
خبير الشئون السياسية والاستراتيجية أحمد عز الدين : “برنيس” قوة التاريخ والجغرافيا والنيران
اعتبر المحلل السياسي أحمد عز الدين خبير الشئون السياسية والاستراتيجية أن دروس القاعدة العسكرية “برنيس”، التي افتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي الأربعاء الماضي بمنطقة البحر الأحمر ، وما تعنيه ( برنيس ) لا يقل قيمة وأهمية عن ( برنيس ) نفسها.
وقال عز الدين – في مقال له عبر موقعه الرسمي – إن “برنيس” تعني وعيا استراتيجيا يقظا ، ونابها ، وتعني إرادة وطنية حية ومصقولة ، وتعني إدراكا صحيحا للمخاطر والتحديات والتهديدات المستجدة والبازغة ، والتي تتوثب حول مصر من كل جانب.
وأضاف أن برنيس ليست فقط استثمارا عسكريا لعبقرية المكان ، وإنما تحصينا بالقوة لديمومة المكانة ، ثم إنها قبل ذلك وبعد ذلك تعني أن الجيش المصري ، كسى عظم جسده القوي بطبقات جديدة من الحديد والفولاذ ، وأن التراكم الكيفي والكمي في بنيته ، يفرض بنية تحتية أوسع وأغنى ، لاستيعاب طبقات القوة المضافة ، فضلا عن أن زلازل تغيير البيئة الاستراتيجية من حوله ، وإعادة صياغة الجغرافيا الاستراتيجية في الإقليم بالقوة المسلحة ، وظهور أنماط مستجدة من التهديدات ، تتطلب أفقا أوسع ومدى أعمق لعمل قواته الضاربة ، وهو أمر يتحتم أن يتم توقيعه على الأرض ، ودمجه في صلب عقيدته ونظرية ردعه ، تحولا من استراتيجية دفاعية إلى استراتيجية دفاعية هجومية نشطة ، إن هذا ما يعنيه بالضبط ، أن ( برنيس ) تمتلك القوة والقدرة على القيام بأعباء ومهام ( الفتح الاستراتيجي) .
وأوضح أن “برنيس” بدت بسبب عوامل كثيرة ، كأنها قطعة من الشاطئ المصري للبحر الأحمر ، صعدت على كتف البحر فجأة ، أو وقعت عليها العيون حديثا ، مع أنها ظلت ترمومترا لحركة البندول الاستراتيجي في المنطقة العربية كلها عبر التاريخ .
وقال :”عندما ينتقل البندول من البحر الأبيض إلى قناة السويس إلى البحر الأحمر ، أي من الشمال إلى الجنوب ، تزداد أهميتها ، ككل الشواطئ الجنوبية ، وعندما ينتقل البندول ذاته من الهادي ، إلى الخليج العربي إلى الأحمر إلى خليج السويس ، أي من الجنوب إلى الشمال ، تزداد أهمية الموانئ الشمالية ، بشكل عام ، ولذلك فإن أهمية ” برنيس ” متلازمة مع أهمية مضيق هرمز ، ومع أهمية الخليج العربي على خريطة الاستراتيجيات العالمية” .
غير أن هذا لا ينفي أن ” برنيس ” كانت في الماضي البعيد قبل أن تكون قناة السويس ، وقبل سفاجا وكل الموانئ المصرية الخمس على البحر الأحمر ، حيث لم يكن البترول قد ظهر في أقصى الجنوب ، وإنما كان عامل النقل المتعلق بعنف الرياح الشمالية في البحر الأحمر ، هو الذي ركز الملاحة لقرون عديدة في الموانئ الجنوبية عموما .
ويتساءل الكاتب ” أما لماذا برنيس بالذات من بينها جميعا ؟ ثم يجيب :
: لأن سلاسل جبال البحر الأحمر التي تنحدر ” بشدة وحدة ” نحو البحر ، والتي تفرش أقدامها سهلا ساحليا ضيقا ، يكاد يتحول إلى طريق قصير ترتكز عليه أقدام الجبال على امتداد الساحل ، تطل في هذه المنطقة ، على أقصى اتساع لهذا السهل ، حيث يأخذ شكل خليج هلالي سهلي .
ولذلك ظلت ” برنيسة ” كما هو اسمها القديم ، الذي أشتق من اسمها الأقدم ( بيرنيكه) نسبة إلى اسم أم مؤسسها البطلمي ” بطليموس الثاني ” ظلت قرونا عديدة ، ميناء مصر الأول على البحر الأحمر ، ومركز تجارة الهند والجزيرة العربية ، إلى أن تراجعت أهميتها ، بتراجع خطورة الرياح الشمالية بعد اكتشاف قاطرات البحر ، حيث قفز البندول الاستراتيجي مرة أخرى إلى الشمال .
وحتى طريقها البري الذي يشكل جزءا من الشبكة التاريخية للصحراء الشرقية المصرية ، طريق أسوان – برنيس ، تعرض هو الآخر لما تعرضت له ، من اندثار وتآكل ، مع أنه أكثر هذه الطرق قدما وأهمية.
وعند برنيس تتوافر أقل مساحة بحرية بين شاطئ البحر الأحمر، أي بين مصر والسعودية، وعندها أيضا يمكن أن تتوافر أقل مساحة طيران بين مصر والخليج العربي كله، ومنها أيضا تنفتح مروحة عبور استراتيجية إلى القرن الأفريقي كله، كنقطة وثوب بحرية وجوية إلى قارتين وشبة قارة وإلى ثلاث بحار استراتيجية ومحيطين كبيرين.
غير أن أهميتها الآن أصبحت متعاظمة ، بسبب عدة عوامل :
الأول : المتغيرات الهائلة التي جرت وتجري في محيط باب المندب ، سواء على الشاطئ الغربي في القرن الأفريقي وجواره الأثيوبي ، أو على الشاطئ الشرقي في اليمن خاصة في جنوبه وسواحله الغربية على وجه الخصوص ، بما تتضمنه من جراحات عسكرية لحساب قوى إقليمية وغربية ، وارتباط ذلك بقناة السويس نفسها ، والتي تمتلك المفتاح الاستراتيجية لبوابة العبور ، بين المحيطات والبحار ، في شرق الكرة الأرضية والمحيطات والبحار في غربها ، وفي ضوء محاولة غير مستبعدة لصناعة مفتاح وقفل بديلين هناك .
الثاني : ارتفاع سقف الأهمية الاستراتيجية للمحيط الهندي ، والذي يشكل حضور القوى العسكرية متعددة الجنسيات في القرن الأفريقي ، تأمينا لبقاء تأثيرها فيه ولاعتبارات أخرى ، تحتاج إلى حيز مستقل .
الثالث : الأعباء الاستراتيجية المضاعفة التي تتحملها مصر ، وليس قناة السويس وحدها ، بحكم أنها منطقة الارتكاز الرئيسية بين البحرين الأحمر والمتوسط ، وهو ما يجعل التهديدات التي تواجهها ، تطول محاورها الاستراتيجية كافة ، ولأول مرة في تاريخها .