
قمة الأصدقاء.. الولايات المتحدة وكندا نحو شراكات أمنية واقتصادية
بعد أيام من زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روسيا، أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن زيارة إلى كندا في 23 مارس 2023، حملت في طياتها التأكيد على العلاقات الوثيقة بين البلدين في ظل الدور الحاسم الذي لعبته كندا في التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتوحيد الجهود ضد النفوذ الصيني بعد أزمة منطاد التجسس، والادعاءات الأخيرة بمحاولة بكين التدخل في الانتخابات الكندية. بالإضافة إلى إظهار التحول الكبير في العلاقات بين البلدين بعيدًا عن الانقسامات التي ظهرت خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترامب.
عادة ما يقوم رؤوسا الولايات المتحدة منذ فرانكلين روزفلت، باستثناء جيرالد فورد وجيمي كارتر، بزيارة كندا خلال فترة وجودهم في المنصب. تقليديًا، تتم الزيارة خلال الأشهر الأولى من تولي الرئيس منصبه. لكن قيود COVID-19 والحرب في أوكرانيا أخرت زيارة بايدن إلى كندا لأكثر من عامين. واكتفى بايدن في فبراير 2021 بـ “زيارة” افتراضية. حيث كانت آخر زيارة رسمية لرئيس أمريكي إلى كندا في عام 2009 في عهد باراك أوباما.
ويعد لقاء بايدن مع رئيس الوزراء الكندي ترودو في العاصمة أوتاوا فرصة لوضع خطط للمستقبل، مع التركيز على عدد من أكبر التحديات العالمية: الأزمة الأوكرانية، وتغير المناخ، والتجارة، والهجرة الجماعية، والصين، وهي قضايا جعلت الإدارة الأمريكية تعزز صداقتها مع كندا وتراها أولوية على مدى العامين الماضيين.
فقد سبق وأن تعرضت العلاقات بين البلدين لضربة كبيرة خلال إدارة دونالد ترامب، لم يقوم خلالها ترامب بزيارة كندا، ولكنه توقف هناك مرة واحدة فقط لحضور اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع في كيبيك. وشهدت العلاقات الأمريكية الكندية حالة من التوتر المستمر، لاسيما فيما يتعلق باتفاقية “نافتا”، أو ما يسمى باتفاقية التجارة الحرة بين دول شمال أمريكا التي تضم كندا والولايات المتحدة والمكسيك.
وتراجعت العلاقات بين الولايات المتحدة وكندا أيضًا بعد فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 10٪ على الألومنيوم الكندي و25٪ على الصلب الكندي في عام 2018. وهو ما ردت عليه كندا بالمثل وفرضت تعريفات جمركية وصلت قيمتها إلى 12.5 مليار دولار على السلع الأمريكية. وعلى هامش اجتماع حلف الناتو في عام 2019، حث ترامب كندا على زيادة الإنفاق الدفاعي في الحلف إلى 2٪، حيث تنفق كندا 1.4٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.
ومع ذلك، تعد الولايات المتحدة أكبر شريك تجارى لكندا؛ إذ تذهب إليها ثلاثة أرباع الصادرات الكندية، فضلًا عن أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يقدر بـ 950 مليار دولار (1.3 تريليون دولار كندي) في عام 2022. ويوميًا، يعبر حوالي 400 ألف شخص أطول حدود دولية في العالم، ويعيش حوالي 800 ألف مواطن كندي في الولايات المتحدة.
تحديات مشتركة
سلسلة من التحديات المشتركة تتعلق بالاقتصاد والتجارة والهجرة تؤكد أهمية العلاقة الوثيقة بين واشنطن وأوتاوا؛ إذ تشترك الدولتان في أطول حدود برية غير محمية في العالم:
الهجرة غير الشرعية: تشهد كندا وصول آلاف الأشخاص من هايتي وفنزويلا وكولومبيا عبر الولايات المتحدة. ويعبر هؤلاء الحدود سيرًا على الأقدام متجاوزين نقاط الدخول الرسمية. خلال الاجتماع المشترك بين الولايات المتحدة وكندا توصلتا إلى اتفاق لرفض طالبي اللجوء الذين يصلون عند المعابر الحدودية دون الحصول على موافقات من السلطات. وستغلق هذه الخطوة ثغرة أوجدها اتفاق اللجوء الذي أُبرم عام 2004 مع الولايات المتحدة لتحديد المكان الذي يتعين على المهاجرين فيه تقديم طلبات اللجوء الخاصة بهم. ومنع هذا الاتفاق كندا من إبعاد الأشخاص الذين يحاولون الدخول من خلال نقاط عبور غير رسمية.
ستُنشئ كندا أيضًا الآن، كجزء من الاتفاق، برنامجًا جديدًا ل 15,000 مهاجر يفرون من الاضطهاد والعنف في أمريكا الجنوبية والوسطى. وقد شهد الجانب الأمريكي أيضًا ارتفاعًا في أعداد عبور المهاجرين من كندا تزامنًا مع إعلان التوصل إلى اتفاق. تأتي هذه الخطوة في إطار جهود للحد من تدفق المهاجرين على طريق روكسهام، وهو معبر حدودي غير رسمي بين ولاية نيويورك الأمريكية ومقاطعة كيبيك الكندية.
الوضع في هايتي: تراجع الاقتصاد في الدولة الكاريبية وتزايد عمليات العنف والخطف عزز سيطرة العصابات في هايتي على 60% من العاصمة تقريبًا، وهو ما دعا حكومة هايتي ومسؤولي الأمم المتحدة إلى تشكيل قوة دولية لدعم الشرطة الهايتية. لهذا تكثف الولايات الضغط على كندا للقيام بدور قيادي في المساعدة على استعادة النظام، وتأمل الولايات المتحدة بأن تؤدي كندا دورًا محركًا في إرسال قوة دولية إلى هناك.
ولكن القوات المسلحة في كندا، التي استنزفت بسبب دعم أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، لا تملك القدرة على قيادة مهمة أمنية محتملة في هايتي، فقد أنفقت كندا خلال العام الماضي أكثر من مليار دولار كندي (724 مليون دولار) على شكل مساعدات عسكرية لأوكرانيا. وتستعد الآن لمضاعفة وجودها في لاتفيا التي تشترك في الحدود مع روسيا وبيلاروسيا. ومع ذلك أعلنت الحكومة الفيدرالية عن تخصيص 100 مليون دولار للشرطة الوطنية الهايتية؛ لمساعدة هايتي على استعادة النظام، وتعزيز الحلول التي تقودها البلاد للأزمة ودعم السلام والأمن.
اقتصاد أمريكا الشمالية وقانون خفض التضخم: في استنساخ لأيديولوجية ترامب “أمريكا أولا”، يحاول بايدن إعادة تنشيط القاعدة الصناعية الأمريكية المتعثرة، خاصة في قطاع الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية الناشئة بسرعة، الأمر الذي سبب نوعًا من الخلافات مع كندا. واقتربت إحدى التشريعات التي وقعها بايدن العام الماضي من إشعال حرب تجارية مع كندا؛ فقد أثار قانون خفض التضخم (IRA) الذي ينص على توسيع الإعانات الضريبية لشراء السيارات الكهربائية التي يتم تجميعها في الولايات المتحدة غضب كندا، والذي قد يمنع الشركات الكندية من الوصول إلى قطاعات معينة من السوق الأمريكية. حيث يحتوي القانون على بند لتخصيص 370 مليار دولار للطاقة النظيفة وتحقيق الأهداف المناخية، و64 مليار دولار لخفض تكلفة الأدوية والتأمين الصحي.
ولتحفيز الطاقة النظيفة وتعزيز قطاع المعادن الحرجة، تم تخصيص 250 مليون دولار أمريكي لصناعة أشباه الموصلات في كندا، وتعزيز وتنويع سلاسل التوريد في أمريكا الشمالية. بالإضافة إلى حماية المياه المشتركة، وإنفاق كندا 420 مليون دولار لحماية واستعادة البحيرات العظمى خلال العقد المقبل، والعمل على نظام معاهدة حديث يتعلق بحوض نهر كولومبيا، والتوصل إلى اتفاق حول الحد من تلوث المياه في مستجمعات المياه Elk-Kootenay.
زيادة الإنفاق الدفاعي: دائمًا ما يطلب رؤساء الولايات المتحدة من كندا زيادة إنفاقها الدفاعي، فالبيئة الجيوسياسية الحالية في المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا الشرقية تعني أن المساهمات الأمنية الكندية يجب أن تكون ذات أولوية. وبحث بايدن وترودو النفقات العسكرية في وقت تحض واشنطن فيه أعضاء حلف شمال الأطلسي على بذل مزيد من الجهود على خلفية الحرب في أوكرانيا والتوتر المتزايد مع الصين. لكن أوتاوا بعيدة عن تخصيص 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وهو الحد الأدنى المحدد للدول الأعضاء في الناتو.
تعزيز أمن القطب الشمالي: أثار الحرب الروسية الأوكرانية والنفوذ الصيني تحديات جيوسياسية عززت أهمية الشراكة الأمنية الطويلة بين البلدين NORAD (قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية). تم استدعاء هذه الشراكة ودخولها حيز التنفيذ في وقت سابق من هذا العام لتتبع منطاد التجسس الصيني، الذي تم رصده لأول مرة في ألاسكا قبل دخوله أجزاء من كندا والولايات المتحدة، وتم إسقاطه قبالة ساحل المحيط الأطلسي الأمريكي. ويتفق بايدن وترودو على أهمية تعزيز الدفاع والأمن في القطب الشمالي، لكن التقديرات تشير إلى ممارسة بايدن ضغوطًا أقل على كندا لبذل المزيد من الجهد عندما يتعلق الأمر بتحديث قدراتها الدفاعية القارية.
وقد أعلن رئيس الوزراء الكندي خلال زيارة بايدن أن كندا ستسرع نشر نظام رادار جديد عالي التقنية لتحديث الدفاعات الجوية في أمريكا الشمالية وتحديث القواعد العسكرية لاستيعاب الطائرة الحربية الأمريكية الصنع الجديدة التي تشتريها أوتاوا. هذا إلى جانب دفع كندا للتحرك بشكل سريع لتحديث NORAD. وأعلنت كندا العام الماضي أنها ستخصص 4.9 مليار دولار لتحديث NORAD، على مدى ست سنوات لتحديث الدفاعات الجوية لمواجهة التهديد المتزايد الذي تشكله الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وتكنولوجيا صواريخ كروز المتقدمة التي طورتها الصين وروسيا.
ختامًا، إن أهمية زيارة بايدن إلى كندا لا تعني تعزيز العلاقات الثانية فقط، ولكنها تبعث برسالة مفادها أن الولايات المتحدة عازمة على مواصلة العمل مع الحلفاء المقربين لمواجهة “الأنظمة الاستبدادية”. وعلى عكس سلفه دونالد ترامب، لن تقف التحديات الاقتصادية عائقًا أمام التعاون مع هذه الدول. وفي حين حاول الرئيس الصيني شي جين بينج بعد التوسط في الاتفاق السعودي الإيراني وزيارته الأخير إلى روسيا في بعث رسالة واضحة بشأن نفوذ الصين المتزايد على الساحة العالمية، تحاول الولايات المتحدة مواجهة رسائل الصين من خلال العمل عن كثب مع الديمقراطيات المجاورة في العديد من القضايا الاقتصادية والاستراتيجية. وقد أكدت واشنطن وأوتاوا دعمهما الثابت لأوكرانيا وعزمهما فرض تكاليف اقتصادية على روسيا، وأقرا برغبتهما في منافسة الصين.