
لماذا خسر دونالد ترامب السباق الرئاسي ؟
رغم صيحات التزوير والتلاعب التي صدرت من حملة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، الا أن أسباب خسارة الانتخابات الرئاسية الامريكية نوفمبر 2020 تعمل جذورًا أعمق من فكرة التلاعب والتزوير من عدمه.
يعود الامر إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، حينما جرت التصفيات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري، حيث كان أبرز المرشحين هم ماركو روبيو وتيد كروز، إضافة إلى جيب بوش وراند بول.
ولكن دخول دونالد ترامب المفاجئ لحلبة الصراع أربك حسابات أجنحة الحزب الجمهوري، فالرجل رغم إنه ناشط سياسي منذ سنوات، وانتمى تارة إلى الحزب الديموقراطي ثم الجمهوري أكثر من مرة إضافة إلى بعض التجارب الحزبية الصغيرة، وعمل مستقلًا لفترة طويلة، قد دخل الانتخابات الجمهورية بدعم من أصغر جناح في الحزب، ألا وهو اليمين القومي بينما الحزب يعتبر معقل اليمين المحافظ المسيحي واللوبي الصهيوني إضافة إلى كوكبة من الجنرالات المتقاعدين.
التيار الداعم لترامب تيار حديث، نشأ على ضوء رفض قيم العولمة التي – من وجهة نظر هذا التيار – قد استغلت الولايات المتحدة لصالح النظام العالمي وليس العكس، وعلى ضوء رفض سياسات العولمة في احتواء اللاجئين ودعم إرهاب الجماعات الإسلامية وتعزيز قيم الدولة اللاوطنية متعددة الولاءات القومية.
وخلف التيار القومي كان هنالك لوبي الصناعة الوطنية أو الرأسمالية الوطنية الذي رفض هيمنة الصين على الاقتصاد الأمريكي والعالمي تحت ستار وبمباركة من دوائر الرأسمالية الدولية والنيوليبرالية المحرك الرئيس لنظام العولمة العالمي.
وافد جديد للحزب الجمهوري، بينما القوى التقليدية داخل الحزب تتنافس على الفوز ببطاقة الاقتراع، حيث قدم ترامب نفسه لجمهور الحزب الجمهوري قبل الأمريكان بأنه مختلف عن باقي الجمهوريين، وإنه لا ينتمي إلى النخبة الأمريكية التقليدية ولا ينتمي إلى زعامات هيمنت على الحزب الجمهوري لعقود.
رغم فوز ترامب بأصوات الجمهور إلا أن الكثير من قيادات الحزب الجمهوري عام 2016 – وتاليًا عام 2020 – رفضت تأييده وعملت ضده علنًا وسرًا، وتوطؤا مع الحزب الديموقراطي ضده.
بدون دعم حقيقي من حزبه، بدون حملة انتخابية حقيقية، حقق ترامب فوزه عام 2016، مستغلًا تبرم الشعب الأمريكي من سياسات إدارة باراك أوباما.
إن أخطاء حملة 2020 قد بدأت فور اعلان فوز ترامب أثناء انتخابات 2016، والحاصل أن ترامب كان يجب أن يوحد الحزب الجمهوري خلفه، ولكن الرئيس الأمريكي حاول فرض زعامته بتأثير الشعبية الهائلة دون أن يفكر في أي تقارب مع أجنحة الحزب الجمهوري.
هنا أصبح ترامب لا يهدد حسابات وأجنحة الحزب سياسيًا فحسب، بل يهدد شعبية الزعامات التقليدية للحزب، ترامب خاطب الكنائس الانجيلية مباشرة دون الاستعانة باليمين المحافظ أو المحافظين الجدد في الحزب وحصل على دعهم، مما يهدد شعبية آل بوش المسيطرين على هذا التيار ويهدد رجالات إدارات آل بوش الثلاث ونفوذهم ويهدد أباطرة لوبي النفط في تكساس الذين يسيطروا على “الانجيلية المسيحية” أو “البروتستانتية المسيحية” داخل الحزب الجمهوري.
لذا ليس عجبً أن وقف آل بوش ضد انتخاب ترامب عامي 2016 و2020، ففي عام 2016 انتخب بوش الابن المرشحة الديموقراطية هيلاري كلنتون صراحة، وعملت ابنته جينا في حملة كلينتون، بينما عام 2020 شكلت عناصر من إدارة بوش الابن حملة دعم موازية لجو بايدن كان بوش الابن هو رئيسها خلف الستار.
خاطب ترامب الكنائس المورمونية مباشرة، دون الاستعانة بزعماء المورمون داخل الحزب وعلى رأسهم رجل الأعمال ميت رومني الزعيم التاريخي لـ “المورمونية السياسية” داخل الحزب الجمهوري، وحصل على دعمهم كما فعلت الكنائس الانجيلية، لذا لا عجب إن رومني الذي أيد ترامب عشية انتخابات نوفمبر 2016 قد انقلب عليه فور خسارة الجمهورية للأغلبية في مجلس النواب في انتخابات نوفمبر 2018 على أمل إقالة ترامب وأن يصبح رومني نائب الرئيس حال تصعيد مايك بينس لاستكمال ولاية ترامب ما بين عامي 2018 و2020.
أما تيار الجنرالات أو العسكريين داخل الحزب الجمهوري، فقد احتفى بهم ترامب في بادئ حكمه، وشكل مجلس وزراء نصفه من العسكريين إلى جانب عشرات العسكريين في مجلس الأمن القومي ومستشاريه، وعلى رأس هؤلاء الصقر جيمس ماتيس الذي تولي وزارة الدفاع، ولكن لاحقًا راح ترامب يقيل جنرالاته واحدًا تلو الآخر بشكل مهين لمخالفته الرأي دون حتى تكلف عناء الحفاظ على ماء وجه جنرالاته، أو ترضية جناح الجنرالات بتعيين جنرال آخر مكان كل جنرال راح يخرج من البيت الأبيض عبر تغريدة غاضبة من الرئيس.
أما من قبل أن يتعامل مع ترامب من تيار المحافظين الجدد، مثل جون بولتون، فقد لاقى نفس مصير الجنرالات، الإقالة المفاجئة وبشكل مهين، ليكسب ترامب عداء أكبر جناح حاكم داخل الحزب الجمهوري.
وذهب ترامب في علاقته مع إسرائيل دون المرور على اللوبي الصهيوني داخل الحزب الجمهوري، اذ يعتمد ترامب على علاقة الصداقة بين آل ترامب وآل نتنياهو وبين والده الراحل ووالد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويضع ترامب صهره جارد كوشنر على رأس الملف الأمريكي الإسرائيلي لينتزع صهر الرئيس تلك الزعامة من اللوبي الصهيوني الجمهوري إلى حين.
وعادة ما كان يسعى الرئيس الأمريكي المنتخب إلى ضم منافسه من داخل حزبه إلى ادارته، من أجل توحيد الصف، وهو أمر لم يفعله ترامب، رغم إن الرجل الثاني في سباق الانتخابات التمهيدية الجمهورية 2016 هو سيناتور تيد كروز دعم ترامب حتى اللحظة الأخيرة من انتخابات 2020 ومن قبلها انتخابات 2016، الا أن ترامب لم يفكر في تعيين هذا المشرع الكفء في منصب وزير العدل أو الخارجية أو حتى مستشارًا للأمن القومي رغم اتفاق أجندة ترامب وكروز القومية!
إن الحزب الجمهوري الأمريكي قد انهار في سنوات إدارة بوش الابن، وخسر كافة انتخابات نوفمبر 2008 أمام جيل باراك أوباما، ولم يقم للحزب قائمة إلا على يد تيار الجمهوريين الجدد بقيادة راند بول، وتيار حزب الشاي وذلك في انتخابات الكونجرس نوفمبر 2010، ورغم إن أغلب قادة حزب الشاي قد ايدوا ترامب الا أن الرجل لم يفكر ايضًا باختيار نجوم حزب الشاي واكتفى بنائبه مايك بينس، رغم أن سارة بالين تحتل شعبية هائلة في دوائر حزب الشاي الجمهوري ومؤيدة لأجندة ترامب 100 % بل وجرى ترشيحها لوزارة المحاربين القدماء ولكن ترامب لم يختارها في نهاية الأمر!
وداخل الحزب الجمهوري، هنالك زعامات قديمة أصبحت جناح بحد ذاتها، تمتلك جيشًا من المستشارين والاتباع والمؤيدين وأصبح مكتب تلك الشخصيات اشبه بحزب داخل حزب وتيار داخل تيار، وعلى رأس هؤلاء كان السيناتور جون ماكين الذي ناصبه ترامب عداء علني شرس وتحول العداء من سياسي وفكري إلى شخصي بحت بشكل علني وإعلامي شرس حتى بعد وفاة ماكين، ما جعل تيار جون ماكين وحتى أرملته يعلنون دعمًا صريحًا لجو بايدن في انتخابات نوفمبر 2020.
كما أن خلافات ترامب مع التيار القومي نفسه داخل الحزب الجمهوري قد افضت إلى التخلص من ستيف بانون الذي لعب دور صانع الملوك خلف ترامب في انتخابات نوفمبر 2016، هو منظر اليمين القومي الأمريكي بل والرجل الذي ينظر اليه باعتباره من مهندسي صعود التيار القومي حول العالم اجمع.
نسخة أمريكية من حكم الفرد، ورغبة في نزع عباءة الزعامة عن كل زعامات الحزب وحصدها وحصرها في شخصه فحسب، ليس رغبة في تزعم الحزب فحسب ولكن ايضًا احتقار واضح لكل النخب التي سبقته، حملة انتخابية وإدارة جمهورية بدون نجوم إلا نجم واحد وحيد هو الرئيس ترامب.
وخارج الحزب الجمهوري، كانت سياسات ترامب الخارجية تضرب ركائز أباطرة صناعات تشكل شبكات المصالح الاقتصادية التي تدور بدورها الاقتصاد الغربي، انهاء التوتر والحرب الكلامية مع كوريا الشمالية، سحب بعض الجنود الامريكان من أفغانستان والعراق وسوريا وايضًا الانسحاب من المنظمات الدولية التي كانت الولايات المتحدة تنفق عليها، ومحاولة ابرام اتفاق للسلام مع طالبان الأفغانية لإنهاء اول حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، وصولاً إلى خفض نسبة التوتر مع روسيا والتركيز على حماية الاقتصاد الأمريكي عبر حرب اقتصادية مع الصين.
كل هذا كان مضرًا لاقتصاد الحروب و”بيزنس السلاح” وحتى تجارة المخدرات التي تستغل حالة الحرب في أفغانستان، وكافة اباطرة تلك التجارات لهم “بيزنس” مشترك مع الحزبين الكبيرين في أمريكا.
وللمفارقة فإن ترامب كان يخسر دعم زعامات المحافظين الجدد والانجيليين والمورمون والبروتستانت وأباطرة النفط في تكساس واللوبي الصهيوني وحزب الشاي وباقي اجنحة داخل الحزب الجمهوري، ولوبي السلاح والحروب والمخدرات وشبكات المصالح الاقتصادية المشتركة بين الحزبين الكبيرين، ومع ذلك كان يحصد أصوات جماهير تلك التيارات، أي إنه نجح في هدفه في سحب بساط الزعامة من تحت أقدام أشخاص وعائلات تدير تلك الشبكات منذ عقود وبدأ يستولى على تلك الزعامات ومصادرتها لصالح رصيده السياسي والعائلي ما شكل أكبر تهديد على زعامات الحزب الجمهوري التقليدية في تاريخ الحزب.
وكما يلاحظ، ورغم الخطاب المروج لعنصرية ترامب، إلا إنه حصد أصوات الأمريكان من أصول لاتينية في انتخابات الرئاسة الأمريكية خاصة ولاية فلوريدا، عامي 2016 و2020، ما يعني أن ترامب زعيم اليمين القومي الأمريكي قد بدأ يحقق اختراق وشعبية ايضًا في العرقيات غير البيضاء أو من غير الأصول الأوروبية التي ينظر إليهم باعتبارهم الكتلة الديموجرافية الداعمة لترامب.
صنع ترامب تياره السياسي الخاص، حتى أصبحت الترامبية Trumpism مصطلح سياسي معتمد في قواميس العلوم السياسية، ولم يكتف الرئيس الأمريكي بهذا القدر من التهديد للزعامات التقليدية في المجتمع الأمريكي، ولكن كانت إشارات التوريث السياسي في سنواته الأربع بالبيت الأبيض تنبي بنشأة سلالة سياسية جديدة ترث العباءة الترامبية وربما كان هذا هو سبب اقصاء ترامب المتعمد لبعض رجالات ادارته البارزين.
في زمن أصبح الحزبين الكبيرين يرفض لعبة التوريث السياسي، حتى أننا نرى اليوم كونجرس أمريكي منتخب في نوفمبر 2020 دون وجود لأسر سياسية عريقة مثل آل بوش وآل روكفلر وآل كينيدي وآل روزفيلت، نجد ترامب قد عين ابنته ايفانكا مستشارة له، إلى جانب زوجها جارد كوشنر، وقد نشر ترامب أكثر من مرة تغريدة يسأل جمهوره “هل تفضلون أن تصبح ايفانكا أول رئيسة للولايات المتحدة؟” في تماهي واضح مع فكرة ترشيح ايفانكا ترامب في انتخابات الرئاسة نوفمبر 2024 حال فوزه بالولاية الثانية في نوفمبر 2020.
بل وحتى ابن ترامب الأكبر، دونالد الابن، وأخيه أريك، كلاهما عمل في حملة ترامب الانتخابية واكتسب شعبية داخل الحزب الجمهوري، وكلاهما أعلن صراحة عن خوض العمل السياسي عقب الولاية الثانية لوالدهم، ما بين الترشح لمجلس الشيوخ أو حكم ولاية نيويورك معقل استثمارات آل ترامب.
لقد تحدى ترامب نخبة واشنطن بكل أفرعها وأجنحتها، في كلا الحزبين، فكان يجب أن يتكتل الحزبين عليه كما جري، فالأمر ليس بحاجة إلى تزوير، يكفي أن ترفع دوائر الحزب يديها عن دعم ترامب في بضع ولايات جمهورية حتى يخسر الانتخابات.
لقد بعث ترامب الحياة في الحزب الجمهوري عام 2016، ولكن زعماء الحزب التقليديين رفضوا تلك الحياة بل وتعاونوا مع الحزب الجمهوري في ضرب تلك الروح القومية التي كان يمكن أن تجدد دماء الحزب الجمهوري، هي خطيئة لن يدرك الجمهوريين ثمنها الفادح إلا مستقبلًا، إذ أن مستقبل الحزب الجمهوري غامض على ضوء تلك الطعنات.
أما مستقبل الترامبية، فقد خسر ترامب ولكن الترامبية باقية، ارثًا من فكر اليمين القومي الأمريكي، يحاول البعض اقناع الرئيس المنتهية ولايته بخوض الانتخابات الرئاسية نوفمبر 2024 عبر الحزب الجمهوري رغم سنه المتقدم، رغم حقيقة ان الدوائر التي طعنت ترامب لن تسمح له بالصعود مرة أخرى، مما يجعل الواقعية السياسية تنص على حتمية أن نرى حزبًا للترامبية ولو على يد الرئيس “السابق” دونالد ترامب.
باحث سياسي