ورفض تسليم السلطة للاشتراكي لولا دا سيلفا والذي فاز في سباق شرس بفارق ضئيل.
وكان آخر فصول الأزمة الممتدة منذ شهرين اقتحام أنصار بوليسونارو المعتصمين في الحي الحكومي “حي إسبيراندا” بالعاصمة برازيليا لمبنيي الكونجرس والمحكمة الدستورية العليا المتجاورين وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي، والقيام بعمليات تخريب تضمنت تهشيم الواجهات الزجاجية وتدمير الأثاث والأعمال الفنية داخل المبنيين، حيث يرى أنصار “بوليسونارو” اليمينيين أن أعضاء الكونجرس ومستشاري المحكمة الدستورية متخاذلون أمام ما يصفونه “بسرقة السلطة”.
تسلسل الأحداث
بدأت الأزمة في التصاعد بين جبهتي اليمين الداعمة للرئيس السابق “بوليسونارو” وجبهة اليسار الداعمة للرئيس الفائز في انتخابات أكتوبر وزعيم حزب العمال لولا دا سيلفا بفارق ضئيل وصل لـ0,9% مع وصول السباق الرئاسي لمراحله الأخيرة، حيث اتجه “بوليسونارو” إلى التشكيك في صحة الإجراءات الانتخابية، واتهام المحكمة الدستورية بتوجيه الانتخابات لصالح “دا سيلفا”، وهو ما يقتنع به أنصاره.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات متواترة تشكك في صحة العملية الانتخابية، وتروج لشعار “سرقة البرازيل” في إشارة إلى سرقة الانتخابات. لتحدث أعمال عنف طفيفة بين الطرفين خلال العملية الانتخابية، ما استلزم وجودًا قويًا للأجهزة الأمنية خلال فترة الانتخاب؛ لمنع حدوث أي نزاعات بين الكتلتين المهيمنتين على الحياة السياسية في البرازيل (مع أفضلية تاريخية لليمين الممثل في الحزب الديمقراطي والذي ينظر لنفسه كممثل أوحد للوطنية والقومية البرازيلية).
وفي أعقاب خسارته للانتخابات وإعلان النتيجة في أكتوبر الماضي رفض أنصار اليميني “بوليسونارو” الاعتراف بنتيجة الانتخابات، وقاموا نتيجة لذلك بناء المخيمات خلف الحواجز الأمنية المؤدية إلى الحي الحكومي والذي يضم القصر الرئاسي والكونجرس والمحكمة الدستورية العليا؛ واعتصموا رافضين الانصياع لرأي الأكثرية من الشعب والاعتراف بالهزيمة في الانتخابات.
وقد أدى التلاسن المستمر والكيل بالاتهامات بين الطرفين خلال الفترة منذ إعلان فوز الرئيس “دا سيلفا” حتى بداية العام الحالي وحلف اليمين في الأول من يناير -والذي تغيب “بوليسونارو” عنه متعللًا بوعكة صحية يعالج على إثرها في ولاية فلوريدا الأمريكية- إلى استمرار كرة الثلج في التضخم إثر التصريحات العدائية من القيادات الحزبية والحملة الإلكترونية “أوقفوا سرقة البرازيل” التي أطلقها أنصار “بوليسونارو” والتي تروج إلى أن وصول الاشتراكي ” لولا دا سيلفا” إلى الحكم يعني انهيار القيم البرازيلية وبالأخص القيم الدينية وحرية التعبير، وهي تهم دائمًا ما يروجها أنصار اليمين للنيل من الشعبية الجماهيرية لليسار في معظم دول القارة اللاتينية. وهو نسق مشابه لما حدث في بيرو من تشكيك في التوجهات الدينية وافتراض لسعي القوى اليسارية إلى تكميم الأفواه وفرض معايير وقيم مجتمعية جديدة مخالفة للموروث المجتمعي لتلك الدول.
أعمال التخريب في مبنى المحكمة الدستورية العليا
وقد شهدت البرازيل عددًا من الأحداث خلال الشهر الماضي أججت حالة الاستقطاب وتشجيع العنف المجتمعي، منها: محاولة أحد أنصار “بوليسونارو” زرع متفجرات بأحد التجمعات المؤيدة للرئيس “دا سيلفا”، وقيام آخرين بحرق أحد مقرات الشرطة اعتراضًا على ما يصفونه “بتخاذل الأجهزة التنفيذية أمام تزوير وفساد الانتخابات”. ومع الوصول إلى يوم حلف اليمين مع مطلع العالم الجديد، ازداد عدد المعتصمين في العاصمة برازيليا وخاصة في الشارع المؤدي إلى مبنى الكونجرس البرازيلي.
اقتحام أنصار جيرالد بوليسونارو للكونجرس والمحكمة الدستورية العليا في العاصمة برازيليا الأحد 8 يناير
بعد ذلك بأيام وبحلول يوم الأحد الذي وصفه المراقبون بيوم غير مسبوق في تاريخ البرازيل بسبب ما شهده من فوضى غير مسبوقة، وصل ما يقرب من 4 آلاف شخص من مختلف ضواحي البلاد للانضمام للمعتصمين في “اليوم الموعود لاسترداد الشرعية المسروقة” حسب قناعتهم، مطلقين على اعتصامهم اسم “الربيع البرازيلي”، ليقوموا باقتحام الحواجز الأمنية بحلول ظهر اليوم وصولًا إلى مقر الكونجرس والمحكمة الدستورية العليا، واقتحام القصر الرئاسي والقيام بعمليات تخريبية وُصفت بالممنهجة، قبل أن تتمكن قوات الأمن بحلول السادسة مساءً من السيطرة على الوضع باستخدام خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، لكن المتظاهرين استمروا في الاعتصام أمام مبنى الكونجرس ما نتج عنه صدامات مباشرة مع قوات الأمن أدت لاعتقال ما يقرب من 1500 شخص وإصابة العشرات.
مساء الأحد 8 يناير بعد سيطرة قوات الأمن على الوضع واستمرار الاعتصام داخل مبنى الكونجرس
وكرد فعل وفي اليوم التالي وعلى الرغم من استمرار حالة الصدمة مما جرى وتخبط المشهد الإعلامي بين مؤيد لنقل السلطة والحفاظ على الشرعية وداعٍ إلى تدخل الجهات الأمنية لإيقاف تنصيب “دا سيلفا”، نزل أنصار “دا سيلفا” إلى الشارع في مظاهرات ضخمة عجت بها الشوارع الرئيسة في ساو باولو وريو ومنطقة ماراكانا، توشح فيها المشاركون بالزي الأحمر رمز الاشتراكية ولون حملة لولا دا سيلفا. وقامت قوات الأمن مع بداية اليوم التالي بفض اعتصام أنصار “بوليسونارو” الكائن في قلب العاصمة برازيليا.
الدوافع والأسباب
لم تكن أحداث “الأحد الأسود” مفاجئة للمراقبين للوضع في البرازيل؛ فقد كان انفجار الوضع مجرد مسألة وقت بسبب استمرار تغذية النزعة الاستقطابية في المجتمع، ودخول التنظيمات الإجرامية في المعادلة وهي المعروفة بقدرتها على التأثير على الوضع السياسي وأمن الشارع. إلا أن ما استغربه متابعون هو ما وصفوه بتساهل الأمن البرازيلي وقيادات الجيش مع ما جرى، بل السماح بحدوثه وعدم اتخاذ أي إجراء احترازي مع زيادة أعداد المعتصمين يوميًا في شوارع برازيليا المؤدية إلى القصر الرئاسي. بل قيل إن البعض من قوات الأمن المسؤولة عن حماية الحي الحكومي شُوهدوا وهم يلتقطون الصور التذكارية مع المشاركين في أعمال التخريب.
قد يعزى ذلك إلى العلاقات القوية التي تجمع “بوليسونارو” بالأجهزة الأمنية وقيادات الجيش الموالية له وغير الراضية عن تسليم السلطة إلى الرئيس لولا دا سيلفا ذي التوجهات الاشتراكية؛ الأمر الذي نتج عنه مساءلة واستنكار بالغ من المواطنين لدور الأجهزة الأمنية فيما جرى. وعلى إثر ذلك، أصدرت المحكمة العليا قرارًا بوقف عمدة مدينة برازيليا “إيبانيس روخا” المعروف بكونه أحد المقربين من “بوليسونارو” لمدة 90 يومًا، وإقالة وزير الأمن الداخلي “أندريس توريس” من منصبه بتهم التقاعس والتقصير المتعمد وسلبية التصرف مع الموقف بغرض تيسير الأعمال التخريبية.
وعن الدافع وراء ما قام به أنصار “بوليسونارو”، فلا يمكن فصله عن الخطاب الشعبوي لزعيمهم، وكذلك التأثر بمشهد اقتحام الكونجرس الأمريكي في 6 يناير 2021؛ فمن المعروف وجود توافق بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ونظيره البرازيلي السابق جايير بولسونارو، وهو ما يفسر توجهه إلى فلوريدا (ولاية الرئيس الأسبق ترامب) بعد الانتخابات، واعتماده كذلك على مستشاري ترامب اليمينيين الذين يتهمهم البعض بالضلوع في تنسيق حملة النيل من لولا دا سيلفا ورفض نقل السلطة له على وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة النزعة الاستقطابية في الشارع البرازيلي.س
وتشير أصابع الاتهام إلى كبير استراتيجيي البيت الأبيض سابقًا والمقرب من الرئيس ترامب “ستيفين بانون“ والذي أخذ على عاتقه -من خلال حلقات صوتية يبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من المنشورات والدعوات الإلكترونية- الترويج لسرقة الانتخابات البرازيلية، والترويج لمصطلح “الربيع البرازيلي”، و”دور محاربي الحرية” في حماية البلاد من السقوط في دوامة الاشتراكية. وبناء على ذلك، وصل أنصار “بوليسونارو” لقناعة بأن الرئيس الاشتراكي الجديد سيحول البرازيل إلى دولة اشتراكية تشبه فنزويلا وكوبا، وأن خسارة مرشحهم تعني نهاية الديمقراطية في البلاد، مطالبين بتدخل فوري للجيش وقوات الأمن لمنع وصول الاشتراكين للحكم، وهو ما يتماشى مع رغبة الأجهزة الأمنية وقيادات الجيش التي تربطها علاقات قوية مع “بوليسونارو” تعزى إلى أنه وخلال ولايته كانت أحد أهم أولويته هي فرض الأمن وتعزيز وتطوير الأجهزة الأمنية وظروف أفرادها المعيشية.
أنصار جيرالد بوليسونارو يرفعون لافتات كتب عليها #الربيع_البرازيلي أثناء اقتحامهم للحي الحكومي.
تحديات الولاية الثالثة
على المسرح الدولي، تعددت ردود الأفعال حول أحداث الأحد في البرازيل وما تلاه من أحداث؛ فالرئيس الأمريكي جو بايدن صرح بأن “الهجوم على الديمقراطية ومنع الانتقال الشرعي للسلطة هو أمر غير مقبول”، وأجرى اتصالًا بالرئيس “لولا” للتعبير عن دعم الولايات المتحدة لنقل السلطة في البرازيل وتعزيز الديمقراطية. وأبدت الخارجية الأمريكية انزعاجها من الأحداث واستنكرت وجود “بوليسونارو” على أراضيها بالتزامن مع الأحداث؛ كونه مسؤولًا عما جرى مع إشارة لمراجعة التأشيرة الخاصة به.
بدوره، صرح المستشار الألماني أولاف شولتس بأن “الهجوم على الديمقراطية لا يمكن تحمله”. وكذلك دعمت كل من الصين وتركيا والمملكة المتحدة من خلال بيانات صادرة عن وزارات خارجيتها موقف لولا دا سيلفا ورفض العنف وحث الأطراف على الهدوء، مطالبين بضرورة فرض الأمن. وأبدت حكومتا كولومبيا والمكسيك تعاطفًا مع الرئيس لولا دا سيلفا واصفتين ما حدث بمحاولة الانقلاب على شرعية العملية الانتخابية الديمقراطية.
أما “بوليسونارو” المختفي عن الأنظار منذ خسارته للانتخابات، فكتب تغريدة عبّر فيها عن رفضه للاقتحامات وأعمال العنف والتخريب، إلا أن ذلك جاء متأخرًا فهو على علم لما يدبر منذ خسارته للانتخابات وأسهمت تصريحاته حول فساد العملية الانتخابية في زيادة التوتر في الشارع البرازيلي. بدوره وعد الرئيس الجديد بمحاسبة المخربين كما المتقاعسين من الأجهزة الأمنية والمسؤولين عن أحداث الأحد الأسود.
ومع نهاية الأحداث الصادمة وغير المسبوقة في تاريخ خامس أكبر دولة من حيث المساحة في العالم وهدوء المشهد نسبيًا بنهاية هذا الأسبوع مقارنة ببدايته، سيتعين على الرئيس لولا دا سيلفا إيجاد مخرج من الأزمة الراهنة والتي يعني استمرارها صعوبة تحقيق الأهداف واستحالة الاستمرارية مع استمرار حالة الاستقطاب وانسداد الأفق السياسي، فضلًا عن أنه قد يواجه مضايقات مستمرة من مراكز القوى الموالية لليمين خلال سعيه إلى تطبيق سياساته الإصلاحية.
الرئيس لولا دا سيلفا يتفقد المباني التي تعرضت للتخريب في الحي الحكومي 9 يناير
ومن المؤكد أن الولاية الثالثة للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا ستشهد تحديات جمة ستستلزم منه إيجاد أرضية مشتركة بين البرازيليين المنقسمين بين الألوان الأحمر اليساري الاشتراكي والأصفر والأخضر اليميني القومي، والتأكيد على أن استكمال المسار الديمقراطي هو السبيل الوحيد للنجاة، بالإضافة إلى لم شمل المؤسسات وتحفيزها للعمل لمصلحة البرازيل والبعد عن الحسابات السياسية. وقد يساعده في ذلك الدعم واعتراف المجتمع الدولي بشرعيته، ووجود حالة رفض لأعمال العنف والتخريب حتى من قبل بعض القيادات السابقة والمحسوبين على تيار “بوليسوناريو”؛ خشية خسارة الجماهيرية.
وسيتعين على لولا دا سيلفا تشكيل حكومة إنقاذ تعمل على لم الشمل حول مشروع وطني يجمع عليه البرازيليون. وستكون قناعة الشعب ببرنامج حزب العمال، وقدرة الحزب والتيار اليساري على تحقيق انفراجة اقتصادية، وتحسن في ملفات التعليم والصحة، ومعالجة البطالة، ومعالجة الانقسام السياسي، وإعادة مؤسسات الدولة وهيئاتها إلى حالة الحياد اللازمة للبناء، وإنهاء حالة الفتنة المجتمعية؛ أهدافًا حتمية لإدارة لولا دا سيلفا في طريقها المليء بالتحديات. وستعد إعادة الأمن إلى الشارع البرازيلي أول اختبار حقيقي لمدى صرامة الرجل المنهك من الصراع السياسي والتنكيل به منذ ولايته الأولى مرورًا بولايته الثانية التي أفضت إلى سجنه بتهمة الفساد وصولًا إلى ولاية جديدة تبدا بأحداث غير مسبوقة في تاريخ البرازيل.