أوروبا

بين الاستمرارية والكفاءة: ماكرون يجري تعديلًا وزاريًا عقب الأزمات الأخيرة

بعد أشهر من الاضطرابات في فرنسا، يسعى الرئيس “إيمانويل ماكرون” إلى طيّ صفحة الغضب والمضي قدمًا تمامًا كما فعل بتمرير قانون التقاعد دون تصويت، فأجرى تعديلًا وزاريًا طفيفًا يمنح ولايته الثانية زخمًا جديدًا، ويمكّنه من تنفيذ خطته الإصلاحية التي تعطلت كثيرًا بفعل الاحتجاجات، واعدًا بالاستمرارية والكفاءة، وإيجاد إجابات واضحة حول الأسباب التي أدت إلى أعمال الشغب التي هزت البلاد.

تعديلات تقتضي الاستفادة من دروس الاحتجاجات

مع انتهاء مهلة “100 يوم” للعمل التي وعد بها ماكرون في محاولة لتهدئة البلاد، وفي يوم 20 يوليو 2023، أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيسة حكومته “إليزابيث بورن” عن أسماء الوزراء الجدد بعد أسابيع من التكهنات بشأن إعادة ضبط محتملة عقب الأزمات المتتالية التي وضعته وحكومته في مواقف صعبة. وطالب ماكرون حكومته الجديدة باستخلاص الدروس من أعمال الشغب الأخيرة التي أشعلت فرنسا، وزادتها الشرطة سوءًا بإطلاق النار على مراهق، ما أدى إلى ظهور انقسامات عميقة بداخل المجتمع الفرنسي. وعليه، فإن الحكومة ينبغي عليها- بعد دراسة وتعمق- “تقديم إجابات” واضحة حول ما سبق من أحداث، حتى لا تظل فرنسا واقعة في دوامة الاحتجاجات والغضب. وبالنظر إلى التعديلات الوزارية نفسها فقد شهدت:

● إقالة وزير التعليم ” باب ندياي”، وهو أستاذ جامعي متخصص في التاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة والأقليات، وهو الوزير غير المفضل لليمين واليمين المتشدد في فرنسا، والمتعرض لهجمات متلاحقة من قبل المحافظين. على أن يخلفه الاشتراكي ” جابريال أتال” وزير الموازنة البالغ من العمر 34 عامًا، ومن قبلها ناطقًا باسم الحكومة، ويحل محله كوزير للموازنة “توماس كازناف”.

● إقالة “فرنسوا براون” وزير الصحة؛ بسبب كونه غير سياسي بشكل كافٍ، لتحل مكانه “أوريليان روسو” المديرة السابقة لمكتب رئيسة الحكومة “إليزابيث بورن”، والتي لاقت ثناءً كبيرًا حول إدارتها سلطة الصحة العامة خلال جائحة كوفيد-19، ليحل محلها في منصب مدير مكتب “بورن” “جان دينيس كومبريكسيل” المتخصص في قانون العمل.

● الاستغناء عن خدمات وزيرة الدولة المكلفة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني “مارلين شيابا”، التي واجهت انتقادات بسبب قضية إدارة صندوق “ماريان”، وظهورها المثير للجدل على غلاف إحدى المجلات.

● انضمام شخصيات حزبية أخرى إلى الرتب الحكومية، بما في ذلك “أورور بيرجي”، زعيمة مجموعة النهضة التي يرأسها ماكرون في الجمعية الوطنية، والتي تولت منصب وزيرة التضامن الجديدة بدلًا من “جون كريستوف كوب”، وعمدة دونكيرك “باتريس فيرجريت” لإدارة وزارة الإسكان.

● إعادة إحياء وزارة الشؤون الحضرية، وتعيين “سابرينا أغريستي”-وهي سياسية من أصول جزائرية- في هذا المنصب، والمعروفة بمسارها المهني في عالم الإنتاج السمعي البصري بمدينة مرسيليا، وموقفها المتشدد من المهاجرين غير النظاميين.

● تعين النائبة السابقة” فضيلة الخطابي” جزائرية الأصل، كوزيرة للأشخاص ذوي الإعاقة، والتي كانت ضمن الوفد الذي رافق إيمانويل ماكرون في زيارته الأخيرة إلى الجزائر، هذا بجانب كونها رئيسة للجنة الشؤون الاجتماعية في الجمعية الوطنية، ولعبت دورًا رئيسًا في صياغة مشروع قانون إصلاح نظام المعاشات التقاعدية، الذي أشعل فتيل الاحتجاجات هذا العام.

● اختيار “سارة الحيري” ذات الأصول المغربية والتوجهات العلمانية لوزارة الدولة الجديدة للتنوع البيولوجي، وقد شغلت من قبل منصب وزيرة الدولة المسؤولة عن الشباب والخدمة الوطنية الشاملة في حكومة إليزابيث بورن.

● بقاء “إليزابيث” بورن” في منصبها رئيسة للوزراء. وبقيت كذلك شخصيات ذات ثقل مثل وزير الاقتصاد والمالية “برونو لو مير”، ووزير الداخلية “جيرالد دارمانين” في وظائفهم، وكذلك وزير الشؤون الخارجية والأوروبية “كاثرين كولونا” ووزير الدولة لأوروبا “لورانس بون”.

وفي النهاية، وبعد مفاوضات مكثفة بين رئيسة الحكومة الحريصة على التغيير، والرئيس الأكثر ميلًا إلى الاستقرار، تم تشكيل فريق يراه الخبراء أكثر تمرسًا، بينما انخفض عدد الوزراء أو وزراء الدولة غير المنتخبين من 13 إلى 9 وزراء، وهي أقل نسبة خلال ولاية “ماكرون”.

قراءة في التعديل الوزاري الأخير

في البداية، يجب التذكير بأن تشكيل الحكومات في فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة يتم عادة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، فالأول يقترح والثاني إما يوافق أو يرفض. ولكن في النهاية، من المؤكد أن العملية بأكملها تدار من قصر الإليزيه، وتعد علامة على اتجاه سياسي جديد. وبالنظر إلى التعديل الأخير نجد ما يلي:

● التغيير طال 11 حقيبة من أصل 41، واحتفظت الحكومة بتركيبتها العامة؛ فلم يتناول التعديل الوزاري الحقائب السيادية أو الاقتصادية الرئيسة. ومن الواضح أنه لن يتغير شيء في سياسة الحكومة التي بقيت إليزابيث بورن على رأسها، والتي تركز بالأساس على قضايا: العمل، والنظام العام، وتغير المناخ، والصحة، والتعليم.

● فسر ماكرون تجديد الحكومة بين تعديل وزاري وتغيير حكومي على أنه إشارة للمضي قدمًا في سلسلة من الأزمات منذ إعادة انتخابه العام الماضي، والتي تضمنت أيضًا احتجاجات واسعة النطاق بشأن رفع سن التقاعد في فرنسا. وأكد الرئيس الفرنسي أن البلاد بحاجة إلى إعادة ماليتها إلى قاعدة صلبة بعد الإنفاق المكثف لدعم الاقتصاد خلال جائحة COVID-19 الذي أدى بالتبعية إلى ارتفاع حاد في العجز والديون، ما يعني بدء تهيئة فرنسا لاتخاذ وضع سداد الديون، وبالتالي خفض الضرائب وإدارة العجز. 

● من أبرز الأشخاص الذين تمت التضحية بهم هو وزير التعليم ” باب نديا”، وهو الوزير الوحيد  ذو البشرة السوداء في الحكومة الثانية التي شكتها “بورن” في مايو 2022، وهو من أب سنغالي وأم فرنسية، وكان تعيينه حينها بمثابة رسالة “انفتاح” من “ماكرون” مفادها أن أعلى الوظائف في فرنسا متاحة للجميع، بجانب أنها رسالة قوية تؤكد على عدم اعتراف فرنسا بوجود أقليات، وأن الكفاءة هي المعيار الأساسي لولوج الوزارة.

وقد قوبل تعيينه بارتياح كبير من قبل التيار اليساري بشكل عام، ولكنه تعرض ولمدة أكثر من عام لهجمات من قبل الأحزاب اليمينية دون أن يدافع عنه زملاؤه الوزراء. ويبدو أن ماكرون قرر أن يبتعد عن هذا “الصداع السياسي” ويقوم بتغييره، خاصة وأن “ماكرون” بالأساس لم يدعمه في أجندته، وبقي الوزير طوال مدته يصارع قصر الإليزيه الذي لم يمنحه السلطة التي تمكنه من التعامل مع الملفات الشائكة.

● يتضمن التعديل الوزاري الجديد رحيل العديد من الشخصيات من المجتمع المدني، وهي إحدى السمات المميزة لوعد ماكرون بتجديد السياسة الفرنسية في عام 2017، إذ تم استبدال آخرين يمتلكون بالفعل خبرة سياسية إما في البرلمان أو كرؤساء بلديات بهم.

● لم يُدخل الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحكومة الجديدة عناصر جديدة من حزب «الجمهوريين» اليميني الذي يحتاجه بشدة للانضمام إلى ائتلافه ذي الأقلية في البرلمان -بعد أن فقد الأغلبية في انتخابات العام الماضي- ما يعني خسارة أكثرية مضمونة، واستمرار “المساومات” عند تقديم كل مشروع قانون جديد.

● جدد “ماكرون” ثقته في رئيسة الحكومة “إليزابيث بورن”. وبقاؤها على رأس الحكومة يعكس رؤية “ماكرون” في أدائها الفترة الماضية “كفاءة”، وذلك على الرغم من أن ولايتها شهدت أكثر الأحداث اضطرابًا منذ فوز “ماكرون” بولايته الثانية والكثير من المطالبات بإقالتها، وبالرغم كذلك من التكهنات التي كانت تدور حول استبدال وزير الداخلية الحالي “جيرالد دارمانين” بها؛ بسبب مجهوداته في نشر الآلاف من رجال الشرطة لتخفيف حدة أعمال الشغب الأخيرة.

● غادرت شخصيات أخرى تسببت في إحراج للحكومة في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك وزيرة الدولة المكلفة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني “مارلين شيابا”، والتي ظهرت على غلاف مجلة “بلاي بوي” أثناء أزمة إصلاح نظام التقاعد، ما يعكس رغبة “ماكرون” في احتواء الغضب الفرنسي وعدم المسامحة في أي أخطاء يراها البعض “شخصية”.

● ركز “ماكرون” من خلال تشكيل الحكومة الجديدة على تعزيز التخطيط البيئي؛ فاختار وزيرة للتنوع البيولوجي تقوم بمساعدة وزير التحول البيئي “كريستوف بيتشو” على المضي قدمًا في أجندة الإصلاح البيئي، خاصة وأن فرنسا من البلدان التي تعاني من آثار تغير المناخ.

● لتعزيز الاستفادة من أخطاء الاحتجاجات والأسباب التي أدت إليها، نجد أن “ماكرون” قد عيّن وزيرتين من أصول جزائرية ومغربية. وربما تكون هذه خطوة لاستمالة سكان الضواحي الذين اندلعت من عندهم شرارة الاحتجاجات الأخيرة بمقتل الفرنسي “نائل” ذي الأصول الجزائرية، خاصة وأنهم غير راضين منذ زمن عن السياسات الرسمية للحكومات المتعاقبة التي تزيد من الفوارق الاجتماعية وتزيد من “التهميش والتمييز”، وهو الأمر الذي يريد ماكرون احتواءه بسرعة لأنه كما رأى بعينه كيف هدد الاستقرار لأيام متواصلة.

● وربما أراد ماكرون بتقديمه هذه النخبة الجديدة في الحكومة، وبإظهاره الاهتمام بأزمة الضواحي أن يضرب الأحزاب اليمينية التي حاولت توظيف الأحداث الأخيرة لتصفية حساباتها مع المهاجرين الذين ترفضهم أيديولوجيتهم بشدة.

● وقد يشير تعيين المتخصص في قانون العمل ” جان دينيس كومبريكسيل” مديرًا لمكتب إليزابيث بورن إلى أن “بورن” تريد أن تستأنف الحوار مع النقابات بعد مواجهة استمرت لأشهر بشأن زيادة سن التقاعد التي مرت بها في البرلمان دون تصويت.

وعلى كلٍ، تواجه الحكومة المعدلة تحديًا كبيرًا يتمثل في “إعادة جدولة” الأعمال السياسية بعد أشهر من الأزمات المتتالية عطلت المضي قدمًا في أجندة ماكرون الإصلاحية، وعليها كذلك دراسة المواقف السابقة بعمق من أجل إعطاء إجابات واضحة وعميقة حول أعمال الشغب الأخيرة التي وقعت على خلفية إصلاح نظام التقاعد ومقتل “نائل”. ولكن في ظل إخفاق “ماكرون” في إقناع حزب الجمهوريين المحافظ بالانضمام إلى ائتلافه لتشكيل ائتلاف حكومي، وعدم محاولته استمالتهم من خلال تعيين أي وزير منهم داخل الحكومة الجديدة؛ يبدو أن الحكومة على وشك مواجهة المزيد من العقبات السياسية الفترة القادمة حتى تثبت كفاءتها، ولعل ما سيأتي هو الاختبار القادم بتقديم الموازنة المالية لعام 2024 في الخريف القادم، والتي يُحتمل أن يعارض البرلمان تمريرها ويواجهها باقتراع لحجب الثقة من الحكومة.

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى