
تفاقم التصدع: سياق وانعكاسات انسحاب مالي من اتفاق السلام 2015
مثّل قرار المجلس العسكري في مالي بإنهاء اتفاق السلام الموقع مع الطوارق في عام 2015 برعاية جزائرية، نقطة تصدع في العلاقات المالية الجزائرية، خاصةً وأن هذا القرار يأتي في أعقاب أزمة دبلوماسية بين الجانبين، في ظل ادعاء مالي بوجود تغييرات في مواقف بعض الجماعات الموقعة على الاتفاقية وكذلك فيما وصفته بالأعمال العدائية من جانب الوسيط الجزائري.
ولعل هذا الاتفاق قد شهد تأرجحًا منذ أغسطس عام 2024 على ضوء اشتعال القتال بين الطوارق والقوات الحكومية في مالي، رغبةً في تطلع كل طرف في اتفاق السلام لملء الفراغ الذي خلق الانسحابات العسكرية المتتالية مثلما هو الحال بالنسبة للقوات الفرنسية وكذلك قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “مينوسما” في يونيو 2023.
وبالرغم من أن اتفاق السلام والمصالحة الموقّع مع تنسيقية الحركات الأزوادية عام 2015 استهدف إنهاء العنف في منطقة “أزواد” ولم تكتمل مسارات تنفيذه خاصةً في البعد العسكري، ولم يحول دون وقع عمليات عسكرية متبادلة بين الطوارق والجيش المالي؛ بيد أنه كان إطارًا مهمًا يحول دون سقوط مالي في فوضي أمنية وعسكرية شاملة، ليُشكل قرار إنهاء العمل به نقطة تحول ليس فقط في العلاقات الجزائرية المالية ولكن على مستوى الاستقرار داخل مالي.
سياق متأزم وخطوات الاحتواء
إن خطوة إنهاء العمل باتفاق المصالحة والسلام الموقع عام 2015 تأتي في ظل سياق يتسم بالتشرذم والاضطراب في العلاقات الجزائرية المالية وبالتزامن مع جملة من المتغيرات المختلفة، ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
أزمة سحب السفراء: واحدة من بين أبعاد قرار المجلس العسكري بوقف اتفاقية السلام؛ هو ما شهدته العلاقات الثنائية بين مالي والجزائر من اضطرابات دبلوماسية؛ إثر استضافة الجزائر شخصيات أزوادية في ديسمبر 2023، علاوة على استقبال رجل الدين “محمد ديكو” ذي التوجهات المعارضة للمجلس العسكري؛ الأمر الذي تضمنه بيان “باماكو” الذي أخذ على الجزائر استضافتها لأشخاص لديهم عداء مع الحكومة المالية دون علم أو تدخل من السلطة في مالي والتدخل في شؤون الدولة الداخلية وممارسة أعمال عدائية في حقها.
ولعل السابق أدى في نهاية المطاف إلى سحب “باماكو” لسفيرها من الجزائر في الثاني والعشرين من ديسمبر 2023؛ لتتعامل الجزائر وفق مبدأ المعاملة بالمثل وتقوم بسحب سفيرها للتشاور. وعلى الرغم من معالجة هذه الأزمة سريعًا بعودة السفير الجزائري لدى مالي لمهام عمله في السادس من يناير 2024 فإنه لم يكن حائلًا أمام اتخاذ المجلس العسكري قرار إنهاء اتفاق السلام.
الفراغ الأمني وتزايد الصراع الداخلي: تشهد مالي منذ أغسطس 2023 حالة من تصعيد الأعمال العسكرية من جانب الجيش المالي في مناطق الشمال؛ نتيجة لانسحاب القوات الفرنسية ومن قبلها انسحاب بعثة الأمم المتحدة، بما أوجد مساحة للعودة للصراع المسلح مرة أخرى ومشهد ما قبل عام 2015، حيث برز هذا الصراع في مساعي الطرفين للسيطرة على الأراضي والمعسكرات التي تركتها القوات التابعة لهذه البعثة، لتزداد حدة الاشتباكات بين الطوارق وبين الجيش المالي مع احتمالية مزيد من تنشيط الجماعات الجهادية ومنها تنظيم القاعدة في شمال مالي، وقد تزايدت بالفعل هذه الأعمال عقب سيطرة الجيش في الخامس عشر من نوفمبر 2023 على منطقة “كيدال” –التي تُعد المعقل الرئيسي للطوارق وعاصمة إقليم الأزواد- الواقعة في شمال الدولة وعلى الحدود مع الجزائر.
ولاستيعاب الداخل واحتواء الموقف؛ في ضوء تزايد التخوفات الداخلية من دخول الجيش المالي في مواجهة عسكرية مع قبائل الطوارق وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية والتي من بينها تنظيم القاعدة في الحدود المتاخمة مع دول الجوار على ضوء قرار إنهاء اتفاق السلام المبرم عام 2015؛ في ضوء تراجع القدرة الجزائرية على لعب دور الوساطة في استكمال وتنفيذ بنود اتفاق السلام إلى جانب حالة الفراغ العسكري الدولي، سارع المجلس العسكري نحو تشكيل لجنة لتنظيم محادثات السلام والمصالحة الوطنية، محددًا في مرسومه هيكل اللجنة والخطوات التي ينبغي اتخاذها للتحضير للمحادثات، وذلك في السادس والعشرين من يناير 2024.
انعكاسات متباينة
إن إلغاء اتفاق السلام الموقع في عام 2015 سوف ينعكس بضرورة الحال على المصالح الجزائرية وكذلك على دوائر التفاعل الإقليمية، ويمكن توضيح ذلك في التالي:
السيطرة الشاملة واحتماليات الحرب المفتوحة: إن المؤشرات المختلفة لغياب فاعلين إقليميين ودوليين أو حتى أمميين داخل معادلة الأمن المالي ستتيح المجال أمام الجيش لإنهاء فكرة اللا مركزية ومساعي الحكم الذاتي، مما سيكون له تأثيرات مختلفة على التوازنات الوطنية والإقليمية، وهذا الأمر سيتيح على الناحية الأخرى فرصة للطوارق والأزواد للتفاعل مع التنظيمات الإرهابية خاصةً تنظيم القاعدة للحيلولة دون فقد مزيد من مناطق النفوذ والسيطرة.
افتقاد الدّور الجزائري ومزيد من الضغط: واحدة من بين الانعكاسات الناجمة عن التأزم في العلاقات الجزائرية المالية يكمن في تراجع وافتقاد التأثير في واحدة من أبرز المناطق الحيوية للأمن القومي الجزائري، وأحد أوراق اللعبة الجزائرية تجاه الغرب لكونها الدولة التي يتم التعويل عليها بصورة كبيرة في دعم مسارات مواجهة الإرهاب في الساحل والصحراء.
ذلك فضلًا عن أن احتمالية حدوث تصعيد عسكري داخل مالي سيؤثر على الأمن القومي الجزائري في ظل التشابك الحدودي بواقع 1300 كيلومتر للحدود المشتركة، خاصًة في ضوء اعتزام المجلس العسكري فرض سيطرته على كامل دولة مالي وخصوصًا المناطق الشمالية داخل منطقة “كيدال”.
تزايد الاستقطاب الإقليمي: أحد أبرز الانعكاسات الناجمة عن غياب الدّور الجزائري ومساحة التحرك داخل مالي من خلال رعايتها لاتفاق السلام يكمن في تسارع خطوات التقارب المالي المغربي، خاصةً في ضوء الاهتمام المالي بالمبادرة المغربية “جنوب – جنوب” أي ربط الساحل بالأطلسي، كواحدة من دول الساحل المشاركة في مبادرة “الرباط” والداعمة لهذه المبادرة، وهو الأمر الذي سينعكس سلبًا على ملف الصحراء الغربية التي تتطلع المملكة المغربية في دعم الشرعية لسيادتها على هذه المنطق حال تنفيذ مبادرة الربط المشار إليها.
وإجمالًا؛ فإن التحول في الموقف المالي هو بمثابة إنذار مبكر نحو تصعيد محتمل داخلي وكذلك تصدع في علاقات الجزائر مع دول الساحل بصورة عامة، بل ويُنذر بمزيد من الاستقطاب والتقارب المغربي مع دول تلك المنطقة بما يحقق أهداف مبادرة “جنوب –جنوب” التي أطلقتها الرباط.



