
التصعيد لخفض التصعيد.. لماذا تسعى الولايات المتحدة لإطالة أمد الصراع في أوكرانيا؟
مع قرب دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، تعمل إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على تكثيف الدعم لأوكرانيا على أمل التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة، فيما يُعرف باستراتيجية “التصعيد لخفض التصعيد”. وعلى الجانب الأخر، يرى العديد من الخبراء الروس أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد انتهاء الأزمة في أوكرانيا أو توصل أطرافها لتسوية سياسية، وتجنب العالم التداعيات الكارثية للحرب.
عدم اليقين
بعد مرور ما يقرب من عام على الحرب الروسية الأوكرانية، أصبح عدم اليقين بشأن مسارها أكبر من أي وقت مضى، فخلال الأشهر الستة الأولى كان لدى روسيا المبادرة، وكانت الأسئلة الرئيسة تدور حول متى وأين وما هو النجاح الذي ستحققه؟ وعلى مدى الأشهر الخمسة التالية، حصلت أوكرانيا على المبادرة وحاول المحللون تحديد موقع وآفاق هجماتها المضادة. وبات من الصعب معرفة ما سيأتي بعد ذلك ومن يمتلك الأفضلية، فقد يكون كلا الجانبين يستعد لهجمات جديدة، ويتعامل مع مزيج من الخسائر في ساحة المعركة والقدرات الجديدة التي تجعل من الصعب تميز نقاط قوتهما النسبية.
المساعدات الأمريكية لكييف
منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أواخر فبراير من العام الماضي، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من (27.2) مليار دولار من المساعدات الأمنية إلى كييف. والآن تستعد واشنطن للإعلان عن حزمة مساعدات عسكرية بقيمة (2.2) مليار دولار لأوكرانيا، من المتوقع أن تشمل صواريخ بعيدة المدى –لأول مرة-وذخائر وأسلحة أخرى، ومن المتوقع أن تشمل أيضًا معدات لأنظمة الدفاع الجوي “باتريوت”، وذخائر دقيقة التوجيه، وأسلحة “جافلين” المضادة للدبابات.
ووفقًا لمسؤولين أمريكيين، فإن جزءًا من حزمة المساعدات المتوقع أن يكون (1.725) مليار دولار، سيأتي من صندوق يعرف باسم “مبادرة المساعدة الأمنية الأوكرانية” (USAI)، والتي تسمح لإدارة الرئيس “جو بايدن” بالحصول على أسلحة من الشركات بدلًا من مخزونات الأسلحة الأمريكية.
في السياق ذاته، وافق البيت الأبيض على إرسال 31 دبابة من طراز “إبرامز” أمريكية الصنع إلى أوكرانيا، في خطوة وصفها الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، بأنها ستعزز قدرة أوكرانيا على الدفاع عن أراضيها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
لكن وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الكبير لكييف، إلا أن الولايات المتحدة لا تريد أن تستمر الحرب إلى الأبد، ذلك أن الحرب من شأنها تحويل الكثير من أوكرانيا إلى أرض قاحلة، بينما ستؤثر سلبًا على سندات الخزانة الغربية والترسانات الحربية لهم؛ لذلك يهدف “بايدن” من مساعدة أوكرانيا إلى زيادة الضغط على القوات الروسية وربما تحويل الخطوط أكثر لصالحها، كطريق للمفاوضات بعد انتهاء المرحلة التالية من القتال، خاصة وأن إطالة أمد الحرب أضر بكثير من الدول الأوروبية، والتأثير على مستويات الاستقرار والرفاهية التي كانت تنعم بها لعقود.
إطالة أمد الحرب
وفقًا لوجهة نظر عدد من الخبراء الروس، فإن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا تتماشى تمامًا مع المصالح العسكرية والسياسية الأمريكية، وأن الروايات التي تقوم بترويجها وسائل الإعلام الغربية من أن روسيا على وشك الهزيمة في المعركة؛ بعيدة عن الواقع، ولكنها في الوقت ذاته تشكل الانطباع الذي يحتاجه الغرب، الأمر الذي أجبر العديد من البلدان –حتى تلك المحايدة تجاه روسيا- على اتخاذ موقف الانتظار والترقب.
هذا وعلى الرغم من تزايد أعداد الضحايا وتدمير الهيكل العسكري لأوكرانيا، تستمر الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو في تقديم المزيد من الدعم العسكري والاقتصادي لكييف حتى تستمر في الحرب، وتظل الولايات المتحدة اللاعب الرئيس في التحالف الكبير من المؤيدين لاستمرار لأعمال القتال في أوكرانيا، وتقوم بتقديم الدعم السخي لكييف منذ بداية الأزمة في 24 فبراير من العام الماضي.
هذا وتظل الولايات المتحدة لاعب رئيس في توجيه وتنسيق ووضع الاستراتيجيات للمجتمع الغربي لدعم كييف، وكذلك تعمل واشنطن على استغلال اللحظة المناسبة لبدء المفاوضات، كما صرح بذلك رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية “مارك ميلي” (Mark Milley)، وتعتقد الولايات المتحدة أن تصعيد الصراع سيفضي لمزيد من التهدئة. ولهذا فإن تقديم دعم عسكري واقتصادي غربي وأمريكي لكييف سيجعل موقفها التفاوضي أمام روسي أفضل.
استمرارية الحرب.. مصلحة لواشنطن
إن إطالة أمد الحرب بلا شك من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا السياق وضع المحللون والخبراء الروس عددًا من الاعتبارات التي تُفسر الإجابة على السؤال الذي يدور حول، لماذا تسعى الولايات المتحدة لإطالة أمد الصراع في أوكرانيا؟ وهي كتالي:
- أولًا، الضعف النسبي لروسيا: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإضعاف روسيا، فنتيجة تقديم دعم متزايد لكييف، ستضطر روسيا لتخصيص موارد كبيرة لمواجهة التهديدات العسكرية القادمة من أوكرانيا، الأمر الذي سيؤدي لاستنزافها اقتصاديًا وعسكريًا، وسيقلل من مكانتها كقوة عسكرية على قدم المساواة في هيكل الأمن الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب. بالإضافة إلى أن الترويج لروايات أمريكية وغربية بمساعدة وسائل الإعلام الغربية بأن روسيا على وشك الهزيمة – وإن كان ذلك بعيدًا عن الواقع- إلا إنه يشكل الانطباع الذي يحتاجه الغرب، بأن غياب أي نصر عسكري واضح لروسيا يُكَون رأي مفاده أن أوكرانيا هي المنتصرة في الحرب.
- ثانيًا، تفكيك التعاون الروسي الأوروبي في مجال الطاقة: تهتم الولايات المتحدة بتفكيك التعاون الروسي الأوروبي في مجال الطاقة، إذ تطور هذا التعاون وتشكل على مدى عقود طويلة منذ حقبة الحرب الباردة. ومثال على ذلك تخريب خط الغاز “نورد ستريم” الذي يرى الروس أن الولايات المتحدة وبمساعدة إحدى دول الناتو عملت على تخريبه؛ كاستراتيجية أمريكية لتفكيك العلاقة الكبيرة بين روسيا والاقتصادات الرئيسة في أوروبا. ويكمن الهدف الأمريكي من وراء ذلك في أخذ دور روسيا كمورد للطاقة للدول الأوروبية، بما يعزز الإنتاج الأمريكي للطاقة وبالتالي التحكم في أسعارها.
- ثالثًا، القضاء على الاستقلال الاستراتيجي للدول الأوروبية: تسعى الولايات المتحدة إلى القضاء على أي دوافع للاستقلال الاستراتيجي لدول الاتحاد الأوروبي. حيث قدمت الأزمة الأوكرانية فرصة ذهبية لذلك. وفي هذا السياق، فإن الكثير من القرارات الاستراتيجية خاصة تلك المتعلقة بتوريد السلاح تُتخذ تحت ضغط هائل من وسائل الإعلام والجمهور الأوروبي. بينما يعجز القادة والنخب الأوروبيين على التفكير بشكل منفصل ورصين، فيما قد تؤول إليه العلاقات الروسية الأوروبية نتيجة تلك القرارات.
- رابعًا، رفض الولايات المتحدة التسليم بهزيمة كييف: لا تريد الولايات المتحدة السماح بهزيمة رمزية لأوكرانيا، حيث تم استثمار الكثير من الأموال وتقديم المزيد من الدعم الأمريكي والغربي بكافة أشكاله لأوكرانيا خلال العام الماضي. وبالتالي فإن التسليم الأمريكي بهزيمة أوكرانيا تعني هزيمة الغرب وستترك “جرحًا لا يندمل” في أذهان العديد من المثقفين الذين يدافعون عن الحضارة الغربية وعظمتها في مواجهة حضارة الشرق البربرية وفقًا لتعبيرهم.
- خامسًا، الدفاع عن القيم الغربية: تُنصب الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مدافعًا عن الأيديولوجية والقيم الغربية، فهي ترى في نضال أوكرانيا ضد روسيا نضال “الحرية ضد اللا حرية”، وهو ما تعمل حكومة الرئيس الأوكرانية “فولوديمير زيلينسكي” على ترويجه في أعين الغرب، فهي ترى الحرب كحرب “العالم الحر ضد العالم غير الحر”.
- سادسًا، تشجيع أوروبا على تنشيط صناعتها العسكرية: تهدف واشنطن على تشجيع أوروبا على تنشيط صناعتها العسكرية وإعادة تسليحها. حيث تدرك الولايات المتحدة أن التنافس العسكري الطويل أمر مستحيل ولن تستطيع القوات الأمريكية وحدها السير في هذا الاتجاه. علاوة على ذلك، تتفهم الولايات المتحدة التهديد المتزايد من الصين، وأنه سيتم في المستقبل القريب تحويل الموارد الأمريكية إلى المواجهة في المحيط الهادئ. لذلك، تبحث واشنطن عن طرق لتفعيل المجمع الصناعي العسكري للاتحاد الأوروبي، بحيث تصل ميزانيات الدفاع للدول إلى 2٪ على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي.
- سابعًا، توحيد الحلفاء: تسعى الولايات المتحدة جاهدة من أجل توحيد الحلفاء الأوروبيين بشكل عام على أساس توحيد الخصوم، بجعل روسيا والصين وإيران، الخصوم الرئيسيين للولايات المتحدة والغرب.
- ثامنًا، توسيع قاعدة التصنيع الأمريكية: تهدف الولايات المتحدة من خلال مساندتها لأوكرانيا إلى توسيع قاعدة التصنيع الأمريكية، وهو هدف ذو أهمية كبيرة للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي. فعقب انتهاء الحرب الباردة تحولت القاعدة الصناعية العسكرية الأمريكية لإنتاج عدد محدود من المنتجات عالية التقنية، بينما تتطلب الحرب التقليدية الحديثة إنتاجًا واسع النطاق للمدفعية والدبابات وأنظمة الطائرات، ورغم رخص أسعار هذا المعدات مقارنة بالأخرى عالية التقنية، إلا أن الولايات المتحدة تستهدف إنتاج كميات ضخمة من هذه المعدات الثقيلة.
وفي الأخير، إن كل هذه الأسباب تجعل الولايات المتحدة غير مهتمة بالمرة بالجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع. حيث تعتقد الولايات المتحدة أن الوقت في صالحها. وبشكل عام، لا تهتم واشنطن كثيرًا بنهاية الأزمة الأوكرانية؛ سواء بقيت أوكرانيا داخل حدودها الحالية، أو فقدت بعض أراضيها، أو اختفت تمامًا. بل تسعى واشنطن لتحقيق هذه الأهداف الثمانية بغض النظر عما يحدث لكييف، مما يجعل استراتيجية الولايات المتحدة مرنة تهدف لاحتواء روسيا كأولوية بعيدًا عن مستقبل أمن ورفاهية أوكرانيا.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية




