أوروبا

محددات مركبة.. مستقبل الأزمة السياسية في بريطانيا

لا تزال بريطانيا تعيش أسوأ أزمة سياسية تواجهها منذ 45 عامًا حينما اندلع شتاء السخط عام 1978. وتشهد بريطانيا موجات دورية من التظاهر والإضراب؛ للمطالبة بخفض الضرائب وإلغاء الخطة الحكومية الساعية إلى فرض ضرائب جديدة من أجل سد فجوة 150 مليار جنيه إسترليني. وبحسب جريدة independent البريطانية، فإن حزمة الضرائب الجديدة سوف تثقل كاهل الأسرة البريطانية الواحدة بما يصل إلى 5000 جنيه إسترليني ضرائب إضافية بجانب ما هو مفروض على المواطن البريطاني من قبل. 

وزاد من عثرات الحكومة البريطانية تفجر سلسلة من الفضائح والأزمات داخل الحكومة وحزب المحافظين الحاكم، ما جعل قادة الحزب يتفقون على تنحية ناظم الزهاوي رئيس الحزب في 29 يناير 2023، بالإضافة إلى تجريده من كافة المناصب الوزارية والبرلمانية، ليصبح السياسي ذو الأصول العراقية الكردية في حكم المتقاعد منذ هذا التاريخ.

هل تقدم الحكومة البريطانية استقالتها؟

من المفترض أن تعقد الانتخابات العامة البريطانية في 24 يناير 2025، ولكن معطيات الأزمة تشير إلى صعوبة استمرار حكومة ريشي سوناك في موقعها، وأن رئيس الوزراء البريطاني قد يقدم استقالته قبل انتهاء ولايته. وهو ما يفتح فصلًا جديدًا في الأزمة السياسية البريطانية؛ اذ يفترض أن يعقد حزب المحافظين انتخابات لاختيار رئيس وزراء جديد، هو السادس من الحزب بعد كل من: ديفيد كاميرون، وتريزا ماي، وبوريس جونسون، وليز تراس، وريشي سوناك؛ حيث يسيطر الحزب على موقع رئاسة الحكومة منذ صيف 2010.

ولكن عملية استبدال رئيس الوزراء للمرة الخامسة من داخل الحزب سوف تواجهها معارضة شعبية وبرلمانية شرسة، ما يعني أن استقالة “سوناك” سوف تفتح الباب أمام الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، سوف تصبح ثالث انتخابات عامة بريطانية مبكرة على التوالي عقب انتخابات 8 يونيو 2017 و12 ديسمبر 2019.

ولعل الاختيار الثالث هو أن يذهب “سوناك” إلى الانتخابات المبكرة وهو على رأس الحكومة البريطانية، على أمل أن يحقق نفس إنجاز بوريس جونسون في انتخابات 2019 حينما قام الأخير بقيادة المحافظين لأكبر فوز برلماني منذ عقود.

ترنح سوناك فتح بصيص أمل لبوريس جونسون وليز تراس من أجل العودة إلى رئاسة الحزب وربما رئاسة الحكومة البريطانية مرة أخرى. وبدأ المعسكر الانتخابي لكليهما –كل على حده– في الترتيب لاحتمالية بدء حملة انتخابية سريعة ومباغتة حال استقالة “سوناك”.

معركة تفكيك البريكست

تعمل دوائر داخل وخارج بريطانيا على تغذية الرأي العام والوعي الجمعي والمزاج الانتخابي لدى الشعب البريطاني بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي هو سبب مشاكل قادة حزب المحافظين، وذلك من اجل إيجاد أرضية شعبية لفكرة عقد استفتاء ثان للعودة إلى الاتحاد الأوروبي. هذه الدوائر تنتمي إلى شبكات المصالح الاقتصادية التي تدير نظام العولمة النيوليبرالي، وليس من مصلحتها انهيار الاتحاد الأوروبي أو صعود التيار القومي سواء في دول الشرق أو الغرب على حد سواء.

ويعد بريكست هو أهم إنجازات اليمين القومي البريطاني عبر التاريخ الحديث، وكان بوريس جونسون هو قائد الجناح القومي داخل الحزب المحافظ الذى دعم بريكست بجانب السياسي اليميني نيجيل فاراج رئيس حزب الاستقلال سابقًا ومؤسس حزب بريكست ثم حزب الإصلاح حاليًا.

هذه الدوائر البريطانية التي ترفض النهج القومي وتتبع النهج النيوليبرالي تنفست الصعداء مع استقالة رئيسة الحكومة الاسكتلندية نيكولا ستارجن في 15 فبراير 2023، بعد أن كانت “ستارجن” هي زعيمة التيار القومي الاسكتلندي الداعي إلى انفصال اسكتلندا عن بريطانيا. وتحاول الدوائر النيوليبرالية البريطانية على مدار الساعة تنصيب رئيس وزراء اسكتلندي رافض لفكرة استقلال اسكتلندا ويدعم النهج النيوليبرالي وأجندة الصوابية السياسية، يقع الرهان حاليًا على وزير الصحة حمزة يوسف المنتمي إلى أسرة قادمة من إقليم البنجاب بشبه جزيرة الهند.

الدوائر النيوليبرالية في بريطانيا استطاعت تجاوز أزمة الاستقالة المفاجئة للسيدة “جاسيندا أرديرن” رئيسة وزراء نيوزيلاندا –التابعة لبريطانيا– وتوظيف كلا الاستقالتين في اسكتلندا ونيوزيلندا بوصفهما مقدمة لاستقالة ريشي سوناك الذي دافع عن بريكست في أكثر من استجواب برلماني، مشيرًا إلى أن بريطانيا استعادت السيطرة على حدودها ووقعت اتفاقيات مع 70 دولة بشكل منفرد بعيدًا عن الاتفاقيات القارية للاتحاد الأوروبي، وأشار مرارًا إلى أن بريطانيا أصبحت اليوم قادرة على التحكم في ملف اللاجئين بدون تنفيذ إملاءات من خارج الحكومة البريطانية المنتخبة في إشارة إلى قرارات الاتحاد الأوروبي.

وعلى عكس التوقعات، فإن بريطانيا نجحت خلال حكومة بوريس جونسون في تنفيذ خروج ناجح من الاتحاد الأوروبي، ولم تحدث هزة عنيفة في الاقتصاد جراء البريكست، بل وصمدت بريطانيا عامي 2020 و2021 أمام جائحة كورونا العالمية وتوابعها الاقتصادية قبل أن تتأثر بداية من العام 2022 بالآثار الاقتصادية للحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا، إضافة إلى هستيريا الفيدرالي الأمريكي لرفع الفائدة والتي أجبرت بنك إنجلترا على رفع الفائدة لمستويات لم تحدث منذ تسعينيات القرن العشرين. وتحاول الدوائر النيوليبرالية داخل وخارج بريطانيا أن توظف أزمات العام 2022 بوصفها نتائج للبريكست، وأن الحل هو تفكيك البريكست وعودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي.

هل المعارضة العمالية قادرة على تفكيك الأزمة؟

في نهاية عام 1978 وبداية عام 1979 إبان تولي رئيس الوزراء جيمس كالاهان رئيس حزب العمال، انتفض الشعب البريطاني ضد الفشل الحكومي والجمود السياسي المتراكم في السبعينات. وأطلقت الصحافة البريطانية على الاضطرابات وقتها مصطلح “شتاء السخط” اقتباسًا من مسرحية ريتشارد الثالث التي تعد خاتمة الرباعية الأولى للكاتب البريطاني الشهير ويليام شكسبير. ووسط السخط والضباب، ظهرت مارجريت تاتشر على رأس حزب المحافظين لتنهي الفوضى وتشكل الحكومة وتصبح “السيدة الحديدية” الأشهر في القرن العشرين.

ولكن المعارضة العمالية اليوم تفتقر إلى نفس التحول الدرامي الذى صنعه المحافظون برئاسة تاتشر خلال القرن المنصرم، فرئيس الحزب كير ستارمر لا يملك أي بدائل تذكر، بل وتوقع الكاتب الإنجليزي إليستر هيلث في مقال في التليجراف البريطانية أن “ستارمر” إذا شكل الحكومة فإنه لن يصمد أكثر من عامين قبل أن تنهار حكومته وتذهب بريطانيا إلى أزمة انهيار الثنائية الحزبية الحاكمة لها منذ بداية القرن العشرين. 

وتوقع الكاتب الإنجليزي أن بريطانيا مقبلة على تكرار التجربة الفرنسية حينما انهارت الثنائية الحاكمة بين الحزب الديجولي والحزب الاشتراكي، ما أدى إلى صعود حزب الجمهورية إلى الأمام على يد الرئيس إيمانويل ماكرون، مشيرًا إلى أن حزب الإصلاح البريطاني هو المرشح الأبرز لكسر الثنائية الحزبية الكلاسيكية في بريطانيا.

الكاتب عدّد الأزمات التي لا يمكن لكل من “سوناك” أو “ستارمر” حلها في بريطانيا اليوم وتشمل:

1 – انهيار المستشفيات والقطاع الصحي والتأمين الطبي.

2 – القطارات والطرق في حالة مروعة.

3 – الضرائب مرتفعة للغاية.

4 – عمل الشرطة وصمة عار.

5 – أزمة السكن تزداد سوءًا.

يتضح مما سبق أن بريطانيا تنتظرها سنوات من الاضطرابات السياسية والمجتمعية حتى لو استقال ريشى سوناك ورحل حزب المحافظين عن السلطة وذهبت بريطانيا إلى انتخابات جديدة أدت إلى تشكيل المعارضة للحكومة، فكل تلك الخيارات يمكن أن تهدئ إيقاع الازمة ولكن لن تكون الحل الحاسم لها.

وتبدو بريطانيا بحاجة ماسة إلى نخبة جديدة، سواء عبر ثورة تصحيح في الحزبين الكبيرين أو عبر صعود أحزاب جديدة، إضافة إلى “رجل دولة” ساحر قادر على وضع حلول حاسمة للمشاكل المجتمعية المتعلقة بساعات العمل والأجور والضرائب ودمج المهاجرين وطبيعة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى