أوروبا

“على أرضية متأرجحة”: ماذا بعد نجاة جونسون من التصويت على حجب الثقة؟

نجح رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” في أن ينجو بمنصبه في اقتراع الثقة الذي أجري في السادس من يونيو داخل حزبه “المحافظين”؛ فقد صوت نواب المحافظين بأغلبية 211 صوتًا لصالحه مقابل 148 معارضًا له، بأغلبية 59%، ليفلت من التصويت بسحب الثقة عقب سلسلة من الفضائح، ويظل زعيم الحزب، محتفظًا بمنصب رئيس الحكومة البريطانية التي تواجه خطر الركود وارتفاع أسعار الوقود والغذاء.

فضيحة “بارتي جيت” كادت تكلف رئيس الوزراء منصبه

قائمة من الاتهامات تنصب على رئيس الوزراء البريطاني أدت إلى أن يضيق به ذرعًا نواب حزب المحافظين، وجعلت 54 نائبًا من أعضاء البرلمان يطلقون إجراء التصويت على سحب الثقة منه بقيادة السير “جراهام برادي” عضو الحزب. 

وكان على رأس تلك القائمة إدارة جونسون السيئة لملف الـ “Brexit”، وسياسة الهجرة البريطانية، والتهديدات لخرق القانون الدولي، والدفاع عن المخالفين للقواعد في قلب السلطة، والاستجابة الأولية البطيئة لـ Covid-19 والتي على إثرها أصبحت الموجة الأولى من الوباء الأسوأ من نوعها في بريطانيا، وسلسلة من الفضائح الأخلاقية والتي كان آخرها فضيحة انتهاك تدابير الإغلاق في “داونينج ستريت” التي أشعلت كل هذه الأحداث والمعروفة إعلاميًا باسم “بارتي جيت”.

وهي حادثة فريدة من نوعها؛ إذ قام رئيس الوزراء البريطاني بخرق القانون وهو لا يزال في منصبه، فانتهك قواعد الإغلاق الصارمة، وأقام حفلًا جماعيًا في ذروة تفشي جائحة كورونا، في الوقت الذي منع فيه الناس من توديع أحبائهم وحضور جنازاتهم.

ووفقًا لمن حضر هذه الحفل، فقد تأكد أن الحاضرين لم يلتزموا بالتباعد الاجتماعي، ما أثار الغضب الشديد، ليصدر بعدها تقرير داخلي يدين جونسون الذي اعترف بأنه يتحمل المسؤولية كاملة عن الحدث، ولكن دون ظهور أي مؤشرات تدل على إمكانية استجابته للدعوات المطالبة باستقالته على خلفية القضية.

فيما جادل حلفاؤه بأن “بارتي جيت” هي إلهاء تافه، في وقت تواجه فيه أوروبا أول حرب برية كبرى على أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ يرون أن رئيس الوزراء يمثل أقوى مدافع عن أوكرانيا، بعد أن شحن أسلحة نوعية إلى جيشها، وأجرى مكالمات هاتفية منتظمة يدعم خلالها الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”.

لكن جونسون تجاهل ذلك تمامًا، وفي المقابل دافع عن الإنجازات التي حققها خلال ولايته، بما فيها: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والريادة في محاربة كوفيد، والإشراف على برنامج اللقاحات، ودعم أوكرانيا، وتقديم وعود جديدة بخفض الضرائب وإلغاء القيود، فضلًا عن زيادة الإنفاق الحكومي. وكتب قبل لقاء نواب حزب المحافظين قبل عملية التصويت: “الليلة لدينا فرصة لإنهاء أسابيع من التكهنات الإعلامية ودفع هذا البلد إلى الأمام، الآن، كحزب موحد”، مؤكدًا أنه لا يزال بإمكانه الفوز في الانتخابات المقبلة، وهو إنجاز من شأنه أن ينتج عنه ولاية خامسة غير مسبوقة على التوالي للحزب في الحكومة.

التاريخ يعيد نفسه من جديد

على سبيل المقارنة، أفلتت “تيريزا ماي” رئيسة الوزراء السابقة من تصويت حجب الثقة في سبتمبر عام 2018، بنسبة تصويت 63%، أعلى من جونسون الذي كان يحاول الدفع بها من الهاوية. ولكن الأمر يختلف تمامًا؛ فقد كان الغضب حينها من “ماي” بسبب نوع صفقة البريكست التي رأى أعضاء الحزب حينها أنها “ناعمة” للغاية ولا تتوافق مع الوعود التي كانت بصدد تنفيذها ولم تفعل، لتضطر بعدها إلى الاستقالة من منصبها بعد ستة أشهر. 

والجدير بالذكر، أن التاريخ المعاصر يشهد على فضائح كبيرة أطاحت بأصحابها من القادة في العالم من على مقاعدهم وقضت على مستقبلهم السياسي، ولعل أشهرها هي فضيحة “ووتر جيت” التي أطاحت بالرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون”، وذلك بعد أن قامت صحيفة “واشنطن بوست” بنشر معلومات تؤكد أن الرئيس الأمريكي قام بالتجسس على منافسه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما دفع نيكسون إلى الاستقالة عام 1974.

وفي العام نفسه اضطر المستشار الألماني “فيلي براندت” إلى الاستقالة تحت وطأة فضيحة سكرتيره “جونتر جيوم” الذي كان يعمل جاسوسًا لصالح ألمانيا الشرقية، وقام بتزويد وزارة أمن الدولة “شتازي” بوثائق سرية تابعة لألمانيا الغربية. وكذلك قام الرئيس الألماني “كريستيان فولف” بالاستقالة من منصبه إثر فضيحة قيامه باستغلال السلطة ومحاولته التأثير على الصحافة. وربما يكون جونسون الآن في طريقه إلى نهاية مستقبله السياسي عقب هذه الفضيحة.

نصر مكلف بفارق ضئيل

قبل عامين ونصف، فاز جونسون بمنصبه كرئيس للوزراء بأغلبية بلغت 87%، وتعد الأكبر منذ فوز “مارجريت تاتشر” الثالث في عام 1987، بادئًا مسيرته بقوة، ومعيدًا صياغة السياسة البريطانية؛ فانتزع بلاده من الاتحاد الأوروبي، وفرض نوعًا جديدًا من المحافظة على الدولة الكبيرة التي تتميز بالإنفاق المرتفع والعداء للرقابة على السلطة التنفيذية.

ولكن ليس ضروريًا أن تستمر مسيرته بهذه القوة؛ فقد انهارت بالفعل وفي وقت قصير، وتحول من صاحب الأصوات الأكثر موثوقية في بريطانيا، إلى رئيس وزراء مهدد؛ ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن رئاسة جونسون للوزراء كانت مبنية منذ البداية على أسس ضعيفة، فقد تمت ترقيته إلى مستوى القيادة بوصفه الحل الأخير لوضع “ماي” اليائس، والذي جعل حزب المحافظين معرضًا لخطر الانقسام إلى قسمين وانجرافه من قبل حزب العمال على اليسار وحزب بريكست على اليمين الراديكالي. 

مؤشر يوضح مستوى الرضى عن الأداء الحكومي لجونسون منذ توليه منصبه

وفي السادس من يونيو، أعلن جونسون فوزه حاسمًا في تصويت حجب الثقة ولكن على الهامش، ولم يظهر أي وميض من الندم، بعد أن كان وشيكًا من مفترق الطرق، بل شكر زملاءه على دعمه، ولكن من المؤكد أنه تفاجأ من حجم التمرد، وتنافس الخصوم على استبداله، فضلًا عن مواجهة حزبه “حربًا أهلية” تتجه به نحو مرحلة تدمير ذاتي بسبب توجهاته الأيديولوجية. فقد تركت نتيجة التصويت المحافظين في حالة من الاضطراب والانقسام، بعد يوم متوتر تشاجر فيه كبار أعضاء الحزب علنًا على وسائل التواصل الاجتماعي جادل بعض المشرعين بأن موقف زعيمهم أصبح يتعذر الدفاع عنه.

ويرون أن حكومته تفتقر إلى الإحساس بالمسؤولية؛ فعلى الرغم من أن لديها أغلبية الدعم، لكنها لا تمتلك خطة طويلة الأجل. ولكن مع حقيقة فوزه، فإنه لا توجد آلية قد تجبره على التنحي قريبًا، فبموجب قواعد الحزب الحالية، لا يمكن إجراء تصويت آخر على الثقة بحق جونسون لمدة عام قادم.

فوز أم بداية النهاية؟

إلى حد ما، انهارت مكانة رئيس جونسون بسبب نفس المزيج المتخبط بين نقاط القوة والنواقص التي دفعت إلى صعوده، بين الحدس السياسي النادر الذي يقابله استهتار شخصي يجعله لا يتصرف كقائد، وبسبب أسلوب في التعامل الذي أكسبه القليل من الحلفاء وتركه معزولًا في اللحظات الخطرة.

فالمحللون يرون أننا أمام رجل يفتقر إلى وجود الأيديولوجية الأساسية بخلاف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأنه لا يملك شبكة من الأصدقاء السياسيين، وهو ما أثبته التصويت الأخير، حيث فقد رئيس الوزراء دعم المشرعين في حزبه عندما أصبح من الواضح أنهم لا يستطيعون الاعتماد عليه للفوز في الانتخابات المقبلة.

هذا بالإضافة إلى انهيار التصنيفات الشخصية له، فوفقًا لاستطلاع أجرته “Conservative Home”، (وهي مدونة بريطانية يمينية تدعم حزب المحافظين ولكنها مستقلة عنه وتم إنشاؤها بهدف الدفاع عن طائفة واسعة من المحافظين)، يعد جونسون الآن أقل أعضاء مجلس الوزراء شعبية من بين أعضاء حزب المحافظين، فبلغت -42. ويخشى العديد من أعضاء البرلمان من حزب المحافظين أن يتم القضاء عليهم في الانتخابات القادمة؛ فخلص استطلاع آخر أجرته “YouGov”، (وهي شركة بريطانية دولية للأبحاث وتحليل البيانات)، إلى أن حزب المحافظين سيخسر 85 من أصل 88 مقعدًا في ساحة المعركة إذا كانت الانتخابات ستجرى غدًا، وهي نتيجة أكثر من كافية لرؤية الحزب يُطرد من السلطة لصالح أحزاب المعارضة كحزب العمل، والديموقراطيين الليبراليين، وحزب الخضر والقوميين.

https://www.economist.com/img/b/608/1574/90/media-assets/image/20220611_BRC617.png

ودفعت احتمالية الهزيمة أعضاء البرلمان المعتدلين إلى التعبير عن آرائهم بصراحة، بين الدعوة إلى استقالة جونسون، ورفض كل شيء يفعله من مخطط مقترح لترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا، إلى وصف محاولة إعادة كتابة صفقة الخروج الاتحاد الأوروبي بأنها “تهور سياسي”. وقد يؤدي عدم معالجة هذا التصور إذا تفاقمت الأزمة إلى مزيد من الإضرار بالثقة في قدرته على القيادة، والمزيد من الانتكاسات الانتخابية، وسط مخاوف أخرى من أن بقاءه في السلطة أمر أهم من تحسين وضع البلاد.

وبعيدًا عن الحزب، قوبل جونسون بصيحات استهجان الجمعة الماضية من حشود تجمعت خارج كاتدرائية القديس بولس، قبل قداس في مناسبة “اليوبيل البلاتيني للملكة إليزابيث الثانية”، وربما تكون تلك هي اللحظة التي بلورت فقدان الدعم العام له.

وتحقق اللجنة البرلمانية حاليًا حول الأحزاب التي قامت بخرق قواعد الإغلاق في مكاتب جونسون في “داوننج ستريت”، وتحقق لجنة الامتيازات فيما إذا كان جونسون قد ضلل البرلمان عمدًا في ردوده الأولية على تقارير الأحزاب الخارجة عن القواعد، وإذا وجدت اللجنة أنه قام عمدًا بتضليل البرلمان فمن المتوقع أن يستقيل.

تحديات متصاعدة

نجاة جونسون إثر فوزه بهامش ضئيل من الأصوات لا يعد فوزًا، فهو من ناحية أخرى يعد الخاسر الأكبر؛ إذ إنه لم ينتصر على فصيل منافس، ولم يتصد لمرشح بديل، هو فقط يستمع إلى الأصوات التي تخبره أنه متخبط في زعامة الحزب، وأن حكومته تفتقر الوجهة الصحيحة.

ولهذا، هو الآن أمام تحدٍ جديد في فترة زمنية 12 شهرًا لا يستطيع أحد أن يجري فيها تصويتًا آخر لنزع الثقة منه، وبالتأكيد ستشهد الفترة القادمة محاولات رئيس الوزراء إعادة تأكيد سيطرته على الأجندة السياسية التي تشمل عدة ملفات تشغل البلاد، والتركيز على الأشياء التي تهم الشعب حقًا.

ذلك كالتأكيد على أن الحكومة ستطرح تشريعًا لإلغاء أجزاء من بروتوكول أيرلندا الشمالية، على أمل تقليص عمليات التفتيش على الحدود على البضائع المشحونة من البر الرئيسي لبريطانيا إلى الشمال، ومواجهة ارتفاع التضخم، وسوق الإسكان المنهار، ومعالجة الشعور العام بالإهمال الفوضوي الذي يشعر به الأشخاص الذين يكافحون من أجل العودة إلى أعمالهم بعد عطلة البنوك من خلال إضرابات القطارات وإلغاء الرحلات الجوية في الشمال والجنوب، ولملمة المتبقي من تداعيات الوباء التي أدت إلى اضطرابات سلسلة التوريد ، إلى جانب صدمات أسعار الغذاء والوقود بعد الغزو الروسي، وبالطبع إعادة بناء صورة حزب المحافظين.

بوريس جونسون: أي توغل روسي في أوكرانيا سيشكل كارثة للعالم | الشرق الأوسط

وختامًا، لقد تضرر جونسون في تصويت الثقة بقيادة حزب المحافظين بشكل لا يمكن إصلاحه، فالتاريخ يقول إن السياسيين لا يتعافون سريعًا من مثل هذه الأشياء، ولا عودة سهلة لرئيس وزراء فقد ثقة ما يقرب من نصف نوابه، والخطر يكمن في أن سلطته ربما قد تأثرت بشدة لدرجة أنه سيجد صعوبة متزايدة في إنجاز أي شيء، وسيكون الإغراء هو الاستمرار في السعي إلى تعزيز موقفه. وحتى لو نجا جونسون من هذه الاختبارات، فإن السؤال الأوسع هو هل يستطيع جونسون “طي الصفحة”، وكسب ثقة البريطانيين من جديد؟ أم سيعيد التاريخ نفسه ويواجه مصير” تيريزا ماي”؟

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى