سوريا

مُحددات الموقف: هل تُعطي روسيا الضوء الأخضر لتركيا في الشمال السوري؟

على وقع التفجير الذي حدث في إحدى الأسواق في مدينة “إسطنبول” التركية في 13 نوفمبر 2022، والذي أسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة العشرات بجروح؛ تمكنت السلطات التركية من اعتقال سيدة عربية سورية اعترفت بتنفيذها للتفجير، وتوصلت التحقيقات التركية أن هذه السيدة دخلت البلاد بأوامر من حزب “العمال الكردستاني”، رغم نفي الحزب ذلك.

وردًا على تلك العملية، سمح الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ببدء عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال سوريا، وذلك بضرب معاقل وحدات حماية الشعب الكردي، والتي ألقى باللوم عليها في تفجيرات إسطنبول. في السياق ذاته أعلنت تركيا استعدادها لغزو بري يستهدف مقاتلين أكراد سوريين تصفهم تركيا بالإرهابيين.

التوغل التركي البري المنتظر في شمال سوريا يضعنا أمام أمر مهم يتمثل في الموقف الروسي من الهجمات الجوية التركية في منطقة كانت روسيا قد تعهدت بموجب اتفاق سوتشي 2019 بضمان الأمن فيها، ويضعنا أمام تساؤل يتعلق بمدى استعداد روسيا للاهتمام بتلك المنطقة في الوقت الذي تستمر فيه العمليات العسكرية والحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية منذ ما يقرب من 10 أشهر، وهل روسيا على استعداد للدخول في عداء مع تركيا “الحليف الأهم لموسكو” منذ الحرب الروسية الأوكرانية؟ هذا ما سنحاول التطرق له في السطور التالية.

انعكاسات العملية العسكرية التركية

بعد سلسلة من الضربات الجوية، هددت تركيا بشن توغل بري في الشمال السوري، بما في ذلك جيب “تل رفعت” ومدينتي “عين العرب-كوباني” و”منبج” في الشرق الواقعتين تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”؛ وذلك في محاولة لاستهداف الجماعات الكردية التي شاركت مع الجيش الأمريكي في الحملة ضد تنظيم داعش.

على وقع العملية العسكرية التركية، أعلن المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ وقف جميع عمليات مكافحة الإرهاب المُشتركة بعد القصف التركي لمنطقة سيطرتها. وجدير بالذكر أن مساعدات “قسد” للتحالف الأمريكي في سوريا قد مثلت نقطة فاصلة في هزيمة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وفي السياق ذاته، حذًّرت قوات سوريا الديمقراطية من أن عملية التصدي لأي توغل تركي جديد ستُحول الموارد بعيدًا عن حماية سجن يضم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية أو استهداف خلايا نائمة للتنظيم لا تزال تشن هجمات كرًّ وفرًّ في سوريا.

في سياق اّخر، طالبت تركيا حلفاءها وعلى رأسهم “واشنطن”، بوقف دعمهم لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية المعارضة في سوريا، والتي تصنفها “أنقرة” كمنظمة إرهابية، فيما تدعمها واشنطن في محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية”.

الحرب الأوكرانية وزياد تقارب موسكو -أنقرة

منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، ظلت تركيا الحليف الأكثر صداقة من بين جميع دول الناتو لروسيا، ولم تفرض عقوبات أو تقوم بإلغاء الرحلات الجوية، وواصلت التعاون الوثيق مع موسكو في العديد من القضايا.  

وبالنسبة لأنقرة، كانت روسيا دائمًا ذات قيمة اقتصادية وأمنية كبيرة. في سعيها لتحقيق مصالحها الوطنية، وكانت تركيا على استعداد لتجاهل ليس فقط رأي كييف ولكن أيضًا رأي حلفائها الغربيين، كما حدث عندما وقعت على مشروع خط أنابيب “ترك ستريم” الروسي لتجاوز الأراضي الأوكرانية في إيصال الغاز الروسي إلى أوروبا. وقامت بشراء أنظمة صواريخ ” S-400″ من موسكو، على الرغم من انتقادات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. 

وتحاول أنقرة الآن استغلال الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة نفوذها الإقليمي والعالمي؛ من خلال تولي دور الوسيط. الأمر الذي من شأنه تعزيز سمعة تركيا ونفوذها في المنطقة، ويسمح لها بالمطالبة بدور الوسيط الرئيس بين روسيا والغرب في وقت تتفكك فيه العلاقات بينهما.

في السياق ذاته كان لروسيا اليد العليا في مجريات الأوضاع على الأراضي السورية، عقب ثورات الربيع وما صاحبها من احتجاجات ضد نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” استمرت لسنوات واستخدمت فيها كل أنواع القوة، نجح النظام السوري في الاحتفاظ بسيطرته على مقاليد الأمور، ولم يكن ذلك سيحدث لولا الدعم الروسي الشامل للنظام السوري. ولم يكن لأحد من القوى الإقليمية أو الدولية التدخل في سوