مكافحة الإرهاب

“وثائق الاستخبارات الإيرانية”.. الحلقة الأولى: كيف هيمنت طهران على العراق؟

تم إرسال ما يقرب من 700 صفحة من التقارير التي تم تسريبها بشكل مجهول إلى موقع “ذا انترسبت” الأمريكي، الذي قام بترجمتها من الفارسية إلى الإنجليزية ومشاركتها مع صحيفة “ذا نيويورك تايمز” وفي هذه الرسائل المجهولة، قال مصدرها إنه يريد “إعلام العالم بما تفعله إيران في بلده العراق”.

وفي منتصف شهر (أكتوبر)، ومع تصاعد حدة الاضطرابات في بغداد دخل زائر مألوف بهدوء إلى العاصمة العراقية،  كانت المدينة محاصرة لأسابيع، حيث سار المتظاهرون في الشوارع، مطالبين بوضع حد للفساد وطالبوا  بالإطاحة برئيس الوزراء عادل عبد المهدي. وعلى وجه الخصوص، انصب غضب المتظاهرين حول التنديد بالتأثير الضخم لإيران في السياسة العراقية فقاموا بحرق الأعلام الإيرانية، كما هاجموا قنصليتهم الكائنة في بغداد. ولم يكن هدف الزائر إلى بغداد ” قاسم سليماني” مجرد مراقبة الوضع والمخاطر فقط وإنما لدعم “عادل عبد المهدي” للإبقاء على العراق في الدائرة التي ترغب إيران بها.

ما كشفت عنه الوثائق

يكشف التسريب غير المسبوق عن تأثير طهران الهائل في العراق، والذي يعرض سنوات من العمل المضني الذي قام به “الجواسيس الإيرانيون” لاختيار قادة البلاد، ودفع رواتب وكلائهم من العراقيين الذين يعملون لصالح الأمريكيين في سبيل تبديل مواقفهم، والتسلل إلى كل جانب من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والدينية في العراق. 

وحسب الوثائق المسربة فإن الاجتماعات بين الإيرانيين وعملائهم العراقيين تمت غالبًا في الأزقة المظلمة ومراكز التسوق أو تحت غطاء آخر مثل رحلة صيد أو حفلة عيد ميلاد. وحسب الوثائق فقد تم تقديم رشاوى للمسؤولين العراقيين، ويضم الأرشيف المسرب مصاريف ضباط وزارة الاستخبارات في العراق، بما في ذلك مبالغ أنفقت على ضابط كردي.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\3-2-quote-1574026692.jpg

بغداد.. نقطة انطلاق “لعبة التجسس” بين طهران وواشنطن

وفقًا لأحد البرقيات الاستخباراتية الإيرانية التي تم تسريبها، فإن عبد المهدي، الذي كان يعمل في المنفى عن كثب مع إيران أثناء وجود صدام حسين في السلطة في العراق، كانت له “علاقات خاصة ” مع جمهورية إيران الإسلامية – عندما كان وزيرًا للنفط في 2014. ولذلك فإن عبد المهدي، عندما وصل إلى رئاسة الوزراء عام 2018، كان مرشحًا توافقيًا مقبولًا من إيران والولايات المتحدة على حد سواء.

وتؤكد تقارير الاستخبارات الإيرانية التي تم تسريبها إلى حد كبير ما كان معروفًا بالفعل حول قبضة إيران الحازمة على السياسة العراقية.لكن التقارير تكشف أكثر بكثير مما كان معروفاً في السابق عن مدى استخدام إيران والولايات المتحدة “العراق” كنقطة انطلاق لألعاب التجسس. وتبين الوثائق كيف أن إيران تفوقت، في كل منعطف تقريبًا، على الولايات المتحدة في المنافسة على النفوذ.ويتكون الأرشيف “المسرب” من مئات التقارير التي كتبت بشكل رئيسي في عامي 2014 و 2015 من قبل ضباط وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية .

الحرس الثوري يسمي كبار المسئولين في مناطق نفوذه

 في العراق ولبنان وسوريا، يحدد الحرس الثوري – وخاصة ” فيلق القدس” بقيادة سليماني السفراء الذين سيتم تعيينهم بتسمية من القيادات العليا في الحرس الثوري الإيراني وليس من وزارات الخارجية في تلك الدول.

 وقد قام العديد من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين في العراق بإقامة علاقات سرية مع طهران، كما سمت الوثائق أيضًا أعضاءً في حكومة “حيدر العبادي” انضموا لنفس الركب. وقد رفض” حسن دانييفار “، سفير إيران في العراق من 2010 إلى 2017 ونائب قائد القوات البحرية للحرس الثوري سابقًا التعليق على الوثائق المسربة، لكنه أشار إلى أن إيران لها اليد الطولى في جمع المعلومات في العراق. 

