مقالات رأي

الحرب الباردة بين واشنطن وبكين

أعلن وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية «سي آي إيه»، الخميس ٧ أكتوبر، عن إنشاء وحدة متخصصة في قضايا الصين باسم «مركز مهمة الصين»، معتبرًا، في بيان رسمي خارج عن الوكالة، أن الصين أهم تهديد «جيوسياسي» تواجهه الكتلة الغربية في القرن الواحد والعشرين، ما يستدعى ضرورة تعزيز العمل الجماعي عبر هذه الوحدة، كما أعلن «بيرنز» عن إنشاء منصب مدير التكنولوجيا في وكالة الاستخبارات المركزية ووحدة مخصصة للقدرة التنافسية الأمريكية في العالم.

يبدو من الخطوة الأمريكية، التي سبقتها خطوات أخرى، أن استراتيجية واشنطن لتطويق النفوذ الصيني على المستوى الدولي مستمرة، في شكل ظهر معه أننا أمام «حرب باردة» جديدة ستكون أشرس وأقوى من الحرب الباردة في القرن الماضي بين الكتلة الغربية بزعامة أمريكا والاتحاد السوفيتي، التي انتهت بهزيمة وتفتت الاتحاد، لكن الفرق هذه المرة أن الخصم الجديد، وهو «التنين الصيني»، أقوى بمراحل من الاتحاد السوفيتي، خاصة على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي، فالصين هي الاقتصاد الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ومتوقع خلال ١٠ سنوات أن يتجاوز ناتجها القومي أمريكا وتكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم.

مسرح الأحداث والتفاعلات الدولية يعاد تشكيله من جديد، والمحرك الرئيسي فيه هو استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتطويق النفوذ الصيني المتنامي والمتصاعد، عبر إحياء التحالفات القديمة وإنشاء تحالفات جديدة على المستوى العسكري والأمني والاستخباراتي والتكنولوجي بين حلفائها في أوروبا وفي آسيا، وهي استراتيجية تمثل قلقًا كبيرًا للصين بالمقارنة مع السياسات التي تبناها ترامب، التي اقتصرت على حرب تجارية ثنائية بين واشنطن وبكين، دون دخول حلفاء أمريكا التقليديين على خط المواجهة؛ كون أن شعار ترامب «أمريكا أولًا» أزعج الأوروبيين في حلف الناتو وحلفاء أمريكا في آسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، الأمر الذي لم يمنع وقتها دولًا كبريطانيا وألمانيا من قبول مبدئي بالتكنولوجيا الصينية 5G، وهو الأمر الذي أزعج واشنطن.

التركيز الأمريكي على آسيا بدأ مع إدارة الرئيس الأسبق «أوباما»، وتُرجم بشكل عملي مع الإدارة الأمريكية الحالية التي تسعى جديًا لتغيير موازين القوى في جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي، والتي تنامى فيها بشكل واسع النفوذ الصيني، واستبقت ذلك بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط ثم الانسحاب من أفغانستان، والذي إن ظهرت معه أخطاء تكتيكية، لكنه كان جزءًا من التوجه الأمريكي الجديد للتركيز على تقويض التهديد الصيني للمصالح الأمريكية.

استراتيجية بايدن تجاه الصين، وفقًا لصحيفة «وول ستريت جورنال»، تقوم على تعزيز المكانة الأمريكية في المنافسة التجارية مع الصين عبر الاستثمار في البنية التحتية والبحث والتطوير داخل أمريكا، مع دفع عجلة الإنتاج والتصنيع داخل الولايات المتحدة وزيادة مناخ الابتكار، خاصة أن كبريات شركات التكنولوجيا الأمريكية اتجهت منذ سنوات للاستقرار في الصين، مدفوعة بحوافز اقتصادية وتوافر العمالة الماهرة وهو ما تفتقده السوق الأمريكية.. ثم يأتي الجزء الأهم في استراتيجية بايدن، من خلال العمل مع حلفاء واشنطن على وضع ترتيبات تجارية جديدة تتعامل مع سمات النظام الصيني التي فشلت منظمة التجارة العالمية في تقييدها على مدى ٢٠ عامًا.

يمكن حصر التحركات الأمريكية في الشهور الأخيرة لمجابهة التهديد الصيني في عدة أمور، أولها إنشاء إدارة بايدن، في يونيو الماضي، وحدة خاصة داخل البنتاجون لتقييم التهديد العسكري لبكين وكيفية الرد عليه، ثم في أكتوبر الجاري إنشاء وحدة داخل المخابرات المركزية معنية بالصين، ثم الأهم وهو إنشاء تحالف عسكري وأمنى «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا، والذى بموجبه تزود واشنطن «كانبيرا» بعدد من الغواصات النووية تساعدها في مواجهة التهديد العسكري الصيني في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ثم نأتي لإحياء واشنطن التحالف الأمني الرباعي المعروف باسم «كواد»، الذي أنشئ عام ٢٠٠٤، ويجمع أمريكا واليابان والهند وأستراليا، ويأمل بايدن من خلال كل هذه التحالفات في تشجيع شركاء واشنطن التقليديين على العمل الجماعي لاتخاذ مواقف تتناسب مع التهديد الصيني للمصالح الغربية.

أمريكا تتهم بكين بالوقوف وراء العشرات من الهجمات السيبرانية ضد مؤسسات وشركات أمريكية، بجانب أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية ضبطت العشرات من عمليات التجسس العسكري والصناعي في السنوات الأخيرة، ففي تقريرها السنوي الصادر في أبريل الماضي، ذكرت المخابرات الأمريكية أن سعي الصين لتصبح قوة عالمية يعد التهديد الأكبر للأمن القومي الأمريكي، وأشار التقرير إلى أن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم سيكثف من جهود الحكومة بأكملها لتوسيع نفوذ الصين وتقويض نفوذ الولايات المتحدة، وإثارة الفرقة بين واشنطن وحلفائها وشركائها وتعزيز قبول نظامها الاستبدادي.

بالتأكيد التنين الصيني لا يقف مكتوف الأيدي أمام التحركات والتصعيد الأمريكي، فمع تعزيز وتعظيم قوتها البحرية في بحر الصين الجنوبي لتأكيد النفوذ والسيادة، قامت، مع إعلان إنشاء تحالف «أوكوس»، بأكبر عملية توغل جوى في أجواء تايوان بأكثر من ٥٠ مقاتلة حربية، وهو أمر لم يحدث منذ ٤٠ عامًا وفقًا لوزير الدفاع التايواني.. أي نعم أن هذا التحرك الصيني أثار غضب واشنطن، واعتبرت على لسان أنتوني بلينكن أن الإجراءات الصينية تجاه تايوان تقوض الاستقرار في المنطقة، لكن أيضًا بكين واضحة في موقفها باعتبار جزيرة تايوان جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الصينية، وهو ما أكد عليه السبت الماضي الرئيس الصيني «شي جين بينج» الذي حذر من أن الشعب الصيني لديه تقليد مجيد من رفض النزعات الانفصالية، وهو ما ترفضه تايوان التي ترى في نفسها دولة مستقلة ذات سيادة.

الصراع والتنافس الأمريكي الصيني على النفوذ الدولي وزعامة العالم قد يأخذ سنوات بل عقودًا، وبلا شك سيؤثر بشكل كبير على الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية التي تربطها علاقات ومصالح استراتيجية مع كل الأطراف، لكنها قد تجبر على الانضمام إلى أحد الأقطاب المتنافسة «أمريكا أو الصين»، وهو ما يستدعى الانتباه، والتفكير جديًا في إحياء حركة عدم الانحياز، لتستعيد دورها في الحفاظ على السلام والأمن في العالم، وتبريد أي بوادر تصعيد بين واشنطن وبكين سيكون الجميع فيه خاسرًا.

+ posts

مدير المرصد المصري

محمد مرعي

مدير المرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى