إسرائيل

بوادر التصدع.. الذراع الإسرائيلية الطولى في ظلال “سبب المعقولية”

تشهد الأوساط الداخلية في إسرائيل بشكل عام، والأوساط العسكرية بشكل خاص، حالة من الغليان الداخلي المتصاعد منذ أوائل العام الجاري، بشكل باتت تفاعلاته وتبعاته عنصرًا رئيسًا في تشكيل المستقبل المنظور للدولة العبرية التي تعتمد بشكل رئيس في تكوينها البنيوي على المؤسسة العسكرية وحالة “العسكرة” التي تظلل الأوساط المدنية في المجتمع الإسرائيلي. حالة الغليان هذه تنبع أساسًا من التباينات المتزايدة في الأوساط السياسية الإسرائيلية بين اليمين المتطرف واليسار الديمقراطي، والتي وصلت إلى مستوى عقائدي عميق منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية التي دخلت منذ الأيام الأولى لولايتها في خضم أزمات متتالية، بداية من ملف “مسيرة الأعلام” وصولًا إلى ملف “التعديلات القضائية”.

وعلى الرغم من أنه من البديهي القول إن ملف “التعديلات الحكومية القضائية” هو المحرك الأساسي لحالة الغليان الحالية -سواء في المجتمع المدني الإسرائيلي أو الأوساط العسكرية- فإن تأثيرات هذه الحالة على “منظومة الردع” الإسرائيلية خلال الأعوام الأخيرة قد ظهرت بشكل أكثر وضوحًا خلال الأشهر الأخيرة، بشكل يمكن من خلاله القول إن نتائج هذا الوضع على تماسك وجاهزية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ستمتد لسنوات عديدة مقبلة، خاصة أن أبرز هذه النتائج كان تزايد حالة “التمرد” في صفوف الوحدات العسكرية الإسرائيلية، خاصة وحدات النخبة البرية والبحرية، وطياري النخبة في ذراع إسرائيل الطولى “سلاح الجو”.

تاريخ ذو صبغة “سياسية” للتمرد في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية

تاريخيًا، شهدت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية خلال السنوات الأولى لتكوينها وتحولها من سلسلة من الفصائل المسلح غير النظامية إلى وحدات عسكرية نظامية فترة كانت حالة “التمرد” من أبرز ملامحها، خاصة بين عامي 1946 و1948، وهي الفترة التي شهدت تأثر هذه المؤسسة بالصراع بين ديفيد بن جوريون ومناحم بيجن، حيث سعى “بن جوريون” إلى السيطرة على كافة الفصائل اليهودية المسلحة الموجودة على الأراضي الفلسطينية، عبر إعادة هيكلة وحدات “هاجاناه” وذراعها العسكرية “بالماح”، وتحويلها إلى جيش نظامي يتمتع بسلسلة قيادة مركزية على النسق البريطاني.

فشلت محاولات “بن جورين” في البداية، ما اضطره في أبريل 1948 إلى إجراء تعديلات قيادية ألغى بموجبها منصب “رئيس القيادة الوطنية”، الذي كان يتولاه “يسرائيل غاليلي”، أحد أبرز قادة حزب “مابام” اليساري الماركسي -المناوئ الرئيس لحزب “ماباي” ذي التوجهات الاشتراكية الديموقراطية- وهو المنصب الذي كان من يتولاه يعد بمثابة رئيس أركان قوات “هاجاناه”. 

هذا القرار أطلق أول موجة احتجاجية في صفوف ضباط الجيش الإسرائيلي الذين انتمى غالبيتهم في ذلك التوقيت إلى التوجهات اليسارية الماركسية، حيث هدد غالبيتهم بالاستقالة من مناصبهم احتجاجًا على هذه التعديلات، ولم تفتر هذه الأزمة إلا بعد أن قبل “بن جوريون” بإعادة النظر في هذه التعديلات.

أعاد “بن جوريون” مرة أخرى محاولة السيطرة على قوات “هاجاناه” في شهر يونيو من نفس العام، عبر دمجها في قيادة موحدة مبنية على أربع مناطق قتال. لكن أثيرت أزمة مرة أخرى بسبب تضارب الأسماء المقترحة من جانب “بن جوريون” ورئيس أركان الجيش النظامي “يجائيل يادين”، وهو ما أدى إلى تقديم عدد من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي استقالاتهم؛ بدعوى تدخل “بن جوريون” سياسيًا في مؤسسة الجيش. لكن في نهاية المطاف تمت تسوية الأزمة بعد أن تخلى “بن جوريون” عن شرط تعيين الأسماء التي اقترحها، لكن كان المقابل عزل يسرائيل جاليلي من كافة مناصبه العسكرية.

في نفس الشهر -يونيو 1948- شهدت سواحل مدينة تل أبيب عملية إغراق السفينة التجارية “ألتلينا” على يد وحدات الجيش الإسرائيلي المشكلة حديثًا، وهي حادثة كانت بمثابة المواجهة الداخلية الأبرز بين الوحدات العسكرية الإسرائيلية؛ نظرًا لأن رحاها دارت بين وحدات الجيش النظامي الموالية “لبن جوريون” والوحدات شبه العسكرية الأشهر في التاريخ اليهودي المعاصر “أرجون” التي كان يرأسها مناحيم بيجن، كانت في ذلك التوقيت في طور الاندماج في وحدات الجيش النظامي، لكن كانت تنطوي على تيارات تفضل الاحتفاظ بنوع من أنواع الاستقلالية، خاصة على مستوى التسليح، لذا اتفقت على شراء كميات من الأسلحة الفرنسية، وقامت بشحنها على متن هذه السفينة.

بعد مفاوضات مكثفة بين الجانبين، تم الاتفاق قبل وصول السفينة إلى ساحل فلسطين على إنزال الأسلحة والذخائر من على متنها، وإرسال جزء منها إلى وحدات “أرجون” الموجودة في القدس، لكن تمحور الخلاف الرئيس حول رفض وحدات “أرجون” تسليم الجزء الأكبر من شحنة السفينة إلى الجيش النظامي، فدارت مواجهة عسكرية بين عناصر الجانبين على شاطئ مستوطنة “كفر فيتكين”، انتقلت بعد ذلك إلى ساحل تل أبيب، وأسفرت عن إغراق السفينة “ألتلينا”.

لتصبح هذه الحادثة بذلك بمثابة نقطة فاصلة في التاريخ العسكري الإسرائيلي، تضمنت بين ثناياها معنيين متضادين: الأول يتعلق بمبدأ “توحيد البندقية” و”سيادة الدولة”، والآخر يرتبط بوجود دوافع عديدة متجذرة في الذهنية اليهودية تجعل من الممكن في أي توقيت أن تظهر النزعات الاحتجاجية المتمردة في صفوف الوحدات العسكرية الإسرائيلية.

تجدد حالة “التمرد” في صفوف الوحدات النظامية الإسرائيلية

أعاد الجدل حول خطة الإصلاح القضائي والتعديلات القانونية المرتبطة بها مرة اخرى إلى الواجهة حالة “التمرد” المتجذرة في الذهنية العسكرية الإسرائيلية، وهو جدل يمس في جانب كبير منه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ نظرًا لتأثرها بشكل مباشر بهذه التعديلات، وبشكل خاص التعديلات التي تمس بند “سبب المعقولية” الذي يمثل أحد الأبواب الأساسية التي تسمح للهيئات القضائية الإسرائيلية بمراجعة ورفض أي قرار صادر عن اي جهة تنفيذية أو حكومية، في حالة ما إذا ارتأت أن هذا القرار لم يتم النظر فيه بشكل صحيح، أو أنه تعسفي، أو غير منطقي. 

هذا البند تبنته المحكمة العليا الإسرائيلية وضمته ضمن الإجراءات القانونية في البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، اعتمادًا على النموذج القضائي البريطاني. وأعطى هذا البند للسلطات القضائية الإسرائيلية حق رفض القرارات الحكومية التي “لا تعطي الوزن الواجب للمصالح المختلفة التي يجب على السلطة الإدارية مراعاتها في قرارها”.

والعلاقة وثيقة بين هذا البند وعودة حالة التمرد في صفوف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ لأن التعديلات القضائية المقترحة -والتي أقرها الكنيست الإسرائيلي يوم 24 يوليو- تقلص بشكل كبير الصلاحيات الممنوحة للمحكمة الإسرائيلية العليا، ما يجعلها غير قادرة على رفض القرارات الحكومية أو إخضاعها للمساءلة، وهو ما يفتح الباب واسعًا لإمكانية تعرض الجنود والضباط في الجيش الإسرائيلي -خاصة الطيارين العاملين في سلاح الجو-  لمساءلات قضائية دولية بتهمة تتعلق بجرائم حرب، وهي الإمكانية التي حذرت منها أوساط قانونية إسرائيلية عديدة؛ بدعوى أنها ستعطي انطباعًا دوليًا أن النظام القضائي الإسرائيلي بات ضعيفًا، وأن أنظمة المساءلة والتحقيق القضائية قد تم تجريدها من أدواتها اللازمة للنظر في القضايا المتعلقة بالأنشطة الحكومية والعسكرية.

من هذه الزاوية، كان مفهومًا ومنطقيًا أن تظهر المؤشرات الأولى لعودة حالة التمرد في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بالتزامن مع تصاعد الاحتجاجات حول التعديلات القضائية في شهر فبراير الماضي. لكن تجب الإشارة هنا إلى أن شهر يناير الماضي قد شهد حدثًا لافتًا، ربما لا يرتبط بشكل مباشر بالتعديلات القضائية، لكنه كان مؤشرًا على تنامي حالة التمرد في صفوف قوات الاحتياط، فقد رفض عشرات الجنود المنضوين ضمن الكتيبة 66 التابعة للواء المظلي الخامس والخمسين، تنفيذ مناورة تدريبية تم تكليفهم بها في منطقة “غوش عتصيون”، وهو ما اضطر قيادة الكتيبة إلى تنفيذ المناورة بنصف عدد الجنود الذي كان مقررًا. اعتراض جنود هذه الكتيبة كان رفضًا منهم لتكليفهم بمهام تدريبية جديدة بعد أن أنهوا بالفعل التدريبات التي كانت مقررة لهم كجنود احتياط.

في شهري فبراير ومارس الماضيين، بدأت تظهر بشكل أوضح تأثيرات ملف التعديلات القضائية على وحدات الجيش الإسرائيلي المختلفة، حيث أعلنت تشكيلات عسكرية متعددة نيتها عدم الاستجابة لأية دعوة للتطوع في حالة ما إذا تم إقرار التعديلات القضائية، من بينهم 37 طيارًا من أصل 40 طيارًا احتياطيًا يشكلون القوام الأساسي للسرب التاسع والستين -المعروف باسم “المطارق”- وهو أحد الأسراب الهجومية الرئيسة في سلاح الجو الإسرائيلي، ويتسلح بمقاتلات “إف-15″، وسبق ونفذ مجموعة من أهم العمليات الجوية الإسرائيلية في سوريا، بما في ذلك الضربة الجوية التي تمت عام 2007، والضربات الدورية التي يتم تنفيذها على مناطق في غرب ووسط سوريا منذ عام 2016.

الطيارون العاملون في هذا السرب أوقفوا لمدة أسبوعين أنشطتهم التدريبية، كتحذير لقيادة القوات الجوية، وكان موقفهم هذا محفزًا لمجموعات عسكرية أخرى تتضمن نحو: 160 عنصرًا من عناصر سلاح الجو، و150 عنصرًا من وحدة الاستطلاع الإلكتروني “8200” التابعة للاستخبارات العسكرية، و 450 عنصرًا من جهازي الشاباك والموساد ووحدات خاصة أخرى، و200 عنصر يتبعون للوحدات الإلكترونية المتخصصة، و130 عنصرًا من وحدة “يهلوم” الهندسية الخاصة، و100 عنصر من السلاح الطبي. 

كافة هؤلاء قاموا بتوجيه عرائض لوزير الأمن ورئاسة الأركان يهددون فيها بالتوقف عن أداء مهامهم في حالة ما إذا تم إقرار التعديلات القضائية. يضاف إلى هذا إعلان أعداد غير محددة من عناصر الاحتياط العاملين في وحدات عسكرية خاصة عن إنهم سيرفضون أوامر الاستدعاء أو سوف يتوقفون عن التطوع لعمل إضافي، مثل الفرقة “13” في القوات الخاصة البحرية، ووحدة “5101” المعروفة باسم “شالداغ”، وهي إحدى الوحدات الخاصة التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي.

بدا أن وتيرة هذه الحالة قد هدأت بشكل أو بآخر في شهر أبريل الماضي بالتزامن مع انحسار الغضب في الشارع الإسرائيلي عقب تجميد الحكومة مشروع القانون الخاص بالتعديلات، على إثر تحذيرات واسعة من خطورة الاحتجاجات الشعبية، وتنامي ظاهرة عصيان الأوامر العسكرية في الجيش الإسرائيلي. لكن رغم ذلك شهد نفس الشهر إصدار 700 جندي احتياط رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء بينامين نتنياهو يحذرون فيها من انهيار تشكيلات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي إذا ما تم إقرار هذه التعديلات. 

جدير بالذكر هنا أن قسمًا كبيرًا من عناصر الكتيبة “51” في لواء “جولاني” -أحد أهم ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي- قد قاموا في نفس الشهر بإلقاء أسلحتهم في مقر اللواء؛ احتجاجًا على تعيين قائد من لواء المظليين بدلًا من قائد كتيبتهم، وهو ما يمكن اعتباره أحد تأثيرات تنامي حالة الغضب داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

في الشهر التالي -مايو- كشفت الحكومة الإسرائيلية عن خطة بمليار شيكل، استهدفت تعزيز المزايا الممنوحة للجنود الذين يخدمون في الاحتياط العسكري، في خطوة بدا منها محاولة استدراك حالة التذمر في صفوفهم. الخطة المقترحة تضمنت ضخ 200 مليون شيكل إضافية لمخصصات قوات الاحتياط البالغ تعدادها الإجمالي نحو 465 ألف جندي، يتم تجنيد نحو 173 ألف جندي منهم بشكل دوري. كذلك تضمنت هذه الخطة منح مجموعة من المزايا لقوات الاحتياط، من بينها تخفيض أكبر في ضريبة الأملاك البلدية، من 5% إلى 15%، وتخفيض فواتير الكهرباء بنسبة 10%. لكن أحداث الأشهر التالية، جعلت تأثير هذا الكشف شبه منعدم على الوحدات الاحتياطية الإسرائيلية.

فقد عادت حالة “التمرد” في صفوف منتسبي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بقوة الشهر الجاري، مع ظهور نوايا حكومة “نتنياهو” في المضي قدمًا بقانون التعديلات القضائية. وكان لافتًا أن هذه الحالة تركزت بشكل واضح في صفوف سلاح الجو الإسرائيلي، حيث أعلن أربعة من كبار ضباطه عن وقف خدمتهم، وهم: زئيف ليفي، ويارون روزين، وشيلي غوتمان، وأمنون عين دار. 

وهو موقف يعد مؤشرًا على اقتراب سلاح الجو الإسرائيلي من نقطة حرجة؛ بالنظر إلى أن هؤلاء من القيادات العملياتية الأساسية في سلاح الجو، بجانب أن تحركهم هذا قد حفز 1142 عنصرًا من عناصر سلاح الجو كي يصدروا عريضة يهددون فيها بالتوقف عن الخدمة في حالة ما إذا تم إقرار هذا القانون، من بينهم: 422 طيارًا عاملًا، و173 مشغلًا للطائرات المسيرة. تبع هؤلاء في نفس الإطار نحو 1855 عنصرًا من عناصر الاحتياط في شعبة الاستخبارات العسكرية، و106 عنصر من عناصر قيادة سلاح الجو، ونحو 100 ضابط يعملون في وحدات المنطقة الشمالية وتحديدًا الفرقة المدرعة السادسة والثلاثين والفرقة الإقليمية “91” المعروفة باسم فرقة “الجليل”. ترافق مع هذه الأعداد إعلانات متتالية من ما مجموعه عشرة آلاف عنصر احتياط من مختلف وحدات الجيش، هددوا بالتوقف عن الخدمة في حالة إقرار قانون التعديلات القضائية.

تأثيرات جدية على المستوى العملياتي والقتالي لسلاح الجو الإسرائيلي

بطبيعة الحال كان تنامي حالة التمرد في صفوف الوحدات العسكرية الإسرائيلية، مبعث قلق القيادة العسكرية العليا، خاصة أن هذه الحالة قد استشرت في السلاح الأهم في المنظومة الدفاعية للدولة العبرية وهو سلاح الجو، وهذا ربما كان الدافع الأساسي الذي أجبر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، على توجيه رسالة خاصة لكافة عناصر الجيش يحثهم فيها على عدم التجاوب مع دعوات التمرد، وهي رسالة لم يسبق أن تم توجيه رسالة مشابهة لها في المضمون منذ نهاية حرب عام 1973. 

النقطة الأساسية في هذا الإطار تتمحور حول الأضرار البالغة التي ستنتج عن تنفيذ الطيارين الاحتياطيين تهديداتهم التي أطلقوها منذ مارس الماضي بالتوقف عن تلبية طلبات الاستدعاء للتدريب؛ فسلاح الجو الإسرائيلي يعد السلاح الوحيد في المنظومة العسكرية الإسرائيلية الذي يشارك في عمليات مستمرة على مدار العام، حتى في الأوقات التي لا يوجد فيها تصعيد ضد قطاع غزة، وتتنوع هذه العمليات بين مهام المراقبة والاستطلاع الجوي والبحري، وعمليات التدريب المتقدم، والدوريات الجوية، بجانب العمليات الهجومية الخارجية، خاصة في سوريا. 

تتم هذه العمليات من قبل قوة من الطيارين المقاتلين ومشغلي الطائرات من دون طيار، يتألف نصفها من الطيارين الاحتياطيين، في حين يتألف نصفها الآخر من طيارين عاملين، بما في ذلك الطيارين الذين يعملون أساسًا في مهام قيادية وإدارية في قيادة سلاح الجو.

من هذا يمكن أن نفهم حقيقة اعتماد سلاح الجو على عناصر الاحتياط، وبالتالي سيؤثر عدم امتثال الطيارين ومساعديهم لطلبات التدريب والاستدعاء على الجاهزية العملياتية العامة لسلاح الجو خلال المدى المنظور، سواء فيما يتعلق بالقدرات الفنية للطيارين التي ستتأثر بشكل كبير نتيجة لعدم حضورهم الدورات التدريبية والمناورات الدورية، أو ما يرتبط بالتماسك الداخلي لطياري وملاحي سلاح الجو، والتناغم الإداري واللوجستي والقيادي داخل السلاح.

حالة التذمر في سلاح الجو -والتي شملت حتى قادة سابقين للسلاح مثل إليعزر شكيدي الذي يخدم في الأساس كطيار احتياط- تصاعدت أكثر بعد ما بدا أنه سخرية من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من هذه الحالة خلال إحدى تصريحاته، وبعد أن تم تعميم تسجيل دعائي مصور، اعتبرته بعض الأوساط الإسرائيلية يحمل مضمونًا مشوهًا للطيارين الذين أعلنوا عن امتناعهم عن الخدمة في حالة إقرار قانون التعديلات القضائية، ويستهدف إحداث انقسام بينهم بين الطواقم الأرضية العاملة في سلاح الجو. وهي الحالة التي بدأت القيادة العسكرية الإسرائيلية في تلمسها، حيث يتصاعد التوتر بشكل بطيء داخل القواعد الجوية بين المؤيدين للتعديلات القضائية ومعارضيها، وهو ما يعد ضررًا إضافيًا للحالة العامة لسلاح الجو.

تبدو الخيارات المتاحة أمام قيادة سلاح الجو الإسرائيلي للتعامل مع هذا الوضع محدودة؛ فقائد السلاح، تومر بار، حاول في مارس الماضي محاصرة حالة التمرد وسط طياريه، فالتقى نحو 50 طيار احتياط لإقناعهم بعدم التجاوب مع دعوات العصيان، لكن لم ينجح هذا الاجتماع في الوصول إلى نتائج إيجابية، فأوعز “بار” إلى قادة الأسراب الرئيسة في سلاح الجو كي يجروا نقاشات مع الضباط الأصغر رتبة والجنود داخل القواعد الجوية، لتوعيتهم ضد هذه الظاهرة. وفي نفس الوقت أعلن “بار” في شهر أبريل أن سلاح الجو سيقوم بإجراءات عقابية ضد أي طيار احتياط أو عامل يتجاوب مع دعوات التمرد، من بينها الطرد من الخدمة، أو الاستبعاد من المهام القتالية. 

إذًا، مما سبق يمكن القول إن الجاهزية القتالية للجيش الإسرائيلي بشكل عام -وسلاح الجو بشكل خاص- سوف تتأثر بدرجات متفاوتة من حالة التمرد الحالية، خاصة ما إذا تم تفعيل هذه الحالة بشكل عملي، وهو ما لم يحدث بشكل واسع النطاق حتى الآن، بعد يومين من إقرار قانون التعديلات القضائية، واقتصرت عمليات التوقف الفعلية عن الامتثال لخدمة الاحتياط على بعض الجنود العاملين في وحدات عسكرية خاصة، من بينها وحدة “شايطيت 13″، وهي إحدى وحدات القوات الخاصة في البحرية الإسرائيلية. 

لكن تأثيرات هذه الحالة ربما تتعدى انعكاسها على جاهزية الجيش الإسرائيلي، لترتبط بشكل وثيق بتراجع ملحوظ في حالة “الردع العسكرية” للجيش الإسرائيلي خلال الفترات الأخيرة. ملامح هذا التراجع يمكن قراءتها في سلسلة من الأحداث التي شهدتها فلسطين المحتلة والنطاق الحدودي مع لبنان، مثل العملية العسكرية الأخيرة في مخيم جنين -والتي لم تسفر عن أية نتائج واضحة على الأرض -، والصعوبات المتزايدة في التعامل مع مخاطر العبوات الناسفة في مناطق الضفة، وهي جزء من الحالة المتصاعدة للعمليات المضادة للوجود الإسرائيلي في هذا النطاق. 

يضاف إلى ذلك نشوء وجود مسلح مهم للفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية، وصولًا إلى التوترات المستمرة على الحدود الفلسطينية-اللبنانية، والتي كان آخر إرهاصاتها، الجولة التي قام بها مقاتلون تابعون لحزب الله اللبناني على الحدود قبالة مستوطنة “دوفيف”، ومن قبلها التسجيل المصور الذي نشره حزب الله ووثق فيه زيارة رئيس الأركان “هرتسي هليفي”، وقائد المنطقة الشمالية، اللواء “أمير غوردين”، وقائد فرقة الجليل، العميد “شاي كلفر”، لمنطقة الحدود مع لبنان.

هذه الحالة أثارت قلق مجموعة من أبرز القادة السياسيين والعسكريين في إسرائيل الذين رأوا أن المخاطر الناجمة عن تضاؤل جاهزية الجيش، وظهور تيارات متعارضة داخله، وتأثر قوة الردع الخاصة به على المستوى المعنوي والمادي، وكذلك تزايد حجم ومستوى الصدع والانقسام في المجتمع السياسي الإسرائيلي، تشابه إلى حد بعيد المشهد في إسرائيل عشية بدء العمليات العسكرية المصرية والسورية عام 1973. 

وهي مقارنة جاءت في عدد كبير من العرائض التي قدمتها الوحدات العسكرية المختلفة، وهددت فيها بالتوقف عن الخدمة. من بين هذه الأصوات، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، عضو الكنيست غادي آيزنكوت، الذي رأى الوضع في إسرائيل حاليًا هو “أقسى وضع أمني منذ التاسع من أكتوبر 1973، عندما فشل الهجوم المضاد للجيش الإسرائيلي في الجبهة المصرية أثناء الحرب”.

خلاصة القول، إن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قد باتت أمام مفترق طرق مفصلي، يشابه ما واجهته عام 1948، حين تواجه جنودها وضباطها وجهًا لوجه على ساحل تل أبيب. مواجهة مشابهة تدور حاليًا لكن بشكل آخر داخل الوحدات العسكرية والقواعد الجوية الإسرائيلية، بين مؤيد ومعارض للتعديلات القضائية، وهي حالة انتقلت من الانقسام الحاصل منذ أشهر في الشارع السياسي الإسرائيلي. 

الحكم على تأثيرات هذه الحالة على المؤسسة العسكرية سيكون رهنًا بمدى تنفيذ الوحدات العسكرية والعناصر التي سبق وأعربت عن معارضتها للتعديلات القضائية تهديداتها بالتوقف عن الخدمة، وهو ما إن حدث سيكون له تأثيرات كبيرة على جاهزية الذراع الإسرائيلية الأقوى (سلاح الجو)، وعلى قدرات وإمكانيات الوحدات العسكرية الخاصة، التي تبدو أهميتها في التوقيت الحالي مضاعفة بالنسبة لإسرائيل.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى