أفريقياأوروباالأمريكتان

كيف تتعامل فرنسا والولايات المتحدة مع توالي سلسلة الانقلابات الأفريقية؟

انتشرت عدوى الانقلابات العسكرية في عدد من دول أفريقيا الفرنسية، كما وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بدءًا من مالي ثم بوركينا فاسو، وصولًا إلى النيجر وأخيرًا الجابون. ونتج عن هذه الانقلابات انخفاض حجم النفوذ الفرنسي في منطقة غرب أفريقيا، وهي المنطقة الغنية بالثروات الطبيعة مثل الذهب واليورانيوم وغيرها، والتي كانت فرنسا تستغل نفوذها في المنطقة لتسهيل الحصول على هذه الموارد. هذا بالإضافة إلى ميل الأنظمة الجديدة للشرق بشكل أكبر متمثلًا في روسيا والصين، مما يشكل تهديدًا أكبر ليس فقط على النفوذ الفرنسي ولكن على الأمريكي أيضًا، وعلى الرغم من أن فرنسا والولايات المتحدة تتشاركان التهديدات بدرجات متقاربة، إلا أن تعامل كل منهما مع الأزمة –خاصة في النيجر- مختلف بشكل واضح.

أسباب انتشار الانقلابات العسكرية

كانت التوترات الداخلية هي الدافع المباشر للانقلابات، وكانت الأزمة تتويجًا لعقد من سياسات تحقيق الاستقرار غير المدروسة التي قادها الغرب في منطقة الساحل الأفريقي. وفي عام 2013، عندما بدا أن الجماعات الجهادية تستعد للاستيلاء على باماكو، أرسلت فرنسا عدة آلاف من القوات إلى مالي. وفي حين قضت فرنسا على بعض كبار القادة الجهاديين، فإن ملاحقتها لهم تسببت في انتشار المزيد الجهاديين عبر وسط مالي وإلى منطقة الحدود الثلاثية إلى جانب النيجر وبوركينا فاسو.

وبتجاهل دعوات منطقة الساحل الأفريقي إلى الحوار السياسي، انتهى الأمر بفرنسا إلى لعب دور كبير في ملفات الأمن والسياسة في العديد من هذه الدول. في أواخر عام 2010، وفي مواجهة حركات تمرد ريفية واسعة النطاق، أسست فرنسا شراكات لمكافحة الإرهاب مع الميليشيات العرقية المتحالفة مع الحكومة المالية، ومع تصاعد التوترات الطائفية بدأت هذه الميليشيات في تهديد المدنيين، واضطرت المجتمعات التي كانت تعيش مؤخرًا في سلام نسبي إلى تسليح نفسها من أجل الدفاع عن النفس.

أدى انتشار العنف إلى تحول العديد من سكان الساحل العاديين إلى مناهضة الأنظمة التي دخلت في شراكة مع فرنسا، وأصبح المدنيون ينظرون بشكل متزايد إلى قادتهم على أنهم وكلاء لباريس. وأدى العنف المتصاعد والارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لفرنسا إلى الانقلابات في مالي في عام 2020 وبوركينا فاسو في عام 2022. ومع تدهور علاقاتها مع باماكو سحبت فرنسا قواتها بالكامل من مالي.

لكن باريس لم ترسل جنودها إلى الوطن الأم وأرسلت الكثير منهم إلى النيجر، وهو ما يسلط الضوء على سبب حرص العديد من المراقبين الخارجيين على الترويج للانتخابات التي أجريت على جولتين في النيجر في أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021، باعتبارها نوعًا من المعجزة -التي خلقت بين ليلة وضحاها- “آخر معقل للديمقراطية” في منطقة الساحل، كما ذكرت وسائل الإعلام الغربية. وكان على النيجر أن تحمل آمال الغرب في تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل بمفردها.

ولكن تطور الوضع ليصبح على عكس أماني الغرب، إذ تسبب تقارب حكومة النيجر الشديد من فرنسا والغرب في فقدان الشعب إحساس الديموقراطية التي يروج لها الغرب، بالإضافة إلى السياسات القمعية للحكومة في السيطرة على المعارضة خاصة من داخل الجيش جعلت بازوم، رئيس النيجر السابق، يكون الكثير من العداوات داخل القوات العسكرية النيجرية، مما مهد الطريق لتعاون الشعب مع الجيش بعد الانقلاب للشعور بالتخلص من السيطرة الغربية –خاصة الفرنسية- داخل بلادهم.

ويساعد كذلك الصراع الحالي بين الدول الغربية وروسيا والصين في زيادة ثقة المنقلبين، حيث تلجأ قوات الانقلاب العسكري إلى التحالف مع روسيا والصين لاكتساب الدعم العسكري والاقتصادي، الذي يجعلها قادرة على الصمود أمام ضغوط الغرب ومحاولاته التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول. وأيضًا لتؤكد لشعبها استقلاليتهم عن فرنسا وسائر الدول الغربية الذين لطالما شعرت شعوب غرب أفريقيا بتحكمهم في دول المنطقة.

التعامل الفرنسي والأمريكي مع الأزمات

إن تقارب مصالح فرنسا والولايات المتحدة في المنطقة وحاجة كل منهما لبقاء وزيادة نفوذها في المنطقة، يجعل درجة التهديد الناتج عن انخفاض مستوى النفوذ الفرنسي خاصة والغربي عامة في المنطقة، متقاربة، وتحديدًا على المستوى الاقتصادي الذي لطالما استفادت فرنسا من نفوذها بشكل كبير في تسهيل الحصول على ثروات وموارد المنطقة مثل الذهب واليورانيوم والنفط، هذا بالإضافة إلى محاولات روسيا مؤخرًا في اكتساب المزيد من الحلفاء في الشرق، عن طريق التحالفات الاقتصادية والسياسية واستغلال حاجة دول غرب أفريقيا للدعم الأمني والعسكري لمحاولة عزل الغرب والضغط عليه، وهو ما يشكل تهديدًا على كل الدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية التي تهدد مخططات موسكو المدعومة من بكين مكانة واشنطن كقوة عظمى كبرى في العالم.

وعلى الرغم من من هذا اختلفت ردود الفعل الفرنسية عن الأمريكية اختلاف كبير، ومن الواضح عدم ميل أي منهما إلى اتجاه الآخر. أولًا، الاتجاه الفرنسي هو اتجاه عدائي واضح، حيث رفضت بشكل تام فكرة الانقلاب وتهدد بالتدخل عسكريًا ما لم يتم التراجع عن الانقلاب والإفراج عن بازوم وإعادته للحكم، وإلى الآن مازالت تهدد فرنسا بالتعاون مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بالتدخل العسكري في النيجر في حالة عدم الاستجابة. وفي المقابل لا تبدي القوات العسكرية النيجرية أي استعداد للتراجع عن الانقلاب حتى الآن، خاصة مع وعود روسيا بتقديم الدعم العسكري في حال الحاجة له.

يتسبب هذا التوجه في العديد من المشاكل لفرنسا، استنادًا إلى أن نفوذها الزائد في المنطقة كان سببًا أساسي في اندلاع موجة الانقلابات وعدم رغبة الأنظمة الجديدة في التعاون مع فرنسا بأي شكل. مما قد يضعها أمام تهديد الدخول في صراع عسكري مع روسيا في منطقة غرب أفريقيا، وهو احتمال مستبعد لعدم رغبة الطرفين في حدوثه، إلا أنه مازال قائمًا ولو بنسبة صغيرة، وسيكون من التهور الاستهانة بإمكانية حدوثه. وأيضًا في حال نجحت فرنسا في إعادة بازوم للحكم بالقوة، سيزيد هذا من الغضب والنفور الشعبي من التدخل الفرنسي الذي كان أحد الأسباب الرئيسة في بداية هذه الانقلابات. ومن الممكن كذلك أن تكون فرنسا لا تنوي فعليًا للتدخل العسكري الصريح، وتستخدم هذه التهديدات كورقة ضغط فقط، إلا أنه من الواضح أنها استراتيجية غير ناجحة إلى الآن.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد اتخذت الاتجاه المعاكس لفرنسا، حيث إنها ما زالت الحكومة الأمريكية تؤكد على أهمية تهدئة الوضع والوصول للحلول الدبلوماسية بدلًا من أعمال العنف أيا كانت من أي جانب. وكذلك حرص البنتاجون على عدم وصف ما حدث في النيجر بـ”الانقلاب” واستخدام تعبير “محاولة انقلاب”، حتى لا تضطر الولايات المتحدة لسحب قواتها من المنطقة تطبيقًا للقانون الأمريكي الذي يمنع الحكومة من تقديم المساعدات سواء العسكرية أو الاقتصادية في حالة الانقلاب، مما يشير إلى اهتمام الولايات المتحدة بالبقاء في المنطقة، خاصة وأن وجودها يساعدها على مراقبة الوضع للتحكم بشأن أكبر في مصالحها في غرب وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.

ترفض واشنطن كذلك التدخل العسكري بكل صوره وأصبحت مسألة خلاف بينها وبين باريس، فمن الواضح أن الوضع الحالي دفع فرنسا إلى حالة من الخوف نتج عنها الرغبة في وضع حد لسلسلة الانقلابات التي تهدد وجودها في المنطقة بأي شكل، أما على الجانب الآخر فقد اتخذت الولايات المتحدة اتجاه أكثر هدوءًا وحكمة، مستغلة حسن صورتها بين شعوب المنطقة مقارنة بفرنسا، حيث تحاول أن تضمن تواجدها في المنطقة، عن طريق الدعوة للحلول الدبلوماسية والابتعاد عن التدخلات العسكرية وأعمال العنف.

ومن المرجح أن تكون الولايات المتحدة، تهدف إلى محاولة كسب النيجر وباقي دول هذه المنطقة إلى الصف الغربي عن طريق تقديم المساعدات والحلول السلمية، ومحاولة التصدي لتحالف هذه الدول مع روسيا والصين من خلال السياسة والدبلوماسية، بدلًا من التدخلات العسكرية التي أدت إلا نفور هذه الشعوب من فرنسا بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام، حتى تضمن تواجدها بنسبة على الأقل بدلًا من انقطاع نفوذها بالكامل في المنطقة، وهو الطريق الذي تتجه إليه فرنسا الآن.

ختامًا، أدت السياسات الغربية بالإضافة إلى الثقافة المغروسة في المنطقة مع سوء الأحوال الداخلية إلى انفجار موجة الانقلابات هذه، والتي تهدد الدول الغربية ممثلة في فرنسا والولايات المتحدة بشكل كبير، خاصة مع ميل الأنظمة الجديدة إلى روسيا والصين هربًا من السيطرة الغربية التي دامت لعقود، وحالة الاحتقان العالمي الحالي بين الشرق والغرب الناجم عن الحرب الروسية الأوكرانية، ومحاولات روسيا خلق عالم متعدد الأقطاب والقوى بقيادتها مع الصين بدلًا من نظام القطبين الذي نجحت الولايات المتحدة فيه بتفوق. ولكن تفاعل فرنسا والولايات المتحدة المختلف تمامًا مع الأزمة يضعف موقفهما لعدم توحيد الجبهات، فعلى الرغم من اتخاذ الولايات المتحدة موقف أكثر حكمة، إلا أنه لن يكون فعالًا بنسبة كبيرة في ظل إصرار فرنسا على الاندفاع والتدخل العسكري للتوصل لحل جذري وسريع. وفي ظل هذا الخلاف وعدم توحيد الجبهات من الغرب تستمر عدوى الانقلابات في التفشي في غرب أفريقيا، وتستمر كل من روسيا والصين في توسيع نفوذهم في المنطقة على حساب فرنسا والولايات المتحدة.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

بيير يعقوب

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى