
منافع مشتركة.. الصين توطد علاقاتها مع أفغانستان تحت حكم طالبان
في مسعى من الصين لتعزيز نفوذها في المنطقة بل وعلى نطاق أوسع، للحفاظ على مصالحها والتوجه نحو تحقيق استراتيجيتها الكبرى، اتجهت بكين مؤخرًا نحو تبني علاقات دبلوماسية أوثق مع أفغانستان بل وتوطيد العلاقات تدريجيًا على مختلف المستويات، وذلك على غرار الخطوات المشتركة التي اتخذها البلدين على المستوى السياسي والتي توحي باعتراف الصين بطالبان. مما يدفع للتساؤل عن أهداف بكين للتعاون المشترك مع حكومة تعد منبوذة من المجتمع الدولي ومفروض عليها عددًا ليس بقليل من العقوبات الدولية؟ وما الذي قد تكتسبه حكومة طالبان من مثل هذه الشراكة؟
مسار العلاقات الصينية – الأفغانية
اتخذت الصين، باعتبارها واحدة من الدول المجاورة لأفغانستان، موقف “الانتظار والرؤية” في السنوات العشرين الماضية.
وكان التواجد الأمريكي في أفغانستان أحد العراقيل الرئيسة أمام مصالح الصين في أفغانستان، ولكن مع انسحاب واشنطن من هناك سنحت الفرصة لبكين لكسب مساحة في الواقع الأفغاني الجديد، وهو ما يفسر الزيارة السريعة التي أجراها وفد من حركة طالبان إلى الصين عقب الانسحاب، ثم قيام الطرفين بتعزيز شراكة التعاون الاستراتيجية بينهم. وتتضمن خطوات التقارب بين البلدين قبول الصين رسميًا سفير حكومة طالبان الأفغانية في بكين، ما يجعلها أول دولة تستضيف سفير طالبان منذ أن استعادت الجماعة الإسلامية السلطة من حكومة مدعومة من الولايات المتحدة في كابول قبل ما يقرب من ثلاثة أعوام. ولكن، على الرغم من ذلك، لم تعترف الصين أو أي بلد آخر رسميًا بالإدارة الأفغانية بحكم الأمر الواقع.
كما دعت الحكومة الصينية مندوبي حكومة طالبان إلى منتدى الحزام والطريق العالمي في أكتوبر الماضي، مما يمثل أول تجمع متعدد الأطراف رفيع المستوى يحضره الحكام الأفغان منذ عودتهم إلى السلطة. وسبق ذلك وتحديدًا في سبتمبر الماضي، تعيين سفير للصين في كابول تحت حكم طالبان، لتصبح الصين أول دولة تتخذ مثل هذا الإجراء، بينما اعتمدت الدول الأخرى بعض السياسات التي لا تتطلب تقديم أوراق اعتماد إلى الحكومة المضيفة، إضافة إلى إغلاق العديد من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، مكاتبها الدبلوماسية في أفغانستان بعد أن تولت طالبان زمام الأمر، ورفضوا الاعتراف بحكومة طالبان وإقامة علاقات دبلوماسية معها.
ولم تكن هذه القرارات وليدة اللحظة بل كان هناك تعاون مشترك ممتد أدى بدوره للوصول إلى هذه الدرجة من التقارب السياسي، والذي يأتي ضمنهم اللقاء الثنائي الذي عقد بين وزير الخارجية الصيني السابق “تشين جانج” والقائم بأعمال وزير الخارجية بحكومة طالبان مولوي “أمير خان متقي” منتصف أبريل الماضي، في أوزبكستان، على هامش أعمال اجتماع وزراء خارجية الدول المجاورة لأفغانستان. وبحث الطرفان خلاله سُبل تعزيز التعاون المشترك بينهما في المجالات المختلفة. فضلًا عن العديد من الزيارات التي تبادلها الطرفين منذ عام ٢٠٢١ وحتى الآن والتي تمحورت حول عدة مواضيع مثل تعزيز التعاون الأمني المشترك وتوسيع أطر العلاقات السياسية والتعاون الاقتصادي المشترك. علاوة على اتفاقيات النفط التي أجرتها البلدين، حيث قامت طالبان في يناير ٢٠٢٣ بالتوقيع مع الشركة الصينية في شينجيانج “آسيا الوسطى للنفط والغاز” عقدًا مدته ٢٥ عامًا لاستخراج النفط في شمال أفغانستان، كما وقعت، في يوليو الماضي، عقد مع شركة النفط الوطنية الصينية لاستخراج النفط وتكريره في حقل قشقري في ولاية سَربُل شمالي أفغانستان.
أفغانستان.. وسيلة لتعزيز توغل الصين
تتميز اهتمامات الصين على المستوى الدولي بطغيان الطابع الاقتصادي عليها، وهو ما يدفعها لخلق شراكات مع الدول التي من شأنها أن تساعد بكين على إحراز مكاسب اقتصادية تسهم في تحقيق استراتيجية الصين الكبرى بحلول عام ٢٠٤٩. ونظرًا لبعض التوترات القائمة بينها وبين عددًا من الدول الرائدة في بعض الصناعات مثل تايوان الرائدة في صناعة الرقائق الإلكترونية، تهتم الصين بتوفير بديلًا قادرًا على ملء الفراغ الذي قد تتسبب فيه أمور مثل تعليق التجارة مع هذه الدول وغيره. وعليه، لكون أفغانستان من أغنى الأراضي بمعدن الليثيوم المستخدم في الصناعات التكنولوجية والرقمية بشكل مكثف مثل صناعة الرقائق الإلكترونية، والتي تبني عليه الصين جزءًا ليس بقليل من مستقبلها الاقتصادي، ما يعد قادرًا على سد الفجوة التي قد تصنعها التوترات مع تايوان في هذا المجال، وهو ما تعمل فيه نحو ٢٥ شركة صينية في الأراضي الأفغانية. وهو ما يندرج تحت مصالحها التعدينية داخل كابول، والتي على غرارها، تم إبرام اتفاقيات بين الدولتين بقطاعات النفط والنحاس خلال العام الماضي، إضافة إلى اهتمامها بالتنقيب عن الذهب في الأراضي الأفغانية.
إضافة إلى ذلك، هناك عدد من المشروعات التي تراهن عليها السلطات الصينية والتي تشكل حجرًا أساسيًا في التنمية الاقتصادية الصينية ونفوذها على المستوى الدولي، وعلى رأسها مبادرة الحزام والطريق والتي تتضمن طريق الحرير البري الجديد الذي تسعى الصين لتمديده ليعبر من أفغانستان. وعلى الرغم من امتداد الحدود الصينية الأفغانية لمسافة ٧٦ كيلومترًا فقط، إلا أن هذا الرابط الجديد سيساهم في تعزيز التجارة بين البلدين والتي تبلغ قيمتها حاليًا ١.٥ مليار دولار سنويًا. وعليه، استطاعت الصين، بالاتفاق مع باكستان، ضم أفغانستان إلى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يبلغ طوله الإجمالي أكثر من ٣٠٠٠ كيلومتر وهو الذي يربط بين الحزام الاقتصادي لطريق الحرير في الشمال وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين في الجنوب. وفي ضوء الاهتمام الصيني الكبير بمجال الاستثمار تعمل بكين على تأمين استثماراتها في أفغانستان، وهو ما يتطلب نوعًا من التقدم على الصعيد الأمني مع حكومة طالبان الحاكمة في البلاد، خاصةً عقب الهجمات الدامية التي قام بها تنظيم داعش في ديسمبر ٢٠٢٢ بالعبوات الناسفة والقنابل اليدوية والأسلحة النارية على إحدى فنادق كابول كان يضم عددًا من النزلاء الصينيين من رجال الأعمال والدبلوماسيين.
وهو ما ينقلنا إلى الملف الأمني الذي يأتي على مقدمته مواجهة تنظيم داعش فرع ولاية خراسان الذي قد يسعى لشن هجمات تستهدف مصالح الصين داخل أفغانستان. إذ يمتد الخوف بشأن داعش إلى ما هو وراء مصالحها في أفغانستان، خاصةً وأن الأخير يحاول التوغل في دولة تقع على حدودها منطقة شينجيانغ الأويغورية داخل الأراضي الصينية والتي تضم الأغلبية المسلمة المنتمية لقومية الأيغور المضطهدين من السلطات الصينية والذين تسكن مجموعة منهم الأراضي الأفغانية. لهذا، ولكون تنظيم داعش يختلف مع طالبان في الأيديولوجية ويعترض سياسات الصين، فمن الممكن أن يؤدي تعاون طالبان التي تعد حكومة إسلامية في المقام الأول مع الصين إلى خلق بيئة خصبة لتنظيم داعش لخلق المزيد من التوترات إما عن طريق استهداف مصالح الصين في أفغانستان، أو عن طريق اعتراض سياسات طالبان لكونهم يتعاونون مع دولة تقوم باضطهاد المسلمين، وتشجيع المسلحين المناهضين للصين على استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد الأمن الصيني. وعليه، من الممكن أن تقوم الصين من خلال التعاون مع طالبان، بالعمل على حل هذه المشكلة الأمنية واحتواء الفوضى التي خلقتها الولايات المتحدة للصين على حدودها بعد انسحابها من الأراضي الأفغانية، وتقديم المساعدات الأمنية المختلفة للجانب الأفغاني لزيادة قدرتها على مواجهة خطر داعش.
منفذ لطالبان على الساحة الدولية
لكون طالبان مرفوضة من المجتمع الدولي ويعاديها الغرب لانتهاك حقوق الإنسان وخاصة المرأة والطفل، ولكون الغرب يفرض عليها عقوبات كثيرة كانت ولا زالت تؤثر على هذه الدولة التي تعتمد بقدر ليس بقليل على المساعدات، والتي تتميز ببطالة واسعة النطاق وانعدام الأمن الغذائي الشديد، حيث يحتاج ما يقدر بنحو ٢٣.٧ مليون شخص إلى مساعدة إنسانية في عام 2024، يعد تعاون طالبان مع بكين مصلحة كبيرة تضر بسيطرة الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة على أفغانستان. كما أنها قد تكون إشارة إلى الدول الأخرى للتقدم والتفاعل مع الحركة الأفغانية وإقامة علاقات جيدة معها من أجل حل أي مشكلات قادمة.
تكمن هذه المصالح أولًا في الشق الاقتصادي والاستثمارات الصينية في بلادهم والتي من شأنها أن تساهم في تنمية اقتصاد أفغانستان الذي أصبح على المحك منذ عودة طالبان إلى الحكم في ٢٠٢١، لا سيما وأن الصين تعد الاقتصاد الثاني على المستوى العالمي والذي يسعى أن يصبح الاقتصاد الأول في العالم بحلول عام ٢٠٤٩. هذا ونجد أن الصين تملأ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في أفغانستان، بل وتهدي الأخيرة مكاسب ترتقي لما هو أبعد من الجانب الاقتصادي، حيث إن الصين بطبيعة سياستها الخارجية، وبعكس الولايات المتحدة، لا تتدخل في السياسة الداخلية للدول بل تهتم بما يحقق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية فقط، وهو ما تتبعه في العديد من الدول المجاورة بل وأيضًا دول أفريقية تفتقر للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها لاتزال تقيم معهم علاقات اقتصادية واستثمارات.
وعليه، فهذه السياسة تمثل مكسبًا كبيرًا لأفغانستان، لأن بكين لن تطالب كابول باتباع مبادئ حقوق الإنسان أو تغيير سياساتها الداخلية طالما أنها تحقق المصالح التي تسعى إليها. إضافة إلى كون الصين غير زاعمة على تغيير السياسة الداخلية لطالبان، إلا أنها ليست من الدول التي من شأنها أن تعترض هذه السياسات القمعية بشكل جذري، أو على الأقل لا تولي اهتمامًا لها، خاصةً وأنها تتبع هي الأخرى بعض السياسات القمعية مع المسلمين الأيغور في غرب البلاد، على الحدود مع أفغانستان. ولكون الصين عضوًا دائمًا في مجلس الأمن وتتمتع بحق النقض “فيتو”، ولكونها لا تعترض سياسات طالبان القمعية خاصةً تجاه النساء بل تتبنى موقفًا سلبيًا منها، قد تكون ذات فائدة كبيرة لإبطال أي قرار قد يصدر ضد طالبان أو أي عقوبات يتم التصويت عليها في المجلس، وفي أسوأ الأحوال، تمتنع الصين عن التصويت. وهذا ما تم بالفعل في ديسمبر ٢٠٢٣ حيث انضمت الصين إلى روسيا في الامتناع عن تصويت في مجلس الأمن الدولي للدعوة، من بين أمور أخرى، إلى تعيين مبعوث خاص إلى أفغانستان، وهو الأمر التي عارضته بشدة سلطات طالبان.
ختامًا، على الرغم من مقاربات بكين السابقة للتطورات في أفغانستان، أعربت الصين عن مخاوفها بشأن التحول في ديناميكيات التهديد بعد انسحاب القوات الأمريكية من هذا البلد. منذ عام ٢٠١٦ ومع تزايد التكهنات بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان وخلق فراغ أمني هناك، بدأت بكين، مثل الدول المجاورة الأخرى لأفغانستان، خطة لتأمين خطوطها الحدودية مع الأفغان. كما أن بكين تتمتع بفرصة ذهبية لمد نفوذها في هذه المنطقة خصوصًا وعلى الساحة الدولية عمومًا استغلالاً لانهماك الدول الكبرى في تداعيات الحروب المشتعلة في قطاع غزة وأوكرانيا، إضافة إلى انشغال الولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية القادمة والمنافسة الكبيرة بين جو بايدن ودونالد وترامب.
لهذا، نجد ذكاء الصين في كونها تتمتع بسمة مميزة وهي أنها تذهب حيث لا يذهب أحد لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وهو ما يجعلها تتقدم وتوجد بدائل لما قد تفقده إثر أي نزاعات أو توترات دولية. وعليه، فإنه في هذه الشراكة مكسبًا كبيرًا لكلا الطرفين والتي من خلالها يستطيع البلدين تأمين مصالحهما الخاصة. ولكن، هذه المنافع لا تنفي التحديات التي من الممكن أن تُفرض على الصين من جانب الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة، التي تعارض العديد من سياسات بكين وتعمل على تحدي الأخيرة في العديد من الملفات مثل ملف تايوان ومنطقة بحر الصين الشرقي والجنوبي، فضلًا عن مواقف البلدين المتباينة في مختلف القضايا الدولية الشائكة مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا والحرب على قطاع غزة، وهو ما قد يزيد من حدة التوترات الراهنة بين الطرفين.
باحثة بالمرصد المصري