
موعد مع النموذج السوداني
يستطيع السودان أن يمثل نموذجًا جيدًا للتحول الديمقراطي إذا استثمرت القوى المدنية الجوانب الإيجابية في الاتفاق الإطاري الذي وقعته مع المكون العسكري الاثنين الماضي، وسعت بجدية نحو معالجة الجوانب السلبية ممثلة في الصياغة الفضفاضة التي حواها؛ لأن العناصر المهمة التي طالبت بها تحقق معظمها حتى الآن، وهي: تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، وتوحيد المؤسسة العسكرية وتركيزها على مهامها الأساسية، ووجود دعم كبير من قوى إقليمية ودولية لمساعدة السودان اقتصاديًا.
يشير تأييد الاتفاق من قوى خارجية عديدة، في مقدمتها مصر، إلى رغبة في عبور السودان النفق السياسي المظلم الذي دخله منذ نحو عام بعد إجراءات عاصفة أدت إلى تقويض دور القوى المدنية، والاستعداد لدعم الخطوات الجديدة وصولًا إلى انتهاء المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات عامة في البلاد تضع حدًا لسنوات عجاف تعرضت فيها البلاد لتهديدات كادت تقودها إلى مزيد من الأزمات العاصفة.
أصرت بعض القوى السودانية على مطالبها السياسية، ونجحت وبدأت تستعيد توازنها لتصحيح الأوضاع أملًا في تقديم تجربة تستوعب جميع الأطياف في البلاد بلا تمييز على أساس الإقليم أو المكون القبلي أو الدين أو الانتماء السياسي، مستفيدة من حصيلة ثلاثة عقود انفرد فيها الرئيس السابق عمر البشير ومعه الحركة الإسلامية بالحكم من خلال دعم عدد كبير من القيادات العسكرية وقتها.
كان الهدف واضحًا في مسألة عدم تكرار هذه التجربة والسعي بشتى الطرق لتحاشي عودة شبحها من قريب أو بعيد، ولذلك استغرق تجاوز عقباتها وقتًا وجهدًا ومناوراتٍ وحيلًا ومظاهراتٍ الفترة الماضية، ولم يجد مجلس السيادة الذي يدير البلاد منذ رحيل الحكومة السابقة برئاسة عبدالله حمدوك بُدًا سوى التسليم برغبة القوى المدنية التي حصلت على تأييد لافت من قوى كبيرة في المنطقة وخارجها أيقنت أن دوران السودان في الدائرة الجهنمية التي عاشها خلال فترة البشير كارثة جديدة.
تستطيع القوى المدنية أن تقدم صيغة واعدة في السودان إذا حافظت على استمرار تفاهمها مع المؤسسة العسكرية التي أنهى الاتفاق الإطاري الأخير دورها في الحكم بصورة واضحة، حاليًا ومستقبلًا، وعليها البعد عن الإصرار في دخول خلافات تنسف الاتفاق قبل أن يتم وضع بنوده التفصيلية على الطاولة.
وعليها الاستفادة من التوافق الذي حدث أخيرًا لتهيئة البلاد لمرحلة واعدة يتمكن فيها السودان من أن يقدم نموذجه بعد أن طوى صفحة قاتمة عندما نجح في إسقاط أحد الأنظمة التي قبضت على السلطة حوالي ثلاثة عقود متواصلة.
على القوى المدنية البناء على النوايا الحسنة التي أظهرها رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان بالتوقيع على الاتفاق الإطاري في حضور ممثلين كبار عن المجتمع الدولي، والتخلص من نبرة التشكيك والتهديد والرفض المعتادة التي أسهمت في تعقيد الأزمة وأوشكت أن تؤدي إلى خسارة جميع الأطراف.
تبدو الأجواء الدولية مناسبة هذه المرة لظهور سودان يمكن أن يمثل نموذجًا يعتد به في المنطقة من خلال الاعتماد على التفاهم الراهن بين المكونين المدني والعسكري كصيغة تتمخض عنها دولة مستقرة في المستقبل، بعد أن تأكدت الكثير من القوى الخارجية المعنية أن استمرار الجيش في السلطة لن يكون ممكنًا وقد يفضي التمسك بوجوده إلى انفلات يدفع البلد بسببه ثمنًا باهظًا لا يفيد جميع القوى الإقليمية التي لها مصالح حيوية في دولة تمثل أهمية استراتيجية فائقة.
يمكن القول إن الاتفاق الإطاري نقلة نوعية لتقديم تجربة سياسية واعدة أو انتكاسة تقود إلى صدام آخر بين القوى المتصارعة على السلطة، والمعيار الذي يحدد الاتجاه الذي يسير عليه السودان هو مدى الالتزام بتنفيذه وتحويله إلى اتفاق نهائي وتطبيقه على الأرض، حيث تم قطع وعود وعهود والتوقيع على اتفاقيات عديدة ولم تر النور، وإذا تكرر ذلك قد تدخل البلاد في طريق يصعب العودة منه.
تتحدد معالم النموذج الديمقراطي المرغوب في السودان بانضمام المزيد من القوى والأحزاب والحركات للاتفاق، والتسريع باختيار رئيس الوزراء المدني وطاقمه التكنوقراطي لتخفيف حدة الأزمات، والتزام المجتمع الدولي بوعوده في تقديم مساعدات اقتصادية سخية، فضلًا عن التعامل بحسم مع رموز النظام السابق الذين بدأوا يمارسون أدوارًا خفية في الشارع وبعض المؤسسات الحكومية قد تسبب إزعاجًا للقوى الموقعة على الاتفاق وتؤدي تحركاتهم المريبة إلى تخريب العلاقة بين المكونين المدني والعسكري.
تعرض رئيس مجلس السيادة السوداني الفترة الماضية لحملة ممنهجة للنيل منه، ولعبت تصرفاته ومواقفه الأخيرة ضد فلول البشير دورًا مهمًا في الحد منها، وساعد تكرار تعهده بأن الجيش سيقوم بمهامه الرئيسة في الحدود المخول له القيام بها وشدد عليها الاتفاق الإطاري في قطع الطريق على الحملة، ما يعني أن الجزء المهم في مطالب القوى المدنية يجري تنفيذه وعليها أن تبدي مرونة كافية كي يتم الانتهاء من مرحلة انتقالية طال أمدها أكثر مما يجب.
تؤكد تحركات القوى الدولية أخيرًا وإصرارها على اتمام التوافق بين المكونين المدني والعسكري بأي ثمن مادي أو معنوي أن لديها رغبة في تحويل السودان إلى نموذج للحكم الرشيد يمكن أن يتحول إلى قدوة لدول المنطقة في كيفية التفاهم بين قواه الحية كوسيلة توفر الأمن والاستقرار والتطور الديمقراطي بدلًا من أن يصبح دولة فاشلة ربما تنتقل عدواها إلى بعض الدول المجاورة أو تمثل تهديدًا مباشرًا لها.