
العقدة التاريخية: أجداد إردوغان والجيش المصري
لا يمر أسبوع دون أن يكرر إردوغان وحاشيته محاولاتهم النيل من استقرار “المحروسة” بعد سنوات طويلة من تجربة محمد علي باشا التي نجح فيها في تقليم أظافر السلطنة العثمانية والقضاء على أطماعها فى نهب ثروات الدولة المصرية؛ تلك المرة يقود رجب طيب أردوغان مشروعًا توسعيًا إخوانيًا يتبنى العودة من خلال مشروع الخلافة أو الحق التاريخي كما يحلو له أن يردد تبريرًا لتدخلاته فى المحيط الإقليمى لدولته التي تقف على أعتاب أزمة هوية بين دولة أتاتورك التي قضت على شبح رجل أوروبا المريض وأقامت نظامًا علمانيًا خالصًا وبين أطماع تيار الإسلام السياسي والإخوان الذين اجتاحوا دول المنطقة في أعقاب الربيع العربي وأدواته في هذا ميليشات وجماعات إرهابية مسلحة تلقى دعمًا وتدريبًا من أنقرة وصمتًا غير مبرر من العواصم الغربية التي تعرف حقيقة ما يدور على الأرض ولكنها تقف صامته طالما يحقق هذا مصالحها العليا.
إردوغان الذي أطلق العنان لتصريحات وتحركات عدائية تعد بمثابة تحرش واضح بالجيش والمصالح المصرية في البحر المتوسط، عندما أعلن عدم اعترافه باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص التي تم توقيعها عام 2013 وهدد محذرًا كل الشركات من التنقيب والبحث عن الثروات في المنطقة الاقتصادية شرق المتوسط متجاهلا اتفاقيات مماثلة تم إقرارها بين قبرص وإسرائيل وقبرص ولبنان فما كان من القاهرة إلا إعلان التصدي لمحاولات المساس بالسيادة المصرية على المنطقة الاقتصادية وأن الاتفاقية لا يمكن لأي طرف أن ينازع فى قانونيتها وأنها تتسق وقواعد القانون الدولي وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة.
كما قام إردوغان بتوقع إتفاقية ترسيم بحرى ودفاع وحماية مع فايز السراج رئيس ما يسمى بالمجلس الإنتقالى فى ليبيا دون موافقة وتصديق البرلمان الليبى؛ الكيان الوحيد المنتخب فى دولة الجوار المصرى.
ويمكن تفسير الخطوات التركية في أمرين؛ الأول: هو تصدير أزمة لمصر وإرهاب للشركات الأجنبية العاملة في المنطقة، وهو أمر توقعه صانع القرار المصري لأنه استمرار لنهج أنقرة التي لا تعترف بدولة قبرص من الأساس بحجة أن قبرص جزيرة مقسمة ليس لها أي حقوق اقتصادية في المياه العميقة بغاز البحر المتوسط؛ الأمر الثاني: هو حالة الجنون التي أصابت أردوغان بعد إنتهاء عقد استيراد الغاز من طهران في نفس توقيت بدء حقل ظهر إنتاجه بـ 350 مليون قدم مكعب يوميا من إجمالي إحتياطي 30 تريليون قدم مكعب غاز بقيمة اقتصادية تتخطى الـ 100 مليار دولار؛ إضافة لتحول مصر لتصبح مركزا إقليميا للطاقة إلى أوروبا وغيرها.
إردوغان الذى أعلن بدم بارد انتقال 5000 إرهابى من سوريا والعراق إلى سيناء لقتال الجيش المصري ومن بعدها آلاف المرتزقة والإرهابيين من الإخوان والدواعش إلى المسرح الليبى أمام صمت العالم هو الذي أدخل هؤلاء قبل سنوات إلى الأراضي السورية وكانت بلاده مقرًا لوجيستيًا للتدريب وعلاج الجرحى والتمويل بالمال والسلاح وتصريف النفط والآثار المنهوبة إلى الأسواق الخارجية؛ هو نفسه أردوغان الذي لا يترك فرصة إلا ووجه إهانة لمصر شعبًا وجيشًا ورئيسًا بعد أن أسقطوا حلفاءه واتباعه فى مكتب الإرشاد وحطموا حلمه في ثورة شعبية في 30 يونيو 2013؛ وهو إردوغان الذي يتحالف مع قطر وكل أعداء مصر والدول العربية من طهران إلى تل أبيب كي يعيد عقارب الساعة ويعود مشهد سيطرة الإسلام السياسي وتحقيق حلم الخلافة المزعوم.
تلك التصريحات والتحركات التي تطل علينا من حين إلى آخر تضعنا أمام الحقيقة التاريخية للصراع بين الأطماع التركية العثمانية وبين مصر التي تدافع دائما عن استقلالها في مراحل تاريخية وجولات بين البلدين، ولعل تجربة محمد علي باشا هي الملهمة في تفسير ما يحدث وأسبابه ونتيجته في ما بعد؛ حيث أن المتابع لنهج الرئيس عبد الفتاح السيسي في حكم مصر يمكنه أن يستنتج أن الرجل يستلهم من تجربة محمد علي الكثير وخاصة بناء جيش قوي، والاعتماد على القوات المسلحة في بناء “مصر الجديدة” كما يحلو له أن يردد؛ كما تجيب تلك الأزمات المتكررة مع إردوغان عن أسئلة كثيرة بخصوص تسليح الجيش وتدريبه المكثف من ناحية وانغماسه فى كل مناحي الحياة اليومية للمصريين.
فى كتابه “تاريخ العصر الحديث: مصر؛ من محمد على إلى اليوم” يقول المؤرخ محمد صبري أن الجيش كان الداعمة الأولى التي شاد محمد علي باشا كيانه مصر المستقلة، ولولاه ما تكونت الدولة المصرية الحديثة ولا تحقق استقلالها، وهو الذي كفل هذا الاستقلال وصانه 61 سنة وليس في منشات محمد علي ما نال عنايته مثل الجيش المصري، ويكفي دليلا على مبلغ تلك العناية أن منشآته الأخرى متفرعة منه، والفكرة في تأسيسها أو استحداثها إنما هى استكمال حاجات الجيش، فهو الأصل وهى التابعة.
فقرار محمد علي بإنشاء مدرسة الطب يرجع في الأصل إلى تخريج الأطباء الذين يحتاج إليهم الجيش، وكذلك دور الصناعة ومصانع الغزل والنسيج كان الغرض منها توفير حاجات الجيش والجنود من الأسلحة والذخيرة والكساء، واقتضى إعداد أماكن لإيواء القوات وبناء الثكنات والمعسكرات والمستشفيات، واستلزم تخريج الضباط إنشاء المدارس الحربية على اختلاف تخصصاتها، وكذلك المدارس الملكية كان الغرض منها تثقيف التلاميذ لإعدادهم على الأخص لأن يكونوا ضباطًا ومهندسين؛ وإرسال البعثات إلى أوروبا كان الغرض الأول منه توفير العدد الكافى من الضباط المؤهلين ومن الأساتذة والعلماء والمهندسين ممن يتصلون عن بعد أو قرب بالإدارة الحربية؛ صحيح أن هذه المنشأت وغيرها كان لها أغراض عمرانية تنموية أخرى لكن خدمة الجيش كانت أول ما فكر فيه محمد علي.
فالجيش العصرى وفق رؤية محمد على باشا هو الأداة لبناء الدولة الحديثة فضلا عن مهمته الأولى من الدفاع عن استقلال البلاد كان أداة لتقدم العمران فى ربوع “المحروسة”. فقد كان محمد على يدرك أنه لولا الجيش لضاع الاستقلال الذى نالته مصر فى عهده ولأستردت تركيا كل امتيازاتها القديمة فى البلاد واتخذتها ولاية تحكمها مباشرة كما تحكم سائر ولايات السلطنة العثمانية؛ أو لاحتلتها انجلترا بجيوشها عندما آلبت عليها الدول الأوربية كما فعلت لاحقا عام 1882 حين لم يكن ثمة جيش ولا دفاع ولا معاقل لحماية البلاد.
الأزمة الحالية مع تركيا العثمانية كاشفة وبالغة العمق إذ تشير إلى أن إردوغان لم يقرأ تاريخ بلاده وأجداده والمنطقة ولم يستطع إدراك ماهية التحركات المصرية لبناء جيشها القوى وإشراكه فى كل مشروعات التنمية بينما توضح الأزمة أن السيسي قد قرأ مبكرًا تجربة محمد على وحاجته لجيش قوى عصرى يشارك ويقود التنمية ومتأهب لحماية الدولة ومصالحها الحيوية جوًا وبرًا وبحرًا وداخليًا وخارجيًا.”.