عملاء واشنطن بالأمس، جواسيس إيران اليوم

حسب الوثائق، فإن إيران سارعت لضم مُخبر استخباراتي أمريكي سابق إلى صفوفها بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011. وكشف وثيقة غير مؤرخة أن طهران بدأت وقتذاك في تجنيد جاسوس داخل وزارة الخارجية الأمريكية.

لم تذكر الوثيقة أي تفاصيل أخرى عن العميل الاستخباراتي، أو الشخص الذي حاولت إيران تجنيده داخل وزارة الخارجية، واكتفت بالإشارة إلى أنه قادر على تقديم رؤى استخباراتية حول الخطط الولايات المتحدة في العراق، بخصوص التعامل مع داعش أو أي عمليات سرية أخرى.ورفضت وزارة الخارجية الأمريكية التعليق على الأمر.وعندما أطاحت القوات الأمريكية بصدام، نقلت إيران بسرعة بعض من أفضل ضباطها من كل من وزارة الاستخبارات ومن منظمة الاستخبارات للحرس الثوري إلى العراق .  

وتكمن المهام الرئيسية لوكلاء إيران في العراق في الحد من المسلحين السنة على الحدود الإيرانية ؛ والابتعاد عن الحرب الطائفية التي قد تجعل المسلمين الشيعة أهدافاً للعنف ؛ وتحييد كردستان التي تهدد الاستقرار الإقليمي والسلامة الإقليمية الإيرانية. 

كيف استطاعت إيران التوغل في العراق؟

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\GettyImages-1157228072-mahdi-1573867941.jpg

 كان من بين أكثر السياسات الأمريكية كارثية قرارات تفكيك القوات المسلحة العراقية وتطهيرها في العملية المعروفة باسم “اجتثاث البعث”، والتي أفضت إلى تهميش معظم الرجال السنة حيث أضحوا عاطلين عن العمل وشعروا بالحقد البالغ نحو الأمريكان والشيعة.

ومع اندلاع الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، نظر السكان الشيعة إلى إيران كحامية. وعندما سيطر داعش على الأراضي والمدن، أدى ضعف الشيعة وفشل الولايات المتحدة في حمايتهم إلى تغذية الجهود التي بذلها الحرس الثوري لتجنيد وتعبئة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران.

ووفقا لوثائق وزارة الاستخبارات، واصلت إيران الاستفادة من الفرص التي منحتها الولايات المتحدة لها في العراق. كما قامت المخابرات المركزية الأمريكية بطرد العديد من عملائها السريين في بلد محطم من الغزو ومهددين جراء علاقاتهم مع الولايات المتحدة.ولذلك بدأ الكثيرون في تقديم خدماتهم إلى طهران. 

الضابط العراقي

في (نوفمبر) 2014، انفصل أحدهم، وهو عراقي كان قد تجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، وخشي من أن علاقاته بالأميركيين ستكلفه حياته، وقد عرفته المخابرات المركزية الأمريكية باسم مستعار: “دوني براسكو”. وانتقل إلى إيران للحماية، وقرر إن كل ما يعرفه عن جمع المعلومات الاستخباراتية الأمريكية في العراق هو للبيع.وقد أخبر المصدر العملاء الإيرانيين بأنه كان يعمل لدى الوكالة لمدة 18 شهرًا ابتداءً من عام 2008، في برنامج يستهدف القاعدة. وقال إنه حصل على أجر جيد مقابل عمله – 3000 دولار شهريًا، بالإضافة إلى مكافأة لمرة واحدة قدرها 20.000 دولار وسيارة.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\2-quote-1574008983.jpg

أمريكا تختار الرئيس وإيران الوزراء

مثّل تنظيم داعش تهديدًا لإيران، ولذلك ارتأى البعض داخل النظام الإيراني ضرورة تنسيق الجهود مع الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم، ولكن إيران كما توضح الوثائق رأت في التدخل الأمريكي في العراق لمحاربة التنظيم فرصة لواشنطن لجمع معلومات عن طهران.

ومع ظهور داعش اشتد غضب الولايات المتحدة على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، باعتبار سياساته الطائفية المتشددة وحملاته القمعية ضد السنة هي التي ساعدت على ظهور داعش، ولذلك كان الخيار الأمريكي هو إزاحته، ومن بعدها جاء حيدر العبادي الذي كان بالنسبة لواشنطن أكثر قربًا للغرب وأقل طائفية، وبذلك سقط حليف إيران في بغداد.

ولكنّ الأوراق التي تملكها إيران داخل العراق مكّنتها من اختيار أو مصادقة تعيين الوزراء؛ وفي مقدمتهم وزير الخارجية السابق إبراهيم الجعفري الذي تربطه علاقات وثيقة –لم ينفها- مع إيران، ووصفت التقارير وزراء البلديات والاتصالات وحقوق الإنسان بأنهم في “وفاق تام معنا”، وذلك لأنه حسب التسريبات أعضاء في منظمة بدر التي أسستها إيران في العراق في الثمانينيات، كما وصفت إيران وزير البيئة “يعمل معنا رغم أنه سني”، ووزير الداخلية “قريب جدًا من إيران”، ووزير التعليم “لن نواجه مشكلة معه”.

https://theintercept.imgix.net/wp-uploads/sites/1/2019/11/4-1-quote-1574009044.jpg?auto=compress%2Cformat&q=90&w=1000&h=1231

الهيمنة الإيرانية تفوق الأمريكية

ما كان لإيران أن تكمل تدخلها العسكري في سوريا لدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلا بمساعدة من العراق. مساعدة طلبها قائد فيلق القدس قاسم سليماني في لقائه مع وزيري الداخلية والنقل العراقيين في 2014، وهي حاجة إيران إلى استخدام المجال الجوي العراقي لنقل طائرات محملة بالأسلحة وغيرها إلى سوريا، ورغم أن مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ضغطوا بقوة من أجل إقناع العراقيين بإيقاف الرحلات الجوية الإيرانية عبر مجالهم الجوي، فإن وزير النقل العراقي أكد أنه لإيران أن ذلك مستحيل.

https://theintercept.imgix.net/wp-uploads/sites/1/2019/11/5-quote-1574009072.jpg?auto=compress%2Cformat&q=90&w=1000&h=408

وفي هذه الأثناء، تعرض المسؤولون العراقيون المعروفون بعلاقاتهم مع الولايات المتحدة لتدقيق إيراني خاص، واتخذت طهران تدابير لمواجهة النفوذ الأمريكي، ولم تكن اللقاءات السرية للوزراء العراقيين مع كبار الدبلوماسيين الأمريكيين بمعزل عن الطرف الإيراني، بل كانت المحادثات ترسل إلى الإيرانيين بشكل دوري، كما أن محادثات رئيس مجلس النواب العراقي في ذلك الوقت سليم الجبوري الذي كانت تربطه علاقات وثيقة بإيران مع المسؤولين الأمريكيين كانت تنقل إلى إيران عبر أحد كبار مستشاريه السياسيين الذي كان عميلًا للاستخبارات الإيرانية.

وحث المصدر الإيرانيين على تطوير علاقات أوثق مع الجبوري، لعرقلة الجهود الأمريكية لرعاية طبقة جديدة من الزعماء السنّة الشباب في العراق، وربما لتحقيق المصالحة بين السنة والشيعة. وحذرهم من أنه يتعين عليهم التصرف لمنع رئيس البرلمان من “الانزلاق إلى موقف موالي لأمريكا”.

https://theintercept.imgix.net/wp-uploads/sites/1/2019/11/6-quote-1574009092.jpg?auto=compress%2Cformat&q=90&w=1000&h=833

ولم يكن إقليم كردستان بغائب عن هذه الهيمنة الإيرانية المتجذرة، إذ تكشف الوثائق أن نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان التقى في ديسمبر 2014 بكبار المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين بالإضافة إلى رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، ثم توجه على الفور لمقابلة مسؤول إيراني لإخباره بكل شيء.

مجازر طهران تفتح الباب لواشنطن

لم تكن الهيمنة الإيرانية على العراق سياسية فقط، وإنما عسكرية أيضًا عبر الميلشيات الشيعية التابعة لفيلق القدس بزعامة قاسم سليماني، وخاصة “الحشد الشعبي” وقد ارتكبت هذه الميلشيات عشرات الجرائم والمذابح بحق العراقيين، ومن أبرزها ما حدث في مدينة جرف الصخر الذي قامت الميلشيات الشيعية باجتياحها في إطار حربها ضد تنظيم داعش، إذ تم قتل بعض أهل المدينة السنة، وتشريد عشرات الآلاف، وهو ما تسبب في المزيد من نفور العراقيين السنة من إيران.

وأظهرت الوثائق أن وزارة الاستخبارات الإيرانية خافت من تبديد مكاسب إيران في العراق لأن العراقيين كانوا يكرهون الميليشيات الشيعية وفيلق القدس، وألقى ضباط الاستخبارات في ذلك باللوم على قاسم سليماني، وانتقد أحد التقارير الجنرال سليماني بشكل شخصي لنشره دوره الرائد في الحملة العسكرية في العراق من خلال “نشر صور لنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة”.

وقال التقرير إن هذه السياسة الإيرانية في العراق سمحت للأمريكيين بالعودة إلى العراق بشرعية أكبر، فالمجموعات والأفراد العراقيين السنة الذين كانوا يقاتلون ضد أمريكا باتوا يتمنون ألا تدخل أمريكا وحدها، بل وحتى إسرائيل، لإنقاذ العراق من براثن إيران “.

https://theintercept.imgix.net/wp-uploads/sites/1/2019/11/8-quote-1574009136.jpg?auto=compress%2Cformat&q=90&w=1000&h=1381

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى