
عودة إيفو موراليس.. ماذا يجري في بوليفيا؟
عانت دول أمريكا الجنوبية/اللاتينية من التنافس الذي جرى بين الدول الأوروبية لاستعمار القارة الأمريكية، ولاحقًا التنافس بين الدولة الأمريكية حديثة النشأة والقوى الاستعمارية الأوروبية، وتاليًا في القرن العشرين وحتى اليوم تحولت أمريكا الجنوبية إلى حلبة مصارعة بين اليمين واليسار على ضوء محاولات أطراف دولية للسيطرة على بعض من تلك الدول من أجل إيجاد موطئ قدم في الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد أدى هذا التنافس الدولي منذ اكتشاف الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية عام 1492 في سلسلة من الاضطرابات والثورات والانقلابات التي نادرًا ما خلت من الدعم الخارجي بكل أشكاله، سواء التمويل والتجسس والتسليح وصولًا إلى التدخل العسكري الأجنبي في بعض الأحيان. حتى أصبحت جمهوريات أمريكا الجنوبية هي المؤسس لمصطلح “جمهوريات الموز” على ضوء تعاقب الأنظمة الحاكمة في وقت قياسي، حيث لا تخلو ولاية لرئيس أمريكي من ثورة أو انقلاب في أمريكا الجنوبية ضد نظام غير موالٍ لواشنطن.
وقد أسفر صعود اليمين القومي في الولايات المتحدة خلال انتخابات الرئاسة والكونجرس في نوفمبر 2016 عن مد قومي يميني في أمريكا الجنوبية، وتوج ذلك بصعود اليمين القومي في البرازيل عبر انتخاب الرئيس جايير بولسونارو عام 2018 حيث أدى اليمين الرئاسي في 1 يناير 2019 معلنًا وفاة حقبة التزاوج بين اليمين المسيحي التقليدي المحافظ واليسار الاشتراكي العمالي البرازيلي.
ويطلق المراقبون على عام 2019 “ربيع أمريكا اللاتينية”، رغم أن البعض الآخر يستخدم المصطلح ذاته لتسمية الاضطرابات الجارية في الفناء الخلفي للولايات المتحدة منذ فبراير 2015 حتى اليوم، حيث جرت اضطرابات في فنزويلا وتشيلي وكولومبيا وبيرو.
كما جرت الانتخابات الرئاسية في بوليفيا، حيث سعى الرئيس إيفو موراليس الذي يحكم البلاد منذ عام 2006 إلى ولاية جديدة تنهي عام 2025، وقد شكل عصره سلسلة من الاضطرابات السياسية بين الرئيس والأقاليم البوليفية الغنية بالموارد الطبيعية على ضوء سياسات موراليس الاشتراكية وحشده للسكان الأصليين لبوليفيا حيث يعتبر هو أول مواطن ينتمي إلى القبائل الأصلية للبلاد يتم انتخابه رئيسًا.
وعقب غلق صناديق الاقتراع تحرك أنصار المرشح اليميني كارلوس ميسا، الرئيس الأسبق الذي قدم استقالته عام 2005 على ضوء ثورية شعبية، وقام أنصار ميسا بإشعال الثورة الشعبية الجديدة.
تطورت ثورة بوليفيا (21 أكتوبر 2019 – 21 نوفمبر 2019) حتى اضطر الجيش لإبلاغ الرئيس بعدم قدرتهم على التصعيد أكثر من ذلك، فقد الرئيس ونائبه ورئيس مجلس الشيوخ استقالتهم في 10 نوفمبر 2019، وسارع إيفو موراليس إلى اللجوء السياسي إلى المكسيك.
أعلنت المعارضة تنصيب المحامية والإعلامية جانين آنييز رئيسة مؤقتة للبلاد بصفتها نائب رئيس البرلمان، وبينما المعارضة التي يسيطر عليها اليمين تصدح بخطاب يدعو إلى الانفتاح الاقتصادي والتخلص من الإرث الاشتراكي واللحاق بعالم العولمة النيوليبرالي. جاءت انتخابات الرئاسة البوليفية في 18 أكتوبر 2020 لتحدث المفاجأة ويكتسح لويس آرسي حليف إيفو موراليس انتخابات الرئاسة، ليسقط مرشح الثورة كارلوس ميسا في صناديق الانتخابات.
لويس آرسي هو وزير الاقتصاد والقطاع العام المفضل لدى موراليس، هو مهندس بسط الاشتراكية على الاقتصاد البوليفي و”مايسترو التأميم” وتأسيس بنك الجنوب والنهضة الاقتصادية لبوليفيا في زمن إيفو موراليس، شغل منصبه الوزاري ما بين عامي 2006 و2017 ثم قدم استقالته لأسباب صحية حيث أصيب بسرطان حاد في الكلي وبدأ صراع طويل مع المرض في مشفاه بالبرازيل قبل أن يعود وزيرًا في يناير 2019 ويرحل مع موراليس في نوفمبر 2019.
ولكن آرسي لم يغادر بوليفيا كما فعل موراليس، حيث يتمتع بسمعة طيبة وكان يصعب على قادة المرحلة الانتقالية النيوليبراليين أن يقدموه للمحاكمة، لذا أدار آرسي حزب الحركة من أجل الاشتراكية الذي أسسه ويتزعمه موراليس، وخاض انتخابات الرئاسة 2020.
شكلت عودة الاشتراكيين في بوليفيا نكسة حقيقية للجهود الأمريكية في تنصيب أنظمة موالية لواشنطن في أمريكا الجنوبية، وقد أدى الرئيس الجديد اليمين الدستوري في 8 نوفمبر 2020 وكانت أولى قراراته تسهيل عودة الرئيس المنفي إيفو موراليس من المكسيك، حيث عاد الأخير إلى البلاد في مشاهد شعبية هادرة كأن صناديق الاقتراع الرئاسي قد انتجت عام 2020 ثورة مضادة للثورة الشعبية عام 2019.
يعد فوز “مهندس المعجزة البوليفية الاقتصادية” هزيمة فادحة لليمين البوليفي وللتيار النيوليبرالي اللاتيني في أمريكا الجنوبية، ويأتي هذا الانتصار عقب أقل من عام من احداث مماثلة في الارجنتين، حينما خسر الرئيس المنتمي لليمين ماوريسيو ماكري، الانتخابات الرئاسية أمام يسار الطريق الثالث ممثلًا في المرشح ألبرتو فرنانديز، الذي اختار الرئيسية السابقة كريستينا كيرشنر في حملته الرئاسية، ليؤدي اليمين الدستوري في ديسمبر 2019.
وبالتزامن مع صعود اليسار في الارجنتين وبوليفيا وسقوط تجربة اليمين قصيرة الأجل، فشلت مساعي أمريكا في عهد الرئيس ترامب في إقصاء النظام اليساري في فنزويلا برئاسة نيكولاس مادورو وتنصيب قائد المعارضة خوان جوايدو رئيسًا انتقاليًا، بينما نجح برلمان بيرو في اقالة الرئيس وتولى رئيس البرلمان الرئاسة مؤقتًا خلال نوفمبر 2020، لتنتظر أمريكا الجنوبية نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية من أجل مزيد من الجولات بلا نهاية في لعبة الكراسي الموسيقية بين اليمين واليسار اللاتيني.
باحث سياسي