
الهجوم على “البوكمال”.. إدارة بايدن ترسم ملامح سياستها المستقبلية تجاه إيران
أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية يوم الخميس 25 فبراير الجاري على تنفيذ هجماتٍ ضد مواقعَ لميليشيات تدعمها إيران تتمركز على الحدود السورية العراقية وتحديداً في منطقة البوكمال شرقي سوريا.
نتج عن الهجوم بعض القتلى والمصابين، حيث صرحت مصادر طبية في البوكمال أن هناك 19 قتيلاً وأكثر من 22 مصابا، بينما قالت مصادر أخرى إن عدد القتلى يصل إلى 22 مسلحا من الموالين لإيران وعدد آخر من المصابين إلى جانب تحطم 3 شاحنات محملة بالذخيرة.(*)
يُعد هذا الهجوم هو العمل العسكري الأول الذي تتخذه الإدارة الأمريكية الجديدة في البيت الأبيض برئاسة جو بايدن ضد إيران في المنطقة، ولذا فإنه يبشر حتماً بطبيعة مستقبل سياسة إدارة بايدن تجاه إيران خلال الفترة المقبلة.
ولذا، يحمل هذا الهجوم، الذي أصدر الأمرَ بتنفيذه الرئيس جو بايدن، عدداً من الدلالات نجملها فيما يلي:
تحديد أطر العلاقة المستقبلية: إدارة بايدن تبلغ إيران أنها ماضية في تنفيذ خططها بشأن التعامل معها

كان الهجوم الإيراني الذي وقع مساء يوم 15 فبراير الجاري واستهدف بالصواريخ أقرب قاعدة جوية عسكرية أمريكية من إيران في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراقي اختباراً إيرانياً للإدارة الأمريكية الجديدة في البيت الأبيض.(*) وأدركت إدارة بايدن هذه الرسالة الإيرانية في وقتها، وعلمت أنه إذا تُرك الاختبار بدون جواب فإن سياستها تجاه إيران ستكون معرضة للفشل أو الضغوط في الوقت نفسه.
ومن الطبيعي نتيجة لذلك أن يستلزم هجوم 15 فبراير الجاري رداً أمريكياً؛ خاصة أن طهران وواشنطن على شفا عقد مفاوضات مهمة بشأن إعادة النظر في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015 مع القوى الكبرى. وعليه، فإن الرد الأمريكي في البوكمال السورية كان شبه حتمي؛ وذلك حتى لا يكون لدى إيران القدرة على فرض شكل معين لطبيعة علاقاتها مع الولايات المتحدة في عهد إدارة بايدن، بل أن يكون القرار والترسيم في يد الأخيرة وليس الأولى.
الهجوم وإعادة التفاوض على الاتفاق النووي من موقع قوة
إذا لم ترد واشنطن على الهجوم الذي استهدف قاعدة الحرير الجوية في 15 فبراير، فإن موقعها التفاوضي مع إيران خلال المحادثات المرتقبة بشأن الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015 كان سيعاني من ضعف واضح لصالح إيران.
ويعني هذا أن إمكان واشنطن فرضَ قيود في هذه المحادثات على ملفات مثل الصواريخ الباليستية والأنشطة النووية والتحركات العسكرية الإيرانية في المنطقة سيكون أمراً أكثر تعقيداً وصعوبة في الوقت نفسه، وربما هذا هو ما استدعى وزارة الدفاع الأمريكية إلى التأكيد على أن الرئيس جو بايدن هو من أصدر قرار الهجوم على وكلاء إيران في البوكمال.
عدم السماح لوكلاء إيران باستهداف القوات الأمريكية
وعلى الجانب الآخر، يُرسل الهجوم الأمريكي على البوكمال رسالة واضحة لإيران بأن واشنطن لن تسمح في المستقبل بحدوث اعتداء إيراني “أياً كان مصدره” على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما أنها لن تقبل بتمدد تحركات وأنشطة الجماعات التي تعمل بالوكالة عن طهران في الشرق الأوسط، وهو ما يرسم إجمالاً طبيعة السياسة الأمريكية تجاه إيران خلال الفترة المقبلة والتأكيد على أن إدارة بايدن تعتزم جدياً تنفيذ ما وعدت به خلال حملتها الانتخابية من تحجيم النشاط الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة.

وهنا، يمكن الإشارة إلى تصريح سابق للرئيس بايدن خلال حملته الانتخابية حينما شدد على أنه لن يتم السماح لإيران بتوسيع نفوذها في المنطقة.
وعليه، فإن هذا الهجوم يحمل تأكيداً من إدارة بايدن على أنها عازمة على اتباع وتنفيذ سياستها الخاصة تجاه إيران التي رسمتها قبل دخولها البيت الأبيض في 20 يناير الماضي. وينبغي مرة أخرى تأمل تأكيد البنتاجون على أن الرئيس بايدن أصدر الأمر بالهجمات، وهو ما يعني أنه ماضٍ في تنفيذ رؤيته الخاصة فيما يتعلق بإيران، خاصة بالتزامن مع المفاوضات النووية المتوقعة.
الدبلوماسية والجلوس على طاولة المفاوضات لا يعني السماح لوكلاء إيران بتنفيذ هجمات ضد واشنطن أو حلفائها

وارتباطاً بما سبق، يبعث الهجوم برسالة قوية مفادها آيضاً أن الجلوس على طاولة المفاوضات مع طهران والدخول في مسار دبلوماسي معها لا يعني السماح لوكلائها بالقيام بهجمات ضد واشنطن أو حلفائها.
فقد جاء بيان البنتاجون مؤكداً على أن مِن بين مَن تم استهدافهم في الهجوم كانت نقاط مراقبة لـ “كتائب حزب الله” و”كتائب سيد الشهداء” اللتان كانتا ضمن الجماعات التي هاجمت مصالح أمريكية مؤخراً، ما يشير إلى أن واشنطن لن تصمت أمام أي اعتداء إيراني مقبل على الرغم من المسار الدبلوماسي الذي تتبعه الإدارة الأمريكية الجديدة فيما يتعلق بإيران.
كما أن رغبة إدارة بايدن في التفاوض لا تعني إمكانها التنازل عن ركن أساسي في سياستها تجاه إيران، وهو مواجهة أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة والتي تقوم بها بشكل أساسي الجماعات الموالية لها في المنطقة، خاصة في العراق.
وقد جاء البيان الأمريكي الذي أعقب الهجوم مؤكداً لهذه النقطة وهي رغبة واشنطن في مواجهة التحركات الإيرانية وتهدئة الأوضاع، حيث جاء فيه أن “الرئيس بايدن سيعمل على حماية الأفراد الأمريكيين وقوات التحالف. وفي الوقت نفسه، تصرفنا بطريقة متعمدة تهدف إلى تهدئة الوضع العام في كل من شرقي سوريا والعراق“.
الأهمية الإستراتيجية للبوكمال تؤكد إصرار بايدن على تنفيذ أجندته تجاه إيران

(منطقة البوكمال السورية القريبة من العراق)
وإذا ما نظرنا إلى موقع منطقة البوكمال وأهميتها الإستراتيجية للحرس الثوري الإيراني ووكلاء طهران في المنطقة، سنجد أن إدارة بايدن لديها إصرار على تنفيذ برنامجه تجاه إيران.
فمنطقة البوكمال الواقعة في محافظة دير الزور شرقي سوريا وإلى الغرب من العراق تُعد محوراً إستراتيجياً مهماً للقوات الإيرانية وتلك الموالية لها في المنطقة؛ ذلك لأن البوكمال تشكل معبراً رئيسياً يربط ويصل القوات الموالية لإيران في العراق وسوريا بعضها ببعص، ما يجعلها تحتل مركزاً إستراتيجياً مهماً لإيران، لا يقل أهمية بالنسبة لها عن الحدود اللبنانية والسورية مع إسرائيل.
وللحرس الثوري والميليشيات الإيرانية سيطرة وانتشار كبيرين على منطقة البوكمال ومن أبرز هذه الميليشيات المنتشرة بها “لواء فاطميون الأفغاني”، “لواء زينبيون الباكستاني”، “لواء الإمام علي”، “كتائب حزب الله”، “كتائب سيد الشهداء”، “حركة النجباء”، و”الحشد الشعبي العراقي” الذي تندرج تحته العديد من الجماعات الموالية لإيران والتي تخضع في النهاية للحرس الثوري وقيادته في طهران.
ويبعث الاستهداف الأمريكي لهذه المنطقة تحديداً، التي تعد بؤرة تمركز لوكلاء إيران، بأن الرد الأمريكي على أي هجوم إيراني في المستقبل سيواجه برد قوي؛ ذلك لأنه كان من الممكن لواشنطن أن توجه هجومها لأي تمركز إيراني آخر في المنطقة، إلا أن اختيار الموقع يحمل في ثناياه رسالة ضمنية قوية لطهران.
إجمالا
يشير الهجوم الأخير إلى أن إدارة بايدن عازمة على تنفيذ ما وعدت به تجاه إيران، وهي بالفعل تقوم بذلك بداية من فتح ملف المفاوضات النووية مع إيران إلى التأكيد على رفضها توسع نفوذ وكلاء إيران وتحركات الأخيرة في المنطقة. ويمثل الهجوم من ناحية أخرى رسالة ردع قوية لإيران، ورفض واشنطن الدخول في حرب باردة معها في المستقبل، وكذلك أن واشنطن ترغب في السيطرة على السلوك الإيراني وعدم إطلاق يدها في المنطقة.
باحث بالمرصد المصري