
حركة “مواطنو الرايخ”.. هل تُخطط لقلب نظام الحكم في ألمانيا؟
يبدو أن نهايات عام 2022 لن تمر دون ترك العديد من التحديات والتهديدات أمام كافة دول العالم؛ فمع بدايات عام شهد حربًا روسية أوكرانية امتدت تداعياتها الاقتصادية للعالم أجمع ووضعت العديد من القوى الدولية والمؤسسات الأممية أمام تحدٍ كبير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تمثل في كيفية التعاطي مع تلك الأزمة والبحث عن مخرج يُجنب العالم التداعيات الكارثية لهذه الأزمة؛ وفي الوقت الذي عانى ولا يزال العالم يُعاني من ويلات الحرب على كافة الأصعدة، تضررت دول أوروبا وبشدة من تلك الأزمة، ومع فرضهم عقوبات قاسية على نظام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لحمله على وقف الحرب، استخدمت روسيا أيضًا سِلاح العقوبات وقامت بوقف تصدير الغاز الروسي لأوروبا، الأمر الذي وضع دول الغرب في أزمة حادة، وشتاء تتخوف قدومه.
لكن يبدو أن بوادر الشتاء بدأت بألمانيا هذه المرة عقب مظاهرات واحتجاجات انطلقت في الشوارع الألمانية خلال الأيام الماضية بعد ارتفاع الأسعار وارتفاع معدلات التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ 70 عامًا، ندد المحتجون بارتفاع تكاليف الطاقة، مع حث الحكومة على إعادة تشغيل خط الغاز “نوردستريم 2” مع روسيا.
في هذا السياق، يبدو أن جماعات مُتطرفة في ألمانيا حاولت تحقيق مقاصدها في ذروة تلك الاحتجاجات؛ حيث بدأت قوات الشرطة والوحدات الخاصة الألمانية في الساعات الأولى من صباح اليوم الأبعاء 7 ديسمبر 2022؛ بشن حملات مُوسعة في إحدى عشر ولاية ألمانية، مُستهدفة تفتيش أكثر من 130 عقارًا ما بين منازل وممتلكات خاصة ومتاجر تم تفتيشها، والتحقيق مع عدد من الأشخاص، واعتقال 25 شخصًا يُشتبه في انتمائهم إلى “خلية إرهابية” يمينية مُتطرفة تُسمى “مواطنو الرايخ”، ووفقًا لبيان المدعي العام الألماني فإن هؤلاء كانوا يتشاورون ويحاولون تنظيم عمليات اقتحام لمؤسسات الدولة الألمانية والتُخطيط لقلب نظام الحكم فيما يُشبه “الانقلاب” وفقًا لما جاء بالبيان. فما هي تلك الحركة؟ وكيف تشكلت؟ وماذا يريد أعضاؤها؟ وكيف ستتعامل الحكومة الألمانية معهم؟
حركة “مواطنو الرايخ”
حركة “مواطنو الرايخ” هي حركة تشكلت مُنذ ثمانينيات القرن الماضي في ألمانيا، يؤمن أتباعها بأفكار عتيقة تعود لعهد “الإمبراطورية الألمانية”، وهي عبارة عن تنظيم لا يعترف بالدولة الألمانية الحديثة التي تأسست بعد انهيار النازية، ولا بقوانينها، ويمتنعون عن دفع الضرائب والمخصصات الاجتماعية، وتدعو إلى العودة إلى عهد “الإمبراطورية الألمانية” وذلك على أساس دستور عام 1871.
وعلى مر السنين، كانت الحكومة والسلطات الألمانية على دراية بأعضائها وتتابعهم، ومنذ العام الماضي بدأت الحركة في لفت انتباه السلطات الألمانية بعد أن بات سلوك أعضائها أكثر عنفًا، وباتت العدوانية هي سمة من سمات الحركة، إلى الحد الذي سعت فيه إلى تخزين الأسلحة والتدرب عليها.
ومنذ نوفمبر 2021، زاد نشاط الحركة ورفضها للسياسات الألمانية. ووفقًا للاستخبارات الألمانية، يبلغ تعدادها ما يقرب من 21 ألف عضو، من بينهم 5 في المئة مصنفون بوصفهم يمينيين متطرفين وعلى درجة عالية من الخطورة ويمتلكون أسلحة خفيفة.
يُطالب أعضاء الحركة أيضًا بأن تعود حدود الدولة الألمانية إلى عام 1837، وهو عهد “الإمبراطورية الألمانية” الثالثة التي تضم بعض الأجزاء من فرنسا وبولندا، في السياق ذاته فإن أعضاءها لا يلتزمون بقوانين الدولة الألمانية، ولا يحملون هويات أو جوازات سفر ألمانية، ولديهم هويات خاصة بهم.
تتشكل الحركة من جماعات صغيرة وأفراد في عدد من الولايات الألمانية، وتنشط بالأساس في ولايات: براندنبورغ، وميكلينبورغ فوربومرن، وبافاريا. وتضم حركة “مواطنو الرايخ” أيضًا النازيين الجدد ومنظري المؤامرة والمتحمسين للسلاح الذين يرفضون شرعية الجمهورية الألمانية الحديثة. ويٌنظر إلى “الرايخ الألماني” على أنه تهديد أمني تتزايد حِدته، وأصبح أكثر تطرفًا بشكل كبير في السنوات الأخيرة. وفي سياق آخر، ووفقًا للمدعي العام الألماني، فإن الحركة تضم من بين أعضائها جنودًا سابقين يجمعهم الرفض العميق لمؤسسات الدولة والنظام الأساسي الديمقراطي الحر لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
لماذا تزايد خطر تلك الحركة؟
في الآونة الأخيرة، تزايد خطر تلك الحركة، مع ورود تقارير استخباراتية ألمانية تُشير إلى أن الحركة تعتزم تشكيل حكومة انتقالية تُعهد إليها مهمة التفاوض بشأن نظام جديد للدولة الألمانية مع قوات التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ولا سيما روسيا. ويُزعم كذلك أن المجموعة كانت تنوي إنشاء ذراع عسكرية لها؛ بهدف تفكيك الهيئات الديمقراطية على المستوى المحلي.
في هذا السياق، جاءت الحملة الأمنية المُوسعة من قبل القوات الألمانية ضد أعضاء الحركة بزعم أنهم يُخططون لاستهداف البرلمان الألماني مع مجموعات أخرى مُسلحة. وفي السياق ذاته، وجه المدعي العام الألماني اتهامات للمعتقلين بالضلوع في تشكيل مجموعات إرهابية مُنذ نوفمبر 2021، بهدف التغلب على نظام الدولة القائم واستبدال نوع الدولة الخاص بهم بدلًا منه.
وأفادت تقارير أخرى أن عسكريين سابقين هم أيضًا جزء مهم من مؤامرة الانقلاب هذه، وبينهم جنود نخبة سابقون من الوحدات الخاصة. وأضافوا أن المشتبه بهم كانوا على علم بأن خطتهم “لا يمكن أن تتحقق إلا باستخدام الوسائل العسكرية والعنف ضد ممثلي الدولة”.
وعادة ما يُنكر “الرايخ” سلطة الشرطة ومؤسسات الدولة الأخرى، ولديهم اقتناع بأن ألمانيا تُدار من قبل “دولة عميقة” يجب الإطاحة بها. ويُزعم أنهم خططوا لتعيين أحد المشتبه بهم المعتقلين، وهو السيد “هاينريش الثالث عشر”، كزعيم جديد لألمانيا بعد الانقلاب. وأفاد ممثلو الادعاء أنه سعى بالفعل إلى إجراء اتصالات مع المسؤولين الروس لمناقشة “نظام الدولة الجديد” في ألمانيا بعد الانقلاب. وكجزء من الاستعدادات للانقلاب، حصل أعضاء الخلية الإرهابية المزعومة على أسلحة، ونظموا تدريبات إطلاق نار، وحاولوا تجنيد أتباع جدد، لا سيما في صفوف الجيش والشرطة، بحسب بيان المدعي الألماني..
كيف ستتعامل ألمانيا مع أعضاء الحركة؟
ترى ألمانيا إرهاب اليمين المتطرف أكبر تهديد لأمنها بعد سلسلة من الهجمات في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، أوضحت وزيرة الداخلية الألمانية السيدة “نانسي فيسر” أن الحكومة الألمانية سترد بالقوة الكاملة للقانون على أي عمليات تخريب أو محاولات من قِبل تنظيمات “متطرفة” و”إرهابية” تعمل على تهديد الدولة الألمانية.
في السياق ذاته، أوضحت وزيرة الداخلية أن الدولة الدستورية تعرف كيف تدافع عن نفسها ضد من وصفتهم بـ “أعداء الديمقراطية”، وأضافت أنها ستتقدم بمشروع قانون في الأيام القليلة المقبلة من شأنه تسهيل إقالة موظفي الخدمة المدنية الذين يُعدون أعداءً للدستور من المنتمين لحركة “الرايخ الألماني”.
وفي الأخير، لا يبدو أن مؤامرة الانقلاب المزعومة هذه المرة تُظهر تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية في ألمانيا، فهؤلاء يُمكن اعتبارهم مجموعة متطرفة كانت تُخطط لانقلاب ولكن لم يتأتَ لها ذلك. وعلى كل حال فإن الأيام القادمة ستكون بمثابة تحدٍ أمام الحكومة الألمانية في كيفية التعاطي مع الأزمات والتحديات الداخلية، فضلًا عن التعامل مع الكيانات والتنظيمات التي تصفهم بـ “التنظيمات الإرهابية”، خاصة وأنه إذا كانت قوات الأمن قد تمكنت هذه المرة من السيطرة على ما زعمت أنه محاولة للانقلاب من قبل هذا التنظيم؛ فإن الملاحظ أن أعداد الحركة في تزايد، خاصة وأن تلك الحركة تستهدف أعضاءً بارزين بعضهم شغل مناصب عليا في البلاد؛ لذا سيكون التخوف من تطور أساليب تلك الحركة أو تحالفها مع كيانات أو تنظيمات أخرى مُسلحة أو دول خارجية قد تُدعم تلك الحركة في المستقبل، الأمر الذي سيُشكل تحديًا على الحكومة الألمانية، سيتعين عليها مواجهته والتصدي له بحزم.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية