
أوكرانيا.. مهد الحرب الباردة الجديدة بين روسيا وأمريكا
بعد أربع سنوات من الهدوء، عاد التوتر يضرب الساحات الأوكرانية مرة أخرى، على ضوء الحرب بالوكالة الجارية في الدولة الواقعة في أوروبا الشرقية، ما بين روسيا من جهة وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
السنوات الأربع شملت سنوات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض، ما بين يناير 2017 ويناير 2021، ولكن مع مجيء إدارة الرئيس جو بايدن، استأنفت الإدارة الجديدة ما سبق من مواقف أمريكية متشددة في ملف أوكرانيا في سنوات جورج بوش الابن وباراك أوباما.
وكانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وما قبل الحقبة السوفيتية كانت في أغلب الأوقات أما جزءًا من الدولة الروسية أو تدور في فلكها السياسي، إلى أن ظفرت بالاستقلال في سنوات ما بعد الحرب الباردة، وبدأ العالم يتعرف على ديموغرافية أوكرانيا القرن العشرين، حيث ينتمي أغلب سكان الشرق إلى الكنيسة الأرثوذكسية المتأثرة بالثقافة الروسية، عكس سكان الغرب المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية المتأثرة بالثقافة الأوروبية، في حين يشكل “التتار المسلمين” أغلبية سكان شبه جزيرة القرم في الجنوب.
وفي الولاية الأولى لبوش الأبن، بدأت لعبة تطويق روسيا الفيدرالية بحزام من الثورات الملونة، تضرب الجمهوريات السوفيتية السابقة ونفوذ روسيا في آسيا الوسطى والبلقان وأوروبا الشرقية، وشمل هذا الحزام صناعة ثورات شعبية في جورجيا وأوكرانيا (22 نوفمبر 2004 – 23 يناير 2005) وقيرقيزستان.
كانت ثورة جورجيا سريعة، ولكن الثورة الاوكرانية الأولى
الثورة الأوكرانية الأولى 2004
أجريت الانتخابات الرئاسية بين رئيس الوزراء فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا، ومرشح المعارضة – الموالية للغرب – فيكتور يوتشينكو، وأعلنت النتيجة بفوز رئيس الوزراء، ما رأه أنصار المعارضة تزويرًا لإرادة الشعب ونزلوا الشوارع في ثورة شعبية يوم 22 نوفمبر 2004.
انتهى الأمر بإعلان فوز فيكتور يوتشينكو بالرئاسة وأدائه اليمين الرئاسي
يوم 23 يناير 2005، وهكذا ظفرت الثورة الاوكرانية بمشهد ختامي سعيد.
القوة الضاربة للثورة في الميادين كانت يوليا تايموشينكو بامتياز، ولقبت بأميرة الثورة البرتقالية، وتولت رئاسة الوزارة الأوكرانية فور انتصارها.
تصرفت روسيا في الأزمة بحذر بالغ ، لأن أي تهور لا يعني تقسيم أوكرانيا فحسب، بل انتقال فيروس التقسيم إلى دول الجوار الروسي و ربما داخل روسيا ايضًا، رأت روسيا أن لعبة فرق تسد هي الأفضل ، فالرئيس على خلاف مع رئيسة وزرائه ، ورغم أن الرئيس فيكتور يوتشينكو كان عضوًا بارزًا في الحزب الشيوعي الأوكراني إبان الإمبراطورية السوفيتية ، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجد يوليا تايموشينكو أقرب إلى موسكو، فقربها إلى الكرملين ، و أنجح وزارتها، ثم تلاعب بالأحزاب وتم حل برلمان 2006 وأجريت الانتخابات مرة أخرى عام 2007 وتناوب على رئاسة الوزراء أكثر من شخص في فترات زمنية قصيرة ، ما جعل رئاسة الوزراء الأوكرانية في حالة من عدم الاستقرار.
و لما حانت الانتخابات الرئاسية عام 2010 ، وترشحت يوليا تايموشينكو ، أنزل الروس مرشحهم العتيد فيكتور يانكوفيتش الذي قامت الثورة عام 2004 ضد فوزه بالرئاسة ، في معادلة قصدها بوتين بدقة ، النظام القديم الذى ثار الشعب ضده يومًا، وأميرة الثورة البرتقالية، بعد ست سنوات من حكم الثورة، لكي ينتخب الشعب النظام القديم ويسقط مرشحة الثورة البرتقالية الأوكرانية الأولى، في استمرار ناجح لسياسة بوتين في أن يتم ترك الثورة تحكم بضعة سنوات يرى الناس خلالها إفلاس المعارضة وحقيقة المؤامرة ، ومن ثم يتم طرح كل شيء مجددًا في انتخابات يحصدها حلفاء الكرملين .
أدى فيكتور يانكوفيتش اليمين الرئاسي في 25 فبراير 2010 وألغي دستور 2004 الثوري وسمح للقضاء بتتبع ملف يوليا تايموشينكو القضائي وبالفعل ألقيت رئيس الوزراء السابقة في السجن.
الثورة الأوكرانية الثانية
وبحلول عام 2013، كان مشروع إدارة أوباما للشرق الأوسط قد سقط على يد ثورة 30 يونيو المصرية، وتخوفت أمريكا والغرب من انطلاقة القطار الروسي على ضوء التقارب الروسي مع مصر وسوريا، وأصبح واجبًا على الغرب فرملة تلك الانطلاقة، وكانت أوكرانيا جاهزة للانفجار من قبل الثورة المصرية والفيتو الروسي على ضرب سوريا، وتحديدًا في مارس 2013 اندلعت انتفاضة 2013 الأوكرانية الأولى (14 مارس 2013 – 24 اغسطس 2013).
وبحلول نوفمبر 2013، كان على أوكرانيا أن توقع على اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وهو اتفاق يغدق على أوكرانيا انفتاحًا أوروبيًا على حساب عدم مشاركتها في الاتحاد الجمركي الجديد “الاتحاد الأوراسي” الذي قام بوتين بتأسيسه مع كازاخستان وروسيا البيضاء، وهو أمر يعني خسارة روسيا لأوكرانيا إلى الأبد في حرب الاقتصاد.
وهكذا رفض الرئيس فيكتور يانكوفيتش توقيع الاتفاق، فتحرك النشطاء والأحزاب والكتلة الشعبية المؤيدة للتوجه إلى أوروبا، وهكذا اندلعت الثورة الاوكرانية الثانية/انتفاضة 2013 الثانية (21 نوفمبر 2013 – 23 فبراير 2014).
و حينما صمد الرئيس الموالي لموسكو، قبل الغرب بأن تحسم الميلشيات النازية الثورة الأوكرانية الثانية في الفترة ما بين يومي 18 فبراير إلى 23 فبراير 2014، حيث نزلوا إلى ميدان الاستقلال الأوكراني و سحقوا جهاز الشرطة، الخط الاحمر الأوروبي لعدم تقسيم أوكرانيا أو سيادة الفوضى بها زال في أزمة 2013 – 2014 امام الصحوة الروسية ، سابقا ً كان الغرب يتخوف على أوكرانيا، أما في أزمة 2013 – 2014 الغرب اتبع سياسة الارض المحروقة ، إما أن تكون أوكرانيا أوروبية أو لا أوكرانيا من الاساس، أوكرانيا الروسية لم تعد مقبولة.
أطلق الغرب العنان لــ اليمين القومي الأوكراني المتطرف المعادي لكل ما هو روسي، منظمة برافى سكتور (بالأوكرانية Pravyi Sektor وبالإنجليزية Right Sector)، تأسست في ديسمبر 2013، منظمة مسلحة من النازيين مارست العنف المسلح ضد الشرطة بشكل مستفز ما أدى إلى مصادمات رهيبة في فبراير 2014، ترفض الاندماج في الاتحاد الأوروبي وسبق للسفارة الإسرائيلية في أوكرانيا أن نددت بتوجهاتها.
يرأس المنظمة Dmytro Yarosh ديمترى ياروش، أصبح بعد ثورة 2014 نائب سكرتير عام مجلس الأمن والدفاع الأوكراني بعد الثورة، من شرق أوكرانيا ومتحدث جيد باللغة الروسية، خدم في الجيش السوفيتي، وتزعم روسيا انه لاحقًا قاتل مع رفاق له بالحركة في الشيشان قبل أن يعود إلى أوكرانيا، وقاد الاحتجاجات المسلحة في قلب أوكرانيا.
وفى 1 مارس 2014 أصدر ياروش بيان يطالب فيه مقاتلو الشيشان بقيادة دوكو عمروف بتقديم الدعم العسكري المسلح لما اسماه القوى المعادية لروسيا في أوكرانيا موضحا ً أن الأوكرانيين لطالما دعموا حق الشيشان.
يرى ياروش حتمية حظر الحزب الشيوعي الأوكراني وحزب الأقاليم الأوكرانية المواليين لموسكو.
إلى جانب ياروش وحركته، هنالك حزب الحرية، أو حزب Svoboda بالأوكرانية، وهو تجمع ثان لـ النازية في أوكرانيا، الحزب شارك في الوزارة الجديدة عقب سقوط النظام الموالي لموسكو بــ نائب رئيس الوزراء، وزراء الدفاع والزراعة والبيئة، كما نالوا منصب المدعي العام.
يحاول بعض المؤرخين الغربيين إطلاق اسم الثورة الأوكرانية الثانية على اشتباكات ميدان الاستقلال ما بين 18/23 فبراير 2014 فحسب، ولكن الواقع أن الثورة الأوكرانية الثانية بدأت في 21 نوفمبر 2013 من قبل الغارة النازية التي قام بها المتطرفين الأوكرانيين.
الثورة الروسية المضادة في شرق وجنوب أوكرانيا
في نفس يوم انتهاء الثورة الأوكرانية البرتقالية الثانية، 23 فبراير 2014، اندلعت ثورة شرق وجنوب أوكرانيا، وهي ثورة موالية لروسيا وضد ما جرى في سائر أرجاء أوكرانيا، وتسلح الموالين لروسيا، وادخلت روسيا جنود وأرتال عسكرية تأييدا ً لهم،
وفى 6 أبريل 2014 انتهت ثورة شرق أوكرانيا لكي تتحول إلى حرب شرق أوكرانيا أو الحرب الاهلية الأوكرانية، حيث رفضت حكومة أوكرانيا مظاهر الاستقلال التي راحت تزحف على شرق اوكرانيا وقررت اخضاع شرق أوكرانيا لسلطة الدستور.
أعطى بوتين الضوء الاخر للانفصاليين في شرق أوكرانيا، حيث تم اعلان قيام جمهورية دونيتسك الشعبية في 7 ابريل 2014، ثم جمهورية لوجانسك الشعبية
في 27 ابريل 2014.
انضمام القرم الأوكراني إلى روسيا الفيدرالية
قبل اعلان جمهوريات شرق أوكرانيا، وتأمينا ً للقاعدة العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم، أعلن برلمان القرم في 17 مارس 2014 الاستقلال وطلب الانضمام إلى روسيا، وتحديدًا جمهورية القرم وإقليم سيفاستوبول، وفي 18 مارس 2014 أمام البرلمان الروسي القى الرئيس فلاديمير بوتين خطابا تاريخيا أعلن فيه قبول روسيا عودة شبه جزيرة القرم إلى التراب الروسي، على اعتبار انها كانت تاريخياً جزء من روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي، وطالب المجتمع الدولي بعدم الوقوف أمام وحدة “العالم الروسي”.
نتائج الحرب الاهلية الأوكرانية
هكذا انقسم شرق أوكرانيا إلى جمهوريتين يحاربان ما تبقى من جمهورية أوكرانيا،
وانضم جنوب أوكرانيا إلى روسيا على هيئة جمهورية القرم وإقليم سيفاستوبول، أي أن أوكرانيا ما قبل الثورة البرتقالية الثانية قسمت اليوم إلى خمس دويلات.
استغل الغرب الأزمة الأوكرانية، وأمطر روسيا بالعقوبات الدولية، تارة من الاتحاد الأوروبي وتارة من الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تقليم أظافر التجربة الاقتصادية الروسية.
التوافق الأمريكي الروسي في زمن ترامب
ومع وصول ترامب للبيت الأبيض، حدثت العديد من التفاهمات الأمريكية الروسية، فيما يتعلق بسوريا وكوريا الشمالية إضافة إلى أوكرانيا، حيث أصبح من النادر أن تحدث مشاكل بين أوكرانيا وجمهوريات شرق أوكرانيا، ويعتبر تاريخ تنصيب ترامب في يناير 2017 هو تاريخ انتهاء الحرب الاهلية الأوكرانية عملياً.
وبحلول عام 2019 كان هنالك انتخابات رئاسية وبرلمانية في أوكرانيا، حيث وصل التفاهم الأمريكي الروسي إلى الذروة عبر اختيار المرشح التوافقي فولوديمير زيلينسكي وحزبه “خادم الشعب” للظفر بالانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية على التوالي.
زيلينسكي ناشط سياسي قريب من الاوليجاركية أو النخبة الأوكرانية الموالية لروسيا، وفى نفس الوقت لا يتخذ مواقف متشددة من الكتلة المقرب للغرب، ما جعله حارس أمين على وقف اطلاق النار وتثبيت نتائج الحرب الباردة الجديدة التي شهدتها أوكرانيا ما بين عامي 2013 و2017، حيث نفذ زيلينسكي سياسة ترامب التي تتمثل بالاعتراف بالأمر الواقع، أي الاعتراف العملي بسيادة روسيا على شرق أوكرانيا والتعامل مع أوكرانيا بهذا الوضع الجديد دون حدوث أي اشتباكات بين الطرفين أو أن يقوم أي طرف بالإخلال بالموازين الأمنية للطرف الثاني، ما يعني عملياً تعايش النفوذ الروسي والغربي في أوكرانيا دون الذهاب إلى الحروب الأهلية والثورات الملونة.
زيلينسكي هو أول يهودي يرأس أوكرانيا، وفى الفترة ما بين مايو وأغسطس 2019 كانت أوكرانيا هي ثاني دولة في العالم بعد إسرائيل التي يحتل اليهود منصبي رئيس الدولة ورئيس الوزراء حينما كان فولوديمير جرويسمان رئيساً لوزراء أوكرانيا.
خلال سنوات ترامب، كانت أوروبا تقف موقف المتفرج، لا تستطيع التحرك امام التوافق الأمريكي الروسي وإن جرى في الغرف المغلقة رفض أوروبي واسع لتوافق ترامب مع بوتين في ملف أوكرانيا.
ما بعد ترامب
ومع رحيل ترامب في يناير 2021 عن سدة البيت الأبيض، بدأت بعض الأطراف الموالية لأوروبا داخل أوكرانيا في التحرك من أجل افتعال خرق لإطلاق النار مع شرق أوكرانيا، على أمل استئناف الحرب الأهلية مرة أخرى، وإن كانت الدوائر الأمريكية والأوروبية تناقش العودة إلى لعبة الثورات الملونة وافتعال عدداً من الاضطرابات وصولا إلى العام 2023 حينما تحل انتخابات برلمانية في أوكرانيا، من أجل التدخل وإنتاج ثورة ملونة جديدة، خصوصاً إن أوروبا قد تحركت عام 2019 في صناعة انتفاضة شعبية ضد زيلينسكي ما بين أكتوبر وديسمبر لفرملة اندفاعه للتصالح مع الشرق، ولكن الانتفاضة لم تتمدد في أوكرانيا بالقدر الكافي وكانت بحاجة إلى دعم أمريكي لم يقدمه ترامب.
باحث سياسي



