
دلالات الانسحاب الروسي من معاهدة “الأجواء المفتوحة” وقراءة الإدارة الأمريكية الجديدة للمشهد
على مدى العقد الماضي، بات الانهيار المُطرد لاتفاقيات الدفاع الثنائية، بما في ذلك “معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى”، ومؤخرًا معاهدة “الأجواء المفتوحة” الدفاعية، رمزًا لتوتر العلاقات بين روسيا والغرب من جانب، وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر.
يأتي ذلك بعد إعلان روسيا الاتحادية، بشكل رسمي انسحابها من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، وهي الاتفاقية التي تخول للمنضوين تحت لوائها التثبت في التحركات العسكرية، والتثبت من إجراءات الحد من تسلح الدول الموقعة على المعاهدة. وتسمح لكل دولة من أعضائها بالقيام برحلات طيران استطلاعية غير مسلحة، فوق أراضي باقي الأعضاء. وكانت الولايات المتحدة المبادرة إلى الانسحاب رسميًا من المعاهدة في الثاني والعشرين من نوفمبر 2020.
بهذا القرار الروسي بالانسحاب، يُمكن القول إن المعاهدة التي تم توقيعها في عام 1992، ودخلت حيز التنفيذ في 2002. كإجراء لبناء الثقة في أعقاب الحرب الباردة، قد تعطَلت بشكل فعلي.
دوافع وأسباب موسكو في الإنسحاب
بررت موسكو خطوة الانسحاب بأنها مماثلة للخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة العام الماضي، ومعربة في الوقت ذاته عن أسفها إزاء وجود عراقيل تحول دون تفعيل عمل المعاهدة في الظروف الحالية، فالانسحاب الأمريكي من وجهة نظر موسكو قد دمر الأسس التي قامت عليها المعاهدة، وألحق ضرارًا جسيمة بعملها، ويحد كثيرًا من إجراءات بناء الثقة والأمن الجماعي.
الدافع الثاني لمبررات موسكو في الانسحاب، هو أنه وبعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، دخلت روسيا في محادثات مع الأعضاء الـ 33 الآخرين في المعاهدة، وتقدمت بعدد من المقترحات لاستمرار المشاركة فيها، منها أنها طالبت بضمانات بأن البيانات التي يتم جمعها من الرحلات الجوية فوق روسيا لا يتم مشاركتها مع واشنطن، ولكن في حيثيات انسحاب موسكو من المعاهدة رأت أنه لم يكن هناك حسن نية من قبل الدول الأعضاء الآخرين في هذا الشأن.
وأوضحت موسكو كذلك أن انسحاب الولايات المتحدة قد قلب بشكل كبير ميزان مصالح الدول المٌوقعة، الأمر الذي من شأنه أن يُقوض الأمن العالمي من خلال زيادة صعوبة تفسير الحكومات لنوايا الدول الأخرى، لا سيما وسط التوترات بين روسيا والغرب بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014. كل تلك الأسباب والتخوفات، كانت وراء قرار موسكو إعلان الانسحاب من المعاهدة.
إعلان موسكو -والذي يأتي قبل أيام قليلة فقط من أداء “جو بايدن” اليمين كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية- يعني أنه لم يعد بين الولايات المتحدة وروسيا أي اتفاقيات سارية باستثناء معاهدة “ستارت الجديدة”، التي تحدد عدد الرؤوس الحربية النووية التي قد يمتلكها كل طرف منهما.
وسوف تنتهي هذه المعاهدة في 5 فبراير 2021، وكانت إدارة “ترامب” قد صرحَّت قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، بأنها غير مهتمة بتمديدها ما لم تنضم الصين أيضًا، وهو الأمر الذي ترفضه بكين.
أسباب انسحاب إدارة “ترامب” من المعاهدة
عارضت إدارة الرئيس “ترامب” معاهدة “الأجواء المفتوحة”، وقامت بالانسحاب منها بسبب شكوى المسؤولين الأمريكيين من أن الروس يستخدمون رحلاتهم الجوية في أجواء الولايات المتحدة الأمريكية؛ لجمع معلومات بغرض استهداف البنية التحتية الأمريكية الحساسة وتطوير تكنولوجيا الأقمار الصناعية. الأمر الذي قلل من قيمة الاتفاقية لواشنطن.
وادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن موسكو منعت الرحلات الجوية الأمريكية فوق مناطق حساسة من الأراضي الروسية “كمنطقة كالينينجراد العسكرية في بحر البلطيق”، وكذلك على طول الحدود الروسية مع جورجيا. لكن روسيا دافعت عن نفسها بأن ذلك يأتي ردًا على تقييد الولايات المتحدة الاأمريكية للرحلات الجوية الروسية فوق ولاية ألاسكا.
السبب الآخر وراء القرار الأمريكي بالانسحاب من المعاهدة هو رفض بكين التوقيع والانضمام لها. إذ طالما حثت الصين الدول الكبرى على التوصل إلى اتفاقيات للحد من انتشار الأسلحة بينما رفضت المشاركة فيها، حتى لا تمتثل للقيود التي تُلزمها بها تلك الاتفاقيات. وهو الأمر الذي استغلته بكين، عندما قامت بتطوير عدد من أسلحتها بما في ذلك الصواريخ “الباليستية” متوسطة المدى، وهو الأمر الذي رأته إدارة الرئيس “ترامب” بمثابة تعزيزًا لقدرات بكين العسكرية في حالة نشوب صراع حول “تايوان”.
موقف الاتحاد الأوروبي من الانسحاب الروسي
في وقت سابق، كان الاتحاد الأوروبي قد حث الولايات المتحدة على إعادة النظر في قرار الانسحاب، ودعا موسكو إلى البقاء في الاتفاقية.
يرى الناتو أن الالتزام بالحد من التسلح ونزع السلاح وعدم الانتشار أمور ضرورية للأمن الأوروبي. في هذا السياق، يصف الناتو انتهاء الاتفاقية بالضربة القوية لدول الاتحاد الأوروبي. وتعقيبًا على القرار الروسي بالانسحاب من المعاهدة، أوضح الاتحاد الأوروبي إنه “يُحلل” البيان الروسي وسوف يرد في وقت لاحق”.
موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من انسحاب “ترامب” من المعاهدة
عندما قام “ترامب” بالانسحاب من المعاهدة في نوفمبر 2020، فإنه فعل ذلك من تِلقاء نفسه مُتجاهلًا التشريعات التي تنص على ضرورة تشاوره مع الكونجرس قبل أربعة أشهر من الانسحاب من المعاهدة.
قرار “ترامب” قد يؤثر بالسلب على الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” إذا أراد العودة إلى المعاهدة، خصوصًا بعدما اتخذت إدارة “ترامب” خطوات فعلية للتخلص من الطائرات من طراز (OC-135B)، والتي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ رحلات الأجواء المفتوحة.
انتقد “بايدن” قرار “ترامب” مؤكدًا أن المعاهدة قد حظيت بدعم قوي من الحلفاء، وينبغي معالجة عدم الامتثال الروسي باستخدام إجراءات تسوية النزاعات المنصوص عليها في المعاهدة نفسها، وليس الخروج منها. ورأى أن الانسحاب يُزيد من مخاطر الصراع.
وكان ” بايدن” قد أعلن دعمه لمعاهدة الأجواء المفتوحة حين كان عضوًا في مجلس الشيوخ؛ لأنها تفيد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها بمنحهم القدرة على المراقبة اللحظية لما تفعله القوات العسكرية الروسية.
وإذا ما قررت إدارة “بايدن” الانضمام مرة أخرى إلى المعاهدة، فقد تواجه عقبات قانونية؛ لأنها قد تحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ بأغلبية ثلثي الأصوات، وهي أغلبية ربُما يكون من الصعب تحقيقها.
ولحل هذه الإشكالية القانونية، أكد عدد من القانونيين منهم “جان جالبريث” الخبير القانوني -بجامعة بنسلفانيا- أن الرئيس “ترامب” قد انسحب من المعاهدة دون الحصول على موافقة من الكونجرس، وبالتالي، يحق له إعادة الانضمام للمعاهدة بدون الحصول على موافقة الكونجرس.
كيف ترى إدارة “بايدن” الانسحاب الروسي؟
قد يُنظر إلى الإعلان الروسي بالإنسحاب على أنه خطوة افتتاحية في مواجهة أولية مكثفة قادمة بين روسيا وإدارة بايدن. لكن الانسحاب الرسمي لروسيا من معاهدة الأجواء المفتوحة لن يكون قبل ستة أشهر من الآن، الأمر الذي يترك باب المفاوضات مفتوحًا بين فريق الرئيس “بايدن” والروس. خاصة في ظل إعلان “بايدن” في أكثر من مناسبة بأنه يٌدعم هذه المعاهدة.
أيضًا سيكون على جدول أعمال الرئيس “بايدن” إعلان موقفه بشأن تمديد معاهد “ستارت الجديدة”، وهذه المعاهدة التي تم توقيعها في 2010، والتي تٌقيد عدد الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية المنتشرة وبعض منصات الإطلاق. وإذا لم يتم تمديدها أو استبدال اتفاقية أخرى جديدة بها، فإن أكبر قوتين نوويتين في العالم ستعودان إلى الحقبة السالفة حيث لا قيود على الترسانات النووية لكلا البلدين.
هذا وتتضمن المعاهدة بندًا يسمح لزعماء البلدين بتمديد الاتفاقية لمدة خمس سنوات دون الحاجة إلى التصديق. وفي هذا السياق كان قد أعلن كل من جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق أنهما سيوافقان على التمديد لمدة خمس سنوات، على الرغم من أن موسكو اقترحت مؤخرًا اتفاقًا لمدة عام واحد يتضمن تجميد عدد الرؤوس الحربية النووية على كل جانب.
في الأخير، يُمكن القول إن الانسحاب الروسي يُمثل تحديًا ملحًا للحد من التسلح أمام إدارة الرئيس “بايدن”، والأيام القادمة فقط هي ما سُتحدد أي نهج ستتبعه الإدارة الأمريكية الجديدة.
المصادر:
- Henry Foy and Michael Peel, “Russia to withdraw from Open Skies defence treaty”, (Financial Times, 15 january 2021): https://www.ft.com/content/e2ffb991-382f-4a83-8c91-8cbcd3cd26d6
- ASSOCIATED PRESS, “Russia withdraws from Open Skies Treaty after U.S. departure”, (politico, 01/15/2021): https://www.politico.com/news/2021/01/15/russia-open-skies-treaty-459597
- Michael R. Gordon, “Trump Exits Open Skies Treaty, Moves to Discard Observation Planes”, (The Wall Street Journal, Nov. 22, 2020): https://www.wsj.com/articles/trump-exits-open-skies-treaty-moves-to-discard-observation-planes-11606055371
- Isabelle Khurshudyan, “Russia plans withdrawal from Open Skies treaty allowing surveillance flights after U.S. pullout”, (washingtonpost, Jan. 15, 2021): https://www.washingtonpost.com/world/europe/russia-open-skies-withdrawal-trump/2021/01/15/5976ddd0-5729-11eb-acc5-92d2819a1ccb_story.html
“China lashes out at US withdrawal from open skies treaty”, (Associated Press, November 23, 2020): https://apnews.com/article/china-us-withdrawal-open-skies-treaty-dc5d2f77537464c48568e39e628f9ade
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية