
ماذا يعني نقل ساحة المعركة بين إيران وإسرائيل من الشام إلى القوقاز؟
خلال حرب إقليم “ناجورني قره باغ” الثانية التي انطلقت في سبتمبر 2020، لم يُبدِ الإيرانيون استعداداً واضحاً للانخراط في هذه الأزمة القوقازية بين أذربيجان وأرمينيا؛ حيث كانت طهران طرفاً غير مباشر بها، على الرغم من أن تشابكات وتعقيدات الأزمة ليست ببعيدة عنها على أي حال. ولكن الأخيرة وخلال مطلع شهر أكتوبر الجاري، قد بدأت في إجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق على الحدود مع أذربيجان تُعد هي الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق قبل ما يقارب 30 عاماً.
جاءت هذه “الرسائل” العسكرية الإيرانية في أعقاب سلسلة من الأحداث والتطورات التي أخذت في الواقع سنواتٍ طوال كي تُشكل المشهد السياسي الحالي بين إيران وأذربيجان والذي نحن بصدده. وكان من بين أبرز هذه التطورات إغلاق باكو لطرق تجارية أمام الاقتصاد الإيراني. ولكن الأكثر أهمية من ذلك تمثل في سماح أذربيجان لـ”الجيوش الأجنبية”، على حد وصف المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي منذ أيام، بالتواجد بالقرب من إيران. ويقصد خامنئي بهذا التعبير إسرائيلَ من دون شك، إضافة لتركيا.
وعلى الرغم من أهمية العامل الاقتصادي فيما يتعلق بالتطورات الأخيرة بين باكو وطهران، إلا أن التوجس الأمني الجدي لدى طهران، الذي أشارت إليه تصريحات خامنئي، يُعد المحفز الحقيقي للتوتر الحالي بين طهران وباكو والسبب الرئيس الذي دفع إيران لإطلاق المناورات العسكرية الحدودية. إذاً، ما هو سر الانزعاج الإيراني من أذربيجان؟
تعاون أمني وعسكري بين إسرائيل وأذربيجان
لعل أبرز ما يُقلق الجارة إيران هي طبيعة العلاقات العسكرية بين أذربيجان وإسرائيل منذ عشرات السنين. حيث إن هذا التشابك يعني الكثير لإيران التي ترى إسرائيل عدواً لدوداً. فعلاقات أذربيجان وإسرائيل قد بدأت في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 مباشرة، حينما اعترفت إسرائيل مبكراً في 25 ديسمبر 1991 باستقلال أذربيجان، ثم ما لبث الجانبان أن شرعا في تعزيز العلاقات الديبلوماسية بعد هذا التاريخ بأربعة أشهر فقط.
ومن الجدير الإشارة إلى أن آلاف اليهود يعيشون في أذربيجان، وتختلف التقارير بشأن أعدادهم ما بين 10 آلاف إلى 30 ألف، إلا أنه عدد ليس بالقليل في جميع الأحوال قياساً بأعداد اليهود في مختلف دول الشرق الأوسط.
ونمت علاقات أذربيجان وإسرائيل تجارياً وديبلوماسياً وعسكرياً حتى أن الرئيس إلهام علييف قد شبّه ذات مرة، حسب وثيقة مسربة من جانب موقع ويكيليكس عام 2009، علاقات بلاده بإسرائيل بأنها كجبل الجليد “تسع أعشارها تحت السطح”.
وبمرور الوقت، ازداد حجم التبادل والتعاون العسكري، على وجه الخصوص، بين الجانبين. فقد أوضح علييف في عام 2016 أن أذربيجان أنفقت 5 مليارات دولار على استيراد معدات عسكرية من إسرائيل. ويقول معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إن قيمة مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى باكو خلال الفترة من 2017 إلى 2019 قد بلغت أكثر من 375 مليون دولار.
وحسب تقارير دولية، صدّرت إسرائيل إلى أذربيجان ما نسبته 43% من جميع إمدادات الأسلحة خلال الفترة ما بين عامي (2015-2020) مقابل تزويد باكو لإسرائيل بحوالي 40% من النفط الذي يستهلكه الداخل. وفي العام 2012، وقعت أذربيجان وإسرائيل اتفاقاً تقرر بموجبه أن تبيع شركة صناعات الفضاء الإسرائيلة (IAI)، التي تديرها الحكومة، طائرات (درونز) وأنظمة دفاع صاروخي بما تصل قيمته إلى 1.6 مليار دولار أمريكي آنذاك.
وفي السياق نفسه، يعود تاريخ التعاون العسكري الإسرائيلي الأذربيجاني على مستوى الخبراء والمستشارين العسكريين الذين يقدمون الدعم التدريبي والاستخباراتي لباكو إلى حوالي 15 عاماً. واتضحت طبيعة هذا التعاون بشكل أكبر خلال الحرب التي اندلعت العام الماضي 2020 في إقليم ناجورني قرة باخ، حيث استعملت باكو في هذا الصراع طائرات من دون طيار إسرائيلية عالية الدقة.
وعلى أي حال، أقلق إيرانَ، ولا يزال، حجمُ هذا التعاون الأمني والعسكري ودفعها لاتهام باكو أكثر من مرة بتسهيل تنفيذ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) عملياتٍ على الأراضي الإيرانية. فطهران لطالما وجّهت هذا الاتهام لباكو بأنها منحت إسرائيل “حرية واسعة” لشن ضربات في العمق الإيراني. وكان المثال الأبرز على هذا ما أشير إليه في إيران حول أن عملاء “الموساد” قد انطلقوا من أذربيجان وسرقوا وثائق مهمة تتعلق بالملف النووي الإيراني من داخل إيران عام 2018.
إن ما سبق يفسر لماذا لم يأت حديث خامنئي أوائل الشهر الجاري، بشأن التطورات الأخيرة في العلاقات العسكرية والأمنية بين إسرائيل وأذربيجان وتداعياتها على إيران، من فراغ أو فجأة. وقد فسّر المتحدثُ باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، هذا الأمر بشكل أكثر وضوحاً في حديثه يوم 5 أكتوبر 2021 حينما شدد على أن بلاده “لن تتسامح” مع أي شكل من أشكال التواجد الإسرائيلي بالقرب من حدودها، مضيفاً أن طهران “ستتخذ ما تجده مناسباً لأمنها القومي”.
قلقٌ إستراتيجي.. إسرائيل تنقل المعركة إلى حدود إيران
لعشرات السنوات، ومنذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، تمكنت إيران من إيجاد تهديد إستراتيجي لإسرائيل على الحدود مع لبنان وفي بعض مناطق فلسطين، وفي جنوب سوريا أيضاً. لقد تحول هذا النوع من التهديد إلى ورقة مساومة إيرانية ناجحة ورابحة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. إذ أن طهران قد رسخت مواطئ قدم لها في هذه الدول الحدودية مع إسرائيل عن طريق الوكلاء وأبرزهم “حزب الله” اللبناني، فضلاً عن دعمها لفصائل أخرى في منطقة الشام.
وتحول هؤلاء الوكلاء الإيرانيون بمرور الوقت إلى “قنبلة ردع” إيرانية عند الحديث عن أي احتمالية لمواجهة عسكرية بين إيران وإسرائيل. ويكشف هذا من إحدى جوانبه عن أسباب التخوف الإسرائيلي المستمر من ردة الفعل إزاء شن ضرباتٍ عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. لقد وظّفت إيران هؤلاء الوكلاء، في مختلف مناطق الإقليم، بشكل جعلهم يلعبون دوراً كبيراً في بقاء النظام نفسه.
ولكن يبدو أن إسرائيل قد خططت للالتفاف على هذا التحوّط الإيراني ضدها في إقليم الشرق الأوسط وقامت بنقل ميدان المعركة إلى الحدود الإيرانية. فالعلاقات العسكرية والتجارية الإسرائيلية الأذربيجانية قد أعطت لإسرائيل مجالاً حيوياً للحركة في إحدى أكثر المواقع الحدودية الإيرانية الملتهبة، والواقعة في الشمال الغربي.
فعلى الرغم من أن مدى نمو العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل غير معلوم، كما أشير إليه هنا نقلاً عن وصف إلهام علييف، إلا أن المعلومات المتاحة توضح أن حجمها مؤثر في إقليم القوقاز، وإلا لما صرح المسئولون في طهران مهددين الدول المجاورة التي تستضيف تعاوناً مع إسرائيل، وأيضاً لما أقامت إيران أكبر مناورات حدودية مع أذربيجان منذ عقود.
ولم ينتهِ التحوطُ الإستراتيجي الإسرائيلي ضد إيران عند حدود أذربيجان، فحسبما تشير وسائل إعلام في إيران، تتمتع إسرائيل بعلاقات جيدة مع الأكراد في شمال العراق، وهو ما يكون دافعاً في بعض الأحيان لأن تشن طهران ضربات جوية ضدهم.
وعليه، فأخذاً في الحسبان طبيعة علاقات إسرائيل العسكرية والأمنية بأذربيجان والأكراد على الحدود مع إيران، وانطلاقاً من التصريحات الإيرانية والتقارير الدولية المعنية بهذا الصدد، يمكننا التوصل إلى نتيجة مفادُها أن إسرائيل قد كررت بالفعل نفس سيناريو “الردع” الإيراني في سوريا ولبنان، ولكن هذه المرة في القوقاز.
ماذا يعني نقل ميدان المعركة إلى القوقاز؟
إنْ سارت الأحداث كما هي واستطاعت إسرائيل توسيع نطاق نفوذها في القوقاز، فإنها من المرجح بقوة أن تُحَجِّم نسبياً من مدى تأثير وكلاء إيران في منطقة الشام مستقبلاً على إسرائيل. وذلك على الرغم من أن بروز نتائجَ جدية عملية لهذا التغيير، تستطيع على أرض الواقع سلبَ وكلاء إيران قدراً كبيراً من دورهم في معادلة الردع الإيرانية الإسرائيلية، سوف يحتاج إلى وقت أطول.
ولكن المستقبل القريب سيحمل قدراً ولو ضئيلاً بشأن تغيرٍ في المعادلة الأمنية المُشار إليها على أي حال؛ حيث إن تواجد إسرائيل في القوقاز على هذا النحو يجعل بإمكانها إدراج مساومات أمنية ضمنية مع إيران.
باحث بالمرصد المصري



