آسياروسيا

التحرك في فلك الصين: كيف تنظر بكين إلى موسكو؟

في حين نظر البعض إلى زيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في هذا التوقيت إلى روسيا، على أنها تُقدم دعمًا معنويًا كبيرًا للنظام الروسي، خاصة مع ترويج الغرب بأن الرئيس الروسي بات منبوذًا في الأوساط الدولية؛ رأى البعض الآخر أن الزيارة كشفت عن تبعية الكرملين أمام بكين، الأمر الذي دفع كثير من المحللين للقول بأن روسيا تدور في فلك الصين وليست ندًا بند.

في الوقت الذي بالغ فيه الكثير من المعلقين والمحللين وما تناولته الصحف الدولية في الأهمية الكبيرة لزيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” إلى روسيا؛ نظر العقلاء في كل من بكين وموسكو إلى الزيارة على أنها عادة سنوية، حيث يجتمع الرئيسان كل عام تقريبًا للتباحث حول القضايا الثنائية والإقليمية والدولية. ولم تأتٍ هذه الزيارة بجديد، فمنذ التسعينيات والبلدان يتناوبان الزيارات الرسمية بشكل يكاد يكون منتظمًا، حتى مع تفشى وباء “كوفيد -19” وإغلاق الدول حدودها ومجال الجوي، التقى الزعيمين الصيني والروسي عبر تقنية الفيديو. 

البعض نظر للزيارة على أنها تعني “تحالف” بين الدولتين، وحيث إن تلك الكلمة تعني ترتيب التزامات دفاعية متبادلة بين الأطراف، فإن التحالف بين موسكو وبكين غير متصور على الأقل في الوقت الراهن، ولا يسعى كلا الجانبين إلى تحقيقه. لكن يمكن الحديث عن تقديم بعض الدعم من الصين إلى روسيا. خاصة وأن هذه هي المرة الثانية التي يختار فيها “شي جين بينغ” روسيا كأول دولة يزورها بعد انتخابه لولاية ثانية. وكانت المرة الأولى عقب وصوله للسلطة في عام 2013. ومنذ ذلك الحين نظر للشراكة الصينية الروسية على أنها “شراكة استراتيجية”.

ما الذي ناقشه قادة الدولتين هذه المرة؟

أثناء زيارته إلى موسكو، ناقش الرئيس الصيني مجموعة واسعة من القضايا الثنائية ومتعددة الأطراف، إذ تطرقا للحديث حول الشؤون السياسية والوضع في كلا البلدين، وكيفية إقامة تعاون بنَّاء ومُثمر، فضلًا عن التعاون في المنظمات الدولية على رأسها الأمم المتحدة، كالتنسيق في عمليات التصويت، حيث عادة ما تصوت موسكو وبكين بنفس الطريقة تقريبًا على القضايا المختلفة، فضلًا عن التنسيق في المنظمات الإقليمية الأخرى مثل “منظمة شنغهاي للتعاون” و “البريكس”. المباحثات تطرقت أيضًا إلى الحديث حول الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالتجارة والتعاون الاقتصادي. 

 كذلك تم التوقيع على 14 وثيقة، بعضها يتعلق برؤية مشتركة للنظام العالمي والتعاون على الساحة العالمية، حيث تواصل روسيا والصين الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب ضد هيمنة الغرب. وركز البعض الآخر على قطاعات محددة من التعاون الاقتصادي: من إنشاء برامج تلفزيونية مشتركة ومشاريع إعلامية إلى تنمية موارد الغابات وإنتاج فول الصويا والبحث العلمي..إلخ. وربما النتيجة الأهم من الزيارة هي استمرار تأكيد الصين على اعتبار روسيا كأهم شريك لها. 

وبالعودة إلى تاريخ العلاقات الروسية الصينية، نجد أن الاتصال بين الدولتين بدأ منذ القرن السابع عشر، ولم تكن السياسة الخارجية الروسية تميل نحو الشرق إلا على مضض وكانت الدولتان قويتين وناميتين، ومع ذلك، ومنذ القرن التاسع عشر، دخلت الصين في أزمات داخلية، بينما أصبحت روسيا دولة أكثر قوة وعتادًا، وتم الحفاظ على هذا الشعور بالتفرد والقوة في زمن الاتحاد السوفيتي وكانت بمثابة “الأخ الأكبر” للصين. وكانت الصين في الوقت ذاته دولة شرقية ضعيفة، والدليل على ذلك ضعف مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي ومؤشرات التنمية في ذلك الوقت. لكن وعلى مدار الثلاثين عامًا الماضية، حققت الصين قفزة قوية ومتطورة. بينما كانت وتيرة التطور في روسيا تسير بنمط بطيء للغاية وأصابها الركود في فترات كثيرة، ونتيجة لذلك، أصبح الناتج المحلي الإجمالي للصين اليوم أعلى من روسيا بمقدار 10-12 مرة، والإنفاق الدفاعي أعلى بمقدار 3-4 مرات. 

في هذا السياق، قد تحتاج روسيا للتعلم من الصين، إذ إن الفجوة الضخمة في الناتج المحلي الإجمالي بين البلدين والذي يُقدر بعشرة أضعاف في الوقت الراهن لصالح الصين، يؤشر إلى حقيقة مفادها أن روسيا مقارنة بالصين ستكون دولة أقل نفوذًا، وبمرور الوقت ستكون أقل تطورًا عن بكين وربما قد تعتاد على على التعايش مع الصين في حالة تبعية. ولتفادي ذلك الأمر، يرى بعض المحللين الروس أنه يجب على روسيا التعلم من الصين في كيفية تحقيق معدلات كفاءة عالية في كافة المجالات. 

الولايات المتحدة في قلب العلاقات الروسية الصينية

لا يمكننا الحديث عن العلاقات الروسية الصينية بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن تصرفات الصين تعتمد أيضًا على الولايات المتحدة، حيث فرضت الولايات المتحدة بالفعل عقوبات على شركة “هواووي – Huawei ” الصينية، عندما منعتهم من استخدام نظام التشغيل “أندرويد – Android” متهمة بكين بممارسة “التجسس”، الأمر الذي أثر على شركة “هواوي” وقادها لخسارة مليارات الدولارات، كذلك خسرت العديد من العقود المبرمة لبناء أنظمة (G5) في أوروبا ودول أخرى. بالإضافة إلى بدء الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” حربًا تجارية عالمية مع الصين، الأمر الذي يجعل بكين حذرة في قطع أي وعود لروسيا قد تتسبب في ثورة غضب من الجانب الأمريكي.

في السياق ذاته، فإن الولايات المتحدة -وأيَا كانت الإدارة الحاكمة- لن تحبذ أن تنتهج أي دول سياسة مستقلة، خاصة إذا كانت تلك الدول بحجم الصين وروسيا، كذلك تتجنب الولايات المتحدة أي علاقات إيجابية بين الطرفين. لكن المعطيات الجيوسياسية تتغلب على الرغبة الأمريكية، حيث إن التقارب الصيني الروسي أمر طبيعي بحكم عدد كبير من العوامل خاصة، الاقتصادية، والجغرافية، والبشرية، والعداء المُشترك للنظام الأحادي القطبية.  

كذلك يجب أن نعلم أن مفاوضات ولقاءات الصين مع روسيا لا تحمل أي اتجاه معادِ للغرب، وأن العادة جرت على أن تبدأ الصين رحلاتها الأولى بزيارة دول آسيا الوسطى، على سبيل المثال عندما أعلن الرئيس الصيني “شي جين بينغ” عن مبادرة “الحزام والطريق” تم ذلك على أراضي دول اَسيا الوسطى. فالصين تُدرك أهمية روسيا كشريك رئيس في بناء شراكة استراتيجية في المستقبل، لكنها تُدرك في الوقت ذاته أنها لن تتخلى عن تجارتها مع الغرب من أجل روسيا، على الرغم من توقع نمو حجم التجارة الروسية الصينية بنسبة 15-20 %، على الأقل هذا العام، بسبب أن الصين تفتح جميع أسواقها الزراعية تقريبًا أمام السلع الروسية. كذلك ستبدأ إمدادات الغاز الروسية في الوصول إلى الصين التي تُقدر بمليارات الدولارات. ومن المتوقع أيضًا أن يزداد الاستيراد الروسي من منتجات صناعة السيارات والمنتجات البديلة من الصين. لكن على الرغم من ذلك، لابد من أن ندرك أن روسيا الاتحادية ستظل بالنسبة للصين في المرتبة الثانية عشرة في إجمالي حجم التجارة، بينما ستكون الصين في المرتبة الأولى بالنسبة لروسيا. 

هل تُخاطر الصين بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا من أجل روسيا؟

في الوقت الراهن تعد الصين بشكل عملي الشريك الأهم لروسيا، حيث تحصل روسيا على معدات وقطع غيار صينية وتقوم ببيع الأخشاب والغاز والنفط بأسعار مناسبة للصين وليس بسعر السوق، وهذا الأمر بلا شك يعود بفائدة كبيرة على بكين. 

لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن العلاقات التجارية والاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا أوسع بكثير من العلاقات مع روسيا، وهذا يرجع في المقام الأول إلى حقيقة أن اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكبر بكثير من الاقتصاد الروسي. على سبيل المثال، تبلغ التجارة الأمريكية مع الصين أكثر من 700 مليار دولار سنويًا، بينما مع روسيا تبلغ حوالي حوالي 150 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل هذا العام إلى 200 مليار دولار. 

كيف تنظر الصين إلى روسيا؟

إذا ما نظرنا للوضع من المنظور الصيني، فإن اهتمام الصين بروسيا لا يأتي من العامل الاقتصادي بل بالعامل الجيوسياسي، وحتى لو لم تبع روسيا النفط والغاز للصين، فإن الصين ستجده حتى وإن كان -أغلى قليلاً- لكنها على كل حال ستجده وستحصل عليه من أماكن أخرى. إذن ليس هذا هو الشيء الرئيس الذي يجذب بكين إلى روسيا. 

القلق الصيني ينطلق من الوضع الدولي بشكل عام، حيث تنتهج الولايات المتحدة سياسة معادية للصين في محاولة لاحتواء التنمية في الصين. إذ بدأ ترامب الحرب التجارية برفع الرسوم الجمركية على الرغم من كل أفكاره المتعلقة بالتجارة الحرة. وحظر الرئيس الحالي “جو بايدن” بيع بعض البضائع إلى الصين، حتى لا تصبح رائدة على مستوى العالم في التكنولوجيا الحديثة وبالتالي منافسًا للولايات المتحدة الأمريكية.

كذلك تعمل الولايات المتحدة من خلال إنشاء تحالفات جديدة على حدود بكين لتطويق واحتواء الصين، ومن الواضح أن الصين تعارض ذلك، وفي هذه الحالة تأتي أهمية “روسيا” فموسكو أهم شريك لبكين، حتى وإن كانت هناك دول أخرى تكن عداء للولايات المتحدة مثل “كوريا الشمالية” إلا أنها دولة صغير مقارنة بروسيا. فضلًا عن أن روسيا قوة عالمية كبرى تمتلك مخزونًا كبيرًا من الأسلحة النووية والمواد الخام، وهذه العوامل تجعل الصين تنظر إلى روسيا باعتبارها شريكًا جيوسياسيًا مهمًا لبكين، يعمل على تلبية المصالح الصينية وفقًا للنظام الحاكم الحالي. 

إذن تدرك بكين حدود المساحة التي تعطيها إلى روسيا، بالإضافة إلى وجود بعض المشكلات ذات الطبيعة الاقتصادية المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ تتخوف روسيا من ممارسة الصين نفوذًا سياسيًا في المستقبل على دول الاتحاد السوفيتي السابقة. وبالتالي يمكن القول إن معطيات الوضع الراهن تفرض على الصين اتباع سياسة مرنة تجاه موسكو، وهو ما يمكن أن نطلق عليها سياسية “المصلحة المشتركة”، فالصين بحاجة للتقارب مع دولة كبرى بحجم روسيا، وروسيا بحاجة للتقارب مع عملاق اقتصادي وعسكري وسوق بشري هائل مثل الصين لتصريف منتجاتها.  

روسيا.. “الشريك الأصغر” في العلاقات مع الصين

إن ما يشهده الاقتصاد الصيني من قوة دفع كبيرة عقب فترة التراجع التي أعقبت مرحلة تفشي فيروس كورونا المستجد؛ يجعل بكين تنظر لروسيا على أنها “الشريك الأصغر” في العلاقة.  وعند قيام روسيا بشن العملية العسكرية في أوكرانيا، وما تبعها من فرض عقوبات قاسية وغير مسبوقة على موسكو، كانت الحكومة الروسية ووسائل الإعلام تخبر الروس أن الكرملين لديه صديق مؤثر وهو “الصين”.

ونظرت موسكو إلى بكين على أنها فرصة كبيرة وسوق شاسع وشريك دولي مهم. لكنَّ الحرب في أوكرانيا أصبحت عارًا -وفقًا للبعض- على روسيا، رغم مشروعيتها من نواحِ عِدة، وربما ذلك يجنب الصين من فتح ذراعيها لاحتضان موسكو، في الوقت الذي تعمل فيه على لعب دور سياسي ودبلوماسي عالمي.

كذلك تنظر الصين إلى روسيا باعتبارها “شريك استراتيجي” وليس “حليف”، والدليل على ذلك عدم قيام الصين حتى اللحظة بإمداد روسيا بالسلاح، كما أعلنت بكين أنها لن تقدم أسلحة من خلال تسليمها إلى دول أخرى -خاصة مع كشف بعض التقارير أن الصين ستقوم بتزويد روسيا بالأسلحة من خلال بيلاروسيا- لكنَّ الصين نفت ذلك، بل على العكس انخرطت بكين في المشاركة في المفاوضات وطرح مبادرات السلام للتوصل لحل للأزمة. 

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى