
الشارع العربي وحدته كرة القدم أكثر من السياسة
تزن كرة القدم أو تلك الساحرة المستديرة 450 جرامًا، وتبلغ قيمتها بضعة دولارات، وخلال تمخطرها بين أقدام ورؤوس عدد محدد من اللاعبين على بساط أخضر سندسي ذي أبعاد محددة تشاهدها عشرات الآلاف من مدرجاتها، بالإضافة الى مئات الملايين عبر الإذاعة والتليفزيون من شاشات منزلية وعامة حول العالم، وعند معانقتها الشباك معلنة عن هدف تنطلق حناجرهم في وقت واحد تلف المعمورة مع فروق التوقيت بالزائد أو الناقص ارتباطًا بخطوط الطول حيث يمر خط الصفر ببلدة صغيرة قابعة بريف بريطانيا تدعى جرينتش.
واحتفل الشارع العربي بهذا العرس والمحفل الرياضي الكبير لكأس العالم لكرة القدم 2022 الذي استضافته قطر بنجاح لافت كأول دولة عربية في تاريخ تلك المسابقة الكبيرة التي تقام كل أربع سنوات، وتعد تتويجًا لكل مسابقات كرة القدم المحلية ثم القارية. وقد بهرتنا نتائج معظم الفرق العربية في مواجهاتها مع أقطاب الكرة العالمية، فأشعلت حماس واتحاد الشارع العربي على قلب عربي واحد بشكل غير مسبوق، أخذًا بأسباب العلم في التخطيط والتنفيذ.
ففازت السعودية على الأرجنتين، وتونس على فرنسا، والمغرب على بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، ووصلت إلى المربع الذهبي لأول مرة لفريق عربي وأفريقي في تاريخ البطولة. ويشترط في الدولة المنظمة أن تتوافر لديها البنى التحتية للمنشآت الرياضية، خاصة ثمانية استادات لعدد 32 دولة في 8 مجموعات، من حيث: سعة المدرجات، ونظامها، والدخول والخروج، وانتظار السيارات، والتغطية الإعلامية، وأمن اللاعبين والجمهور. بالإضافة الى ما يخص الجماهير القادمة من طيران ونقل وفنادق ومواصلات واتصالات ومرافق ودورات مياه عامة.. إلخ.
وللحق، فقد أنشأت قطر تلك البنى التحتية على أعلى مستوى عالمي، حيث بدأت العمل طبقًا لخطة منظمة منذ أكثر من عقد من الزمان، وتحديدًا بعد كأس العالم في جنوب أفريقيا عام 2010 حين استقدمت أكبر المتخصصين العالميين. وتكلف ذلك رقما قياسيا قدًره الخبراء بحوالي 250 مليار دولار. واستردت قطر عبر العرس الرياضي جزءًا من استثمارات البطولة، ولكن تلك البنى التحتية ذات مردود رياضي وثقافي ممتد لأجيال قادمة، وربما لإعادة استضافة هذا الحدث الكبير مستقبلًا.
ولمثل هذا الحدث الكبير العديد من الابعاد الرياضية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بل وبعض السياسية. فعلى المستوى الرياضي هو نشر ثقافة التنافس الشريف واللعب النظيف تحت شعار «fair play»، وعلى المستوى الثقافي والاجتماعي فكان فرصة أن يشمل حفلا الافتتاح والختام استعراضات مختلفة تعكس الثقافات الخليجية بشكل خاص والعربية بشكل عام. بجانب أن الحضور الدولي الجماهيري الكبير المصاحب للفرق الرياضية للتشجيع، كانت لديه فرصة كبيرة للاختلاط بعضهم ببعض بتنوع الملابس وأعلام الدول وقمصان فرقهم وشعاراتها، ورأينا الكثيرين يضعون العُقال العربي على رؤوسهم وفوق أعلامهم، وسمعنا أحاديثهم في مداخلاتهم. بل رأينا الجمهور الياباني يقوم بتنظيف مدرجاته قبل المغادرة رغم هزيمة فريقه.
وعلى المستوى الاقتصادي، فهناك عوائد الطيران والنقل والمواصلات والفنادق والاتصالات والإعلانات والنقل التليفزيوني والسياحة والإعاشة والبيع والشراء والمساهمات المادية من الاتحاد الدولي. وعلى المستوى السياسي، رأينا في حفل الافتتاح العديد من رؤساء الدول العربية، وكانت الرياضة أهدى وأنعم من السياسة في الملعب حين رأينا في مباراة الولايات المتحدة وإيران كمثال، حيث يساعد اللاعب خصمه على النهوض والاطمئنان عليه بديلًا للمسدسات والرشاشات في مناخ السياسة والحرب.
وتاريخيًا، ابتكر السجناء الإنجليز كرة القدم حيث انتشرت في أوروبا ثم صاحبت البريطانيين ومعظم الأوروبيين إلى مستعمراتهم حول العالم، وكما عرف العالم أسماء الشخصيات السياسية التاريخية منذ القرن الماضي كأيزنهاور وستالين وتشرشل وديجول وتيتو وعبد الناصر ونهرو ومانديلا، فقد عرف من كرة القدم وحدها بيليه ومارادونا وماتيوس وديستيفانو وبوشكاش وياشين وبيكنباور وإزيبيو وبلاتيني وميسي ورونالدو وآخرين.
وخلال كأس العالم القادمة 2026 سيزاد عدد الدول إلى 48 دولة، لتعقد في أكثر من دولة هي الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، مما سيحتاج بنية رياضية أكبر لعدد 12 استاد، وطبقا للترادف القاري سيكون الدور على أفريقيا عام 2030، وهو ما يجب أن تستعد له مصر جيدًا بالتنسيق مع دول الشمال الأفريقي من الآن، خاصة أن مصر تمتلك وستكمل بنيتها الأساسية الشاملة ومنها البنية الرياضية وكل المقومات، خاصة الحضور الجماهيري الكبير الذي هو نبض كرة القدم..