الصحافة العربية

المشهد العراقي.. تصعيد غير مسبوق يؤدي لمزيد من التعقيد

يوما بعد يوم يزداد المشهد العراقي تعقيدا، إذ استمرت المظاهرات المطالبة بالتغيير والقضاء على الفساد، وتزايد على اثرها عدد القتلى والجرحى بين صفوف المتظاهرين جراء التعامل الأمني معهم ، وهو ما أدى لتنديد مندوبي 16 دولة بينهم فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لاستخدام قوات الأمن والجماعات المسلحة القوة المفرطة منذ 24 يناير الجاري.

ويعد عدم التوافق على شخصية رئيس الوزراء الجديد سببا رئيسيا في استمرار الحراك وزيادة تعقيد الجبهة الداخلية، بالإضافة إلى أن تواصل عمليات إطلاق الصواريخ والتي كان أخرها استهداف السفارة الأمريكية، يهدد بتحول العراق إلى ساحة مواجهة أمريكية – إيرانية، وبذلك فإن الوضع العراقي اليوم هو الأصعب منذ سنوات، بعد أن أصبح المشهد السياسي هناك متأزم بشكل كبير ومتصارع فيما بينه.

المظاهرات العراقية.. تصعيد غير مسبوق

شهدت المظاهرات العراقية الأيام الماضية تطورات مهمة، فبعد انقضاء المهلة التي منحها المتظاهرون للرئيس العراقي “برهم صالح” والسلطات الأخرى لاختيار رئيس توافقي جديد للحكومة ومحاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وتلبية باقي المطالب الأخرى، اندلعت المظاهرات من جديد وقطع المتظاهرون الطرق في العاصمة العراقية بغداد، وقطعوا كذلك الطريق السريع الذي يربط الديوانية مع بقية محافظات العراق.

وفى الناصرية نصب المشاركون في المظاهرات خياما للاعتصام على الطريق السريع، وتوافد إلى ساحات التظاهر في المحافظات الجنوبية عدد كبير من المحتجين من ضمنهم طلاب الجامعات ورجال العشائر، وجددوا تهديدهم للطبقة الحاكمة بالتصعيد السلمي في حال عدم الاستجابة لمطالب الحراك.

وعقب هتافات رددها متظاهرون ضد زعيم التيار الصدري “مقتدى الصدر” واتهامه بالتقرب من إيران، أعلن “الصدر” في الجمعة الماضية، انسحابه في دعم الحراك حتى يراعوا مصير العراق وما يحيط به من مخاطر يستغلها الجميع بالداخل والخارج.

وفي صباح 25 يناير اقتحمت القوات الأمنية ساحات الاعتصام بمختلف المدن العراقية، وسيطرت قوى الأمن في بغداد على جسر محمد القاسم، ووقعت اشتباكات في محيط ساحة التحرير، وأشارت قيادة عمليات بغداد في بيان لها إلى أنه يجري العمل على تنظيف ساحة الطيران وشارع النضال وساحة قرطبة، لإعادة افتتاحها أمام حركة المرور، وفي كربلاء والناصرية والنجف اقتحمت مجموعات مجهولة ساحة الاعتصام وهاجمت المعتصمين بقنابل المولوتوف والرصاص مما ترتب عليه احراق الخيام واصابة عدة متظاهرين، وفي محافظة البصرة التي قامت قوات الأمن باقتحام ساحة الاعتصام واحراق خيام المتظاهرين ونفذت حملة اعتقالات كبيرة طالت عدد كبير من المعتصمين،

وأكد المتظاهرين لوسائل الاعلام أن قوات الأمن العراقية استغلت انسحاب أصحاب القبعات الزرقاء التابعين لـ”سرايا السلام” الجناح العسكري لـ”التيار الصدري، عقب تغريدة مقتدى الصدر اليوم السابق، وحاولت إعادة سيطرتها على عدد من ساحات الاعتصام، وأعلنت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، مقتل 12 متظاهرا وجرح 230 شخصا خلال اليومين الماضيين، وأدت أعمال العنف خلال الأسبوع الماضي إلى مقتل 21 متظاهرا وإصابة المئات بجروح.

ومن جانبها، أصدرت اللجنة التنسيقية لمظاهرات أكتوبر في العراق بياناً شديد اللهجة ضد الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، اتهمته فيه بـ”الخزي والعار” و”خيانة الثوار”، وذلك بعد فض القوات الأمنية اعتصام البصرة بمجرد انسحاب أنصار الصدر منه، وجاء في البيان الموجه من المتظاهرين للصدر: “لم نخرج بفتوى دينية ولم نخرج بتغريدة صدرية، فلا يراهن مقتدى وأنصاره على نفاذ صبرنا ونهاية ثورتنا، ركب موجتنا فركبناه وحاول استغلالنا فتجاوزناه”.

وأضاف البيان: “باقون في الساحاتِ حتى تحقيق أهداف الثورة ولن نخذُل دماء الشهداء ولن يكونوا ورقةَ على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر”، واختتم البيان بالقول “ما فعله هو خزي وخيانة للثوار وسيكون ثمنه رئاسة الحكومة القادمة كما وعدته إيران”

وكان طيف واسع من السياسيين وقادة الكتل أعلنوا تأييديهم انتفاضة بعد انسحاب أتباع التيار الصدري من المظاهرات، ومن بينهم رئيس الوزراء السابق “حيدر العبادي” ورئيس تيار الحكمة “عمار الحكيم” و”إياد علاوي” زعيم القائمة الوطنية، الذي أشاد بالحراك الاحتجاجي وأعلن رفضه أي مرشح لرئاسة الوزراء يقدم بقرار إيراني، وقال “علاوي” في تغريدة على موقع “تويتر” “إن المرشح الذي يأتي بقرار أو تأثير خارجي إيراني أو غيره وبمعزل عن إرادة الشعب المنتفض، سيرفض سياسياً وشعبياً، قبل أن يطرح، وسيتسبب بأزمة جديدة ويعقد المشهد أكثر”. وأضاف أن “الحراك الشعبي الذي يملأ أرجاء الوطن هو حراك عراقي خالص، يرفض بشكل خالص أي وصاية، أو تأثير خارجي، وهو ما نحرص عليه وندعو إليه”.

كما حدث انقسام داخل التيار الصدري، وذلك عقب إصرار الشيخ الصدري “أسعد الناصري” وهو من أبناء مدينة الناصرية على دعم المتظاهرين، وإدانة الميليشيات التي تقف وراء عمليات القتل والاغتيال، وهو ما دفع “مقتدى الصدر” إلى تجميد عمله داخل التيار، بدعوى “التجاوزات الصادرة عنه”، ووجه أوامر له بـ”نزع العمامة”، وترك التحدث عن ثوار الناصرية والتدخل في شؤونهم، ونتيجة لتمسكه بدعم المتظاهرين، استجاب الشيخ الناصري لأوامر الصدر، وقام بالتخلي عن عمامته الأحد الماضي.

وقال “مقتدى الصدر” في تصريحات نقلها عنه “صالح محمد العراقي” وهو أحد المقربين للغاية من زعيم التيار الصدري، أنه في حال عدم تراجع المتظاهرين واعادتهم الثورة إلى مسارها، فسيكون هناك موقف بمساندة القوات الأمنية التي لابد لها من بسط الأمن من أجل حماية مصالح الشعب وسلامة العراق وليس للدفاع عن الفاسدين، مؤكدًا عدم سماحه للفاسيدن بركوب الثورة، وهو ما تم تفسيره بأن “الصدر” يهدد المتظاهرين بمساندة القوات الأمنية في قمعها للمظاهرات حال استمرت الانتقادات الموجهة له.

ولاحقا طالب مقتدى الصدر في رسالة تم تمريرها عبر صالح محمد العراقي، بـ12 مطلباً في رسالة حملت عنوان “نصائح للمتظاهرين” من بينها الحفاظ على السلمية، وطرد المسيئين، وعدم قطع الطرق، مشيراً إلى أنه في عدم تنفيذ تلك المطالب فإنه سيعلن انحراف الثورة واختطافها، والعكس صحيح حال تنفيذها.

قصف السفارة الأمريكية يزيد من تعقيد الأمور

وفي مساء الأحد الماضي تعرضت السفارة الأمريكية في بغداد، للقصف بـ3 صواريخ كاتيوشا تم اطلاقها صوب المنطقة الخضراء التي يتواجد بها مقر السفارة، وأسفر الهجوم الذي يعد الخامس من نوعه منذ مقتل قائد فيلق القدس “قاسم سليماني” عن اصابة 3 أشخاص دون الكشف عن جنسيتهم، وأدان “عادل عبد المهدي” رئيس حكومة تصريف الأعمال، استهداف السفارة وأمر بملاحقة المنفذين لتقديمهم للعدالة، وحذر من أن استمرار التصرف الانفرادي اللا مسئول يحمل البلاد تبعات وتداعيات خطيرة، ويؤدي للإضرار بالمصالح العليا للبلاد، وقد يجر العراق ليكون ساحة حرب.

وفي اتصال هاتفي مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، عبر وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” عن استيائه من تكرار الجماعات المسلحة التابعة لإيران على المنشآت الأمريكية في العراق، داعيًا إلى الحفاظ على سيادة العراق في مواجهة الهجمات الإيرانية.

كما علق نائب وزير الخارجية الروسي “سيرجي ريابكوف” على استهداف السفارة الأمريكية قائلا “أمن أي هيئة دبلوماسية من دون شك يجب أن يكون مؤمنا، ولا يجب الخروج عن هذه القاعدة” وذلك في تصريحات صحفية أدلى بها.

استمرار أزمة تشكيل الحكومة الجديدة

يعيش العراق فراغاً دستورياً منذ انتهاء المهلة أمام رئيس الجمهورية بتكليف مرشح لتشكيل الحكومة المقبلة في 16 ديسمبر الماضي، جراء الخلافات العميقة بشأن المرشح القادم، بعدما أجبر الحراك الشعبي حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة وتكليفها بتسيير الأعمال حتى يتم تشكيل الحكومة الجديدة، وما يؤكد تلك الخلافات تصريح نائب رئيس الوزراء السابق “بهاء الأعرجي” بأن هناك “تحالفاً فعالاً” لم يسمه يعمل على ترشيح شخصية ضعيفة لا تتمتع بالقبول حتى لا تُمنح لحكومته الثقة في البرلمان، ويتم الابقاء على الحكومة الحالية”.

وفي حال أعلن الرئيس العراقي “برهم صالح” الشخصية التي تم اختيارها لتشكيل الحكومة بشكل منفرد، فسوف يفاقم ذلك خلافًا دستوريًا بين الرئاسة والكتلة الأكبر في البرلمان العراقي، والتي تتمسك بحقها في ترشيح الشخصيات لهذا المنصب، وقد أوضح “محمد الخالدي” رئيس كتلة “بيارق الخير” البرلمانية في تصريحات صحفية الأسبوع الماضي، أن الرئيس العراقي استقر على 3 شخصيات سيتم اختيار شخصية منهم لتشكيل الحكومة خلال شهر، وأن الاختيار سيكون بالتوافق والاتفاق مع الجهات المؤثرة التي تشمل المتظاهرين والنواب والكتل السياسية.

والجدير بالذكر أن كتلة البناء التي تضم تحالف “الفتح” بزعامة “هادي العامري”، وتحالف “دولة القانون” بزعامة “نوري المالكي” رئيس الوزراء الأسبق، وائتلافات حزبية أخرى أقل وزنًا، قد راسلت في نهاية ديسمبر 2019 الرئيس العراقي وأبلغته بأنها الأحق لتشكيل الحكومة لأنها الكتلة البرلمانية الأكبر والتي تضم 145 نائبًا، وبالفعل رشحت الكتلة “أسعد العيداني” محافظ البصرة ولكن رفضه المحتجون.

وقد لقيت تهديدات “برهم صالح” بالاستقالة حال تمرير ترشيح شخصية شديدة الولاء لإيران ويرفضها الشارع الثائر، ترحيبًا من بعض القوى السياسية العراقية، ولكن هاجمتها الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، ومارست ضغوطا شديدة على الرئيس العراقي ولكنه قاومها، واتهتمه الأحزاب الشيعية بالخيانة وبانتهاك الدستور وحنث اليمين، وذلك في الوقت الذي تزداد فيه الأزمة السياسية تعقيدًا منذرة بالمزيد من التصعيد والصدام.

ملامح المرحلة المقبلة

يبدو أن العراق سيأخذ وقتًا ليس بالقصير للخروج من وضعه الحالي، وذلك لاستمرار الخلافات بين القوى السياسية الرئيسية الموجودة من جهة، وبين المتظاهرين من جهة أخرى، وهي الأمور التي لا تنفصل عن انعكاسات التصعيد الاقليمي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وخاصة في ظل التصعيد المتبادل عقب اغتيال قائد فيلق القدس “قاسم سليماني” و “أبو مهدي المهندس” نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي وقائد حزب الله العراقي، في غارة أمريكية مطلع الشهر الجاري.

وتشير التقديرات إلى استمرار المظاهرات العراقية بنفس الزخم دون تراجع، بالرغم من التعامل الأمني القوي معها خلال الأيام الماضية، لتشكل ضغطًا على السلطات والقوى السياسية بهدف منح الأولوية لمطالب المتظاهرين وهي اختيار رئيس وزراء جديد من خارج الأحزاب السياسية، ومحاسبة المتورطين عن قتل المتظاهرين، وإقرار قانون جديد للانتخابات المبكرة التي يجب أن تديرها مفوضية جديدة وبإشراف أممي، ومن المؤكد أنه في حال عدم أخذ خطوات جادة في حسم الملفات العالقة، فسيكون العراق أمام خطوات سريعة من التصعيد الذي سيزيد من تعقيد الأزمة وتدهورها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

صلاح وهبة

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى