أوروباالأمريكتان

فصل جديد من العلاقات.. هل تمكن الرئيس “ماكرون” من تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة؟

بالرغم من أن الحرب الروسية الأوكرانية لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز العلاقات عبر الأطلسي التي تجلت في التوافق بشأن ضرورة التصدي للحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، من خلال آليات تجمع ما بين الردع والدفاع، دون مواجهة مباشرة مع روسيا في محاولة للحد من التصعيد العسكري بين القوى الغربية وروسيا، فضلًا عن دعم أوكرانيا لتقوية دفاعها لزيادة فاعلية مقاومتها في هذه الحرب؛ فإن استمرار التصاعد العسكري بين موسكو وكييف لأكثر من تسعة أشهر نتج عنه عدد من التداعيات التي حفزت عودة التوتر بينهم على خاصة فيما يتعلق بالتعاطي الأمريكي في ملف الطاقة، ومعالجة معدلات التضخم في الداخل، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى الحديث عن هذه الملفات التي كانت بمثابة أولوية له إبان زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 30 نوفمبر 2022 والتي استمرت ثلاثة أيام. تُعد هذه الزيارة أول زيارة يقوم بها الرئيس “ماكرون” منذ تولي إدارة الرئيس “جو بايدن” العام الماضي، وثاني زيارة له منذ عام 2018 التي كانت في عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب”. 

قام الرئيس “ماكرون” بعدد من اللقاءات والاجتماعات التي تجلت في زيارته لمقر وكالة ناسا؛ حيث التقى نائبة الرئيس الأمريكي “كامالا هاريس” وناقشا معًا سبل التعاون بين الجانبين فيما يتعلق بمجال الفضاء. واجتمع مع “جون كيري” مبعوث المناخ، ونواب من الكونجرس، وعدد من المسؤولين المُتهمين بمجال المناخ خلال غذاء عمل بشأن قضايا المناخ والتنوع البيولوجي. وزار قبر الجندي المجهول في فرجينيا إبان زيارته لمقبرة أرلينجتون الوطنية، ثم بعد ذلك التقى كل من السيدة “هاريس”، ووزير الخارجية “أنتوني بلينكن” في وزارة الخارجية، بحضور رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي”، و”سبايك لي” المخرج الأمريكي.

وتوجه ماكرون كذلك نحو مبني الكابيتول مع السيدة “بيلوسي”. وفي هذا السياق استقبل الرئيس “بايدن” نظيره الفرنسي في البيت الأبيض مع تكريم عسكري؛ لمناقشة الملفات ذات الاهتمام المشترك. وخلال الزيارة، قام الرئيس “ماكرون” بعقد اجتماع أيضًا مع “إيلون ماسك” المدير التنفيذي لـ “تويتر” لمناقشة امتثال المنصة لقواعد الاتحاد الأوروبي المُتعلقة بالإشراف على المحتوى والسياسات الأخرى عبر الإنترنت. 

أولويات مُلحة

انطلاقًا من التوافق بين الولايات المتحدة وفرنسا بشأن أهمية التعاون المشترك، وفقًا لتصور الجانبين بأنه يمكن مواجهة التحديات، ومعالجة القضايا والملفات من خلال التنسيق بين واشنطن وحلفائها وشركائها الأوروبيين، يُمكن عرض أبرزها وفقًا للبيان المشترك الذي تم نشره على موقع البيت الأبيض عقب الاجتماع بين الرئيسين على النحو التالي:

● الأمن عبر الأطلسي والأوروبي والعالمي: أوضح الجانبان وفقًا للبيان أهمية التعاون والتنسيق المشترك للحفاظ على الدفاع والأمن الجماعيين لدولهم بما في ذلك من خلال حلف شمال الأطلسي؛ وذلك من أجل أوروبا مُوحدة وحرة وفي سلام. ورحب قادة البلدين ببيان النوايا المُوقع في 30 نوفمبر 2022 من قبل وزيري الدفاع الأمريكي والفرنسي، لزيادة إمكانية التشغيل البيني، وتقوية التعاون في مجالات الفضاء والفضاء الإلكتروني، فضلًا عن تقارب وجهات نظرهم بشأن قضايا التصدير، والوصول إلى أسواق الدفاع التي كانت نتاجًا للحوار الاستراتيجي للتجارة الدفاعية بين واشنطن وباريس. 

● الأزمة الأوكرانية: توافق الجانبان على إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا، ورفض المحاولات الروسية غير الشرعية لضم الأراضي الأوكرانية، والاستنكار من النهج التصعيد الروسي، والتأكيد على استمرار دعم أوكرانيا، والدفاع عنها بالتنسيق مع الشركاء والحلفاء بما في ذلك المؤتمر الدولي الذي سيُعقد في باريس في 13 ديسمبر 2022. وهنا يمكن الإشارة إلى أنه بالرغم من تقارب واشنطن وباريس فيما يتعلق بدعم أوكرانيا فإنهم فيما يتعلق بالحديث مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مختلفون؛ فخلال المؤتمر الصحفي قال الرئيس “بايدن” إنه “ليس لديه خطط فورية” للاتصال ببوتين، لكنه مستعد للتحدث معه إذا كان يبحث عن طريقة لإنهاء الحرب في أوكرانيا”. أما الرئيس “ماكرون” الذي قام بإجراء العديد من الاتصالات مع الرئيس “بوتين” منذ اندلاع الحرب وحتى الآن بهدف الحفاظ على قناة للحوار والتواصل مع موسكو للحد من تصاعد واستمرار الحرب، فقد أشار إلى إنه أيضًا على استعداد للحديث مع الرئيس “بوتين” بمجرد أن تضع كييف شروطًا لاتفاق سلام.

● المحيطين الهندي والهادئ: احتلت منطقة المحيطين الهندي والهادئ أيضًا أولوية على جدول زيارة الرئيس الفرنسي إلى واشنطن؛ إذ أشار البيان إلى أن واشنطن وباريس تعملان على تقوية شراكتهما في المنطقة، ويعتزم الجانبان توسيع مشاركتهما الدبلوماسية، والإنمائية، والاقتصادية، والإقليمية لبناء المرونة في جزر المحيط الهادئ، علاوة على التنسيق المشترك فيما يتعلق بالأمن البحري في المنطقة. اتصالًا بما سبق، تطرق البيان إلى الموقف من الصين؛ إذ سيواصل الجانبان التنسيق بشأن المخاوف المُحتملة من تحدي الصين للنظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك احترام حقوق الإنسان، والعمل مع الصين بشأن القضايا العالمية مثل تغير المناخ، فضلًا عن التشديد مُجددًا على أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. 

● أفريقيا: أكدا على أهمية القارة، وتطلعهم إلى العمل مع الشركاء الأفارقة في عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك. علاوة على ذلك، لا تزال مكافحة الإرهاب والمعلومات المضللة من الأولويات المشتركة لواشنطن وباريس في القارة. هذا بجانب اعتزامهم استمرار العمل مع الاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية الأفريقية بهدف مجابهة التحديات التي تواجه القارة.

● الشرق الأوسط: حظيت المنطقة والملفات المثارة فيها باهتمام من قبل قادة البلدين؛ حيث رحبا بإطلاق منتدى النقب، والذكرى الثانية لتوقيع اتفاقيات إبراهيم، إلى جانب اتفاقية الحدود البحرية الإسرائيلية اللبنانية في أكتوبر 2022. بالإضافة إلى إنهم مُصرون على حث قادة لبنان على انتخاب رئيس لهم. بالإضافة إلى مواصلة نهجهم فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب في المنطقة، والعمل على دعم الشعب السوري عبر تحسين الوضع الإنساني الذي يعانون منه. أما فيما يتعلق بإيران فإنهم يحترمون الشعب الإيراني الساعي إلى الحصول على حقوقه وحريته، وأصروا على أهمية عدم تمكن طهران من تطوير أو امتلاك سلاح نووي. 

● الاقتصاد والتجارة وسلاسل التوريد: أشار البيان على التزام الجانبين بنظام تجاري مُتعدد الأطراف مفتوح وقائم على القواعد، مع وجود منظمة التجارة العالمية الحديثة في جوهره. وبناءً عليه لكي يقوموا بتقوية العلاقات الثنائية بينهم في هذه المجالات، يعتزمون عقد مناقشات بشأن التسهيلات المتبادلة لإصدار التأشيرات، وتجديدها وتصاريح الإقامة. فضلًا عن ذلك تلتزم واشنطن وباريس بتطوير سلاسل إمداد متنوعة للمعادن الحيوية، عبر تعاونهما في سياق شراكة الأمن المعدني، والشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار. 

● الطاقة والمناخ: أشارا إلى أهمية التعاون في مجال الطاقة النظيفة، والطاقة النووية المدنية، والشراكة الثنائية بينهم في هذا السياق، بما يقوي شراكتهم في مجال الطاقة والمناخ. وفي هذا السياق، تخطط واشنطن وباريس للاستمرار في نهجهم القائم على التخلص التدريجي من الفحم. بجانب العمل لحماية الغابات المطيرة، ومعالجة إزالة الغابات خلال قمة الغابة الواحدة التي ستعقد في أوائل عام 2023 في ليبرفيل، وأيضًا حماية المحيطات في ضوء مؤتمر الأمم المتحدة القادم الذي سيعقد في فرنسا في عام 2025.

سياق مُضطرب

جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة في سياق ما يشهده النظام العالمي من تحولات تُعزز من إعادة تشكيله، خاصة في ضوء الحرب الروسية-الأوكرانية، فضلًا عن عودة بعض القوى الدولية إلى صدارة المشهد، بجانب صعود قوى أخرى التي تعترض على الترتيبات القائمة في النظام العالمي الذي تم إرساؤه بعد انتهاء الحرب الباردة ويطلق عليهم “قوى المراجعة” وهم روسيا والصين.

وعليه تجد الدول الأوروبية نفسها مُحاطة بعدد التحديات والتهديدات التي فرضتها عليها البيئة الأمنية المُتغيرة التي يتوجب عليها التعاطي معها لضمان حماية المصالح والأمن الأوروبي، عبر التعاون المشترك بينهم، ومواصلة التنسيق مع الحلفاء والشركاء الدوليين. وعليه يمكن التطرق إلى أبرز ملامح السياق الحالي الذي تمت فيه الزيارة على النحو التالي:

● العلاقات الأوروبية-الأوروبية: جاءت الزيارة في توقيت تتسم فيه العلاقات بين القوى الأوروبية الكبرى بحالة من التوتر بشأن عدد من الملفات، خاصة مع انقضاء فترات التقارب بين القيادات الأوروبية مثل المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” التي تولى بعدها “أولاف شولتز”؛ حيث تواجه في عهده العلاقات الفرنسية-الألمانية مجموعة من التحديات، علاوة على التوتر بينهم بشأن كيفية إدارة ملف الطاقة على وجه التحديد. ومن جانب آخر، تشهد العلاقات الفرنسية-الإيطالية حالة من التوتر على خلفية عدم التوافق بينهم حول معالجة ملف الهجرة وخاصة مع تولي الحكومة الإيطالية الجديدة بقيادة زعيمة اليمين المتطرف “جورجيا ميلوني”، بدلًا من حكومة رئيس الوزراء السابق “ماريو دراجي”؛ حيث اتسمت فترة توليه بالرغم من كونها كانت لمدة قصيرة بحالة من الاستقرار في العلاقات بين باريس وروما. يأتي كل ذلك مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. 

● الحمائية الأمريكية: أعادت السياسات الأمريكية الداخلية لأذهان الأوروبيين احتمالية عودة الصدام التجاري مع الولايات المتحدة نتيجة قانون خفض التضخم الذي أثار مخاوف الأوروبيين بشأن انعكاساته، بالتزامن مع استمرار تداعيات الحرب، وارتفاع معدلات التضخم؛ كونه يقدم إعانات وإعفاءات ضريبة بهدف تسريع وتيرة دعم الصناعات الأمريكية بما يتوافق مع عملية التحول الأخضر، وهو ما ينظر إليه الأوروبيون على إنه يجعل العلاقات التجارية غير عادلة، ويُهدد الصناعات الأوروبية، لأنه يمنح الشركات المُنتجة للسيارات الكهربائية مميزات تفتقد إليها الشركات الأوروبية النظيرة على سبيل المثال.

● أزمة الطاقة: يواجه الاقتصاديات الأوروبية عدد من التحديات التي تأتي في مقدمتها ارتفاع أسعار الطاقة، وما نتج عنها من زيادة معدلات التضخم، التي أثرت على القوة الشرائية للمواطنين، وحفزت من صعود قوى اليمين المتطرف إلى السلطة، الأمر الذي دفع القادة الأوروبيين للعمل لاحتواء الوضع، وخاصة مع تراجع اعتمادهم على الطاقة الروسية في إطار العقوبات المفروضة عليها. وذلك من خلال تنوع مصادر الإمداد ووضع استراتيجيات تساهم في التقليل المصادر الملوثة للبيئة مقابل الاعتماد على الطاقة النظيفة؛ إذ كانت الولايات المتحدة أحد الخيارات المُتاحة كمصدر للغاز الطبيعي المسال. وبالرغم من ذلك يحمل هذا البديل تحديًا يكمن في ارتفاع ثمنه، وهو ما انتقده بعض القادة الأوروبيين. والجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه عقدت عددًا من صفقات الطاقة خلال الآونة الأخيرة بنحو 56 صفقة مع دول ثالثة، وفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. 

● تنامي دور حلف شمال الأطلسي: كانت الزيارة في نفس توقيت اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في بوخارست، الذي استمر لمدة يومين، واستهدف التركيز على التحديات طويلة الأجل التي تفرضها الصين، وتم التعهد خلاله على استمرار المساعدات المقدمة لأوكرانيا، لدعم دفاعها وقدراتها لمجابهة الهجمات الروسية، وأيضًا مساعداتها في إصلاح بنيتها التحتية الخاصة بالطاقة التي يتم استهدافها. هذا بجانب زيارة الأمين العام للحلف إلى برلين في الأول من ديسمبر التي رحب خلالها السيد “ستولتنبرج” بالجهود الألمانية في سياق الحلف، مثل المبادرة الألمانية النرويجية لإنشاء مركز الناتو لتنسيق حماية البنية التحتية تحت سطح البحر، علاوة على الدعم الألماني لأوكرانيا. 

● التقارب مع الصين: أصحبت العلاقات مع الصين بمثابة تحدي للقادة الأوروبيين؛ فهذا الأمر يتطلب منهم التعاون معها بحذر، للحفاظ على علاقاتهم التاريخية مع حليفهم الجيواستراتيجي الولايات المتحدة التي تخوض حربًا تجاريًا مع الصين من ناحية، وبين الطموح الصيني الساعي لأن تكون قوى عظمى في النظام الدولي، علاوة على إبرام شراكات ثنائية مع الدول الأوروبية الأمر الذي قد ينعكس على عملية صنع واتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي القائمة على الإجماع وليس الأغلبية، عندما يتم التعاطي مع الانتهاكات الصينية للقيم والحقوق والحريات، نتيجة أنه أضحت هناك مصالح مشتركة مع بعض الدول قد تتأثر. وهو ما قد يُثير حالة من الانقسام مرة ثانية على غرار ما حدث من قبل مع روسيا. 

وتزامن مع زيارة الرئيس “ماكرون” إلى واشنطن قيام رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشيل” بزيارة الصين لبحث عدد من الملفات في مقدمتها الموقف من روسيا؛ حيث “يعول الاتحاد الأوروبي على الصين في دعوة روسيا إلى احترام المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة والمساهمة في إنهاء الدمار والاحتلال الوحشي لروسيا”، وفقًا لمتحدث باسم رئيس المجلس الأوروبي. هذا بجانب مجال التجارة، الذي أشار إليه السيد “ميشيل” خلال مؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس الصيني “شي جين بينج”، بأنه يواجه الشركات والمستثمرين الأوروبيين في الصين صعوبات، مُشددًا على “إعادة التوازن في العلاقات التجارية لكونها قضية رئيسية بالنسبة للقادة الأوروبيين”. 

في المقابل؛ كان موقف الرئيس الصيني من التجارة مع الاتحاد الأوروبي وفقًا لما أوضحته “شينخوا”، أنه قال في اجتماعه مع السيد “ميشيل” إن: “الصين تتوقع من الاتحاد الأوروبي أن يشارك الصين في فرص السوق الهائلة”. والجدير بالذكر أن هذه الزيارة سبقها قيام المستشار الألماني “أولاف شولتز” بزيارة إلى بكين خلال شهر نوفمبر 2022، لتعد الزيارة الأولى لمسؤول أوروبي إلى البلاد منذ تفشي جائحة “كوفيد-19″، بالرغم من التحذيرات الموجهة لبرلين من تداعيات التقارب مع الصين. 

ملاحظات ختامية

عكست الزيارة التي تم تأجيلها بسبب جائحة “كوفيد-19” مدى اهتمام واشنطن وباريس بتعزيز علاقات الصداقة والشراكة بينهما، وتقريب وجهات النظر بشأن مجالات التعاون المشتركة التي تحظى باهتمامهم، والتخطيط للعمل مستقبلًا في عدد من المناطق والمجالات الواعدة. وعليه يمكن اعتبار هذه الزيارة بداية فصل جديد في العلاقات الأمريكية الفرنسية، وهو ما اتضح في البيان المشترك، وأيضًا في نتائج الزيارة التي كانت أولوياتها ملف الطاقة التجارة وأوكرانيا.

وقد سعى كل من الرئيس “بايدن” و”ماكرون” إلى تخطي العثرات السابقة التي تعرضت لها العلاقات على خلفية اتفاق “أوكوس” الذي تم بموجبه تراجع أستراليا عن صفقة الغواصات مع فرنسا مقابل الحصول على غواصات أكثر تقدمًا من الولايات المتحدة، والذي بموجبه ستشارك واشنطن تكنولوجيا الدفع النووي لأول مرة مع دولة حليف بعد المملكة المتحدة منذ عام 1958، لتكون بذلك الدول السابعة بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند والمملكة المتحدة وفرنسا. وهو ما انتقدته فرنسا بوصفه سلوكًا غير مقبول بين الحلفاء، وبناءً على ذلك قام الرئيس “ماكرون” باستدعاء سفيري بلاده من الولايات المتحدة وأستراليا في خطوة غير مسبوقة للتشاور حول الوضع الراهن، ووصف وزير الخارجية “جان إيف لودريان” آنذاك الاتفاقية بأنها “طعنة في الظهر”. 

وحاول الرئيس الفرنسي خلال الزيارة أن يكون مسار الحديث عن تعزيز العلاقات الثنائية، بجانب تقوية العلاقات الأمريكية الأوروبية، ومناقشة التحديات العالمية، وهو ما تجسد بشأن قانون خفض التضخم؛ حيث قال الرئيس “ماكرون”: “لقد أجرينا مناقشة جيدة للغاية حول القانون وقررنا مزامنة مناهجنا … وكذلك استثماراتنا، لأننا نتشارك نفس الإرادة القوية لتأمين صناعاتنا”. 

في المقابل، عمل الرئيس “بايدن” على إرسال رسائل طمأنة للحلفاء الأوروبيين عبر احتواء غضبهم بشأن القانون من خلال الإشارة إلى احتمالية أن يتم إدخال بعض التعديلات على أجزاء منه قائلًا: “هناك تعديلات يمكننا إجراؤها يمكن أن تسهل بشكل أساسي على الدول الأوروبية المشاركة، أو أن تكون بمفردها، لكن هذا أمر يجب حله”. “لم أقصد أبدًا استبعاد الأشخاص الذين كانوا يتعاونون معنا، لم يكن هذا هو القصد، لقد عدنا إلى العمل، وعادت أوروبا إلى العمل. وسنستمر في خلق وظائف التصنيع في أمريكا، ولكن ليس على حساب من أوروبا.” وقال إنه “تم منح استثناءات للشركات التي لديها اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة، لكنه اقترح أن يمتد ذلك إلى الحلفاء” بشكل عام”.

وبالرغم من هذه التصريحات التي تُعد بمثابة مؤشر إيجابي على الجهود الفرنسية في هذا الصدد، إلا أنه قد يكون من الصعب على الإدارة الحالية أن تقوم بإدخال مثل هذه التعديلات على القانون الذي يعد من أهم انجازات الديمقراطيين، ويُمثل أمرًا حيويًا للاقتصاد الأمريكي، والجهود القائمة بشأن التصدي للتغيرات المناخية. وذلك بالتزامن مع سيطرة الجمهورين على مجلس النواب بداية مع العام القادم على خلفية فوزهم في انتخابات التجديد النصفي، وحتى وإن استطاعت إدارة “بايدن” أن تحقق التوافق داخل الكونجرس بشأن تعديل بعض بنود القانون ومنح الشركات الأوروبية بعض الإعفاءات سيكون التساؤل هنا ما هو نمط هذه الإعفاءات، وكيفية تطبيقها؟ 

وهنا يمكن وضع احتمال أن تسعى بالفعل الإدارة الأمريكية إلى منح الدول الأوروبية بعض التسهيلات التجارية؛ تجنبًا للصدام معهم مرة ثانية، وإثارة حالة الانقسام، وهو ما قد توظفه الصين لخدمة مصالحها، عبر إبرام شراكات مع الدول الأوروبية، لزيادة علاقاتها التجارية معهم، من خلال تقديم بكين نفسها بأنها شريك تجاري يمكن الاعتماد عليه، في الوقت الذي يتزايد فيه القلق الأوروبي من السياسات الأمريكية في هذا الشأن.

وأخيرًا؛ يُمكن القول إن البيئة الأمنية المتغيرة والتباينات التي تشهدها العلاقات الأوروبية-الأوروبية، فضلًا عن التحديات التي تواجهها الحكومة الفرنسية منذ انتخابها في شهر أبريل الماضي، وعدم تمكنها من الفوز بالأغلبية في البرلمان لتعزيز قدرتها على تنفيذ سياساتها، بالتوازي مع تنامي صعود قوى اليمين المتطرف واليسار المتشدد في البلاد؛ قد فرض على الرئيس الفرنسي ضرورة انتهاج سياسة خارجية أكثر مرونة وبراجماتية، تدعم سلطته، وتحافظ على مصالح ومكانة فرنسا في النظام العالمي.

وذلك من خلال التقارب مع الولايات المتحدة الشريك التاريخي للبلاد. بالإضافة إلى لعب دورًا محوريًا في إدارة الأزمة الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الأزمة الأوكرانية التي أدت تداعياتها إلى تغير كبير في توازنات القوى في أوروبا؛ إذ إن ضمان الأمن الأوروبي لم يعد قاصرًا على القوى الثلاث الكبرى، بجانب أن سياسة “الاستقلال الاستراتيجي”، وفك الارتباط على الولايات المتحدة، وإطلاق المبادرات الدفاعية لم تعد مُجدية وبل ومن الصعب إقناع الدول الأوروبية بها؛ حيث أثبتت الحرب أهمية الحلف والولايات المتحدة بالنسبة للأوروبيين. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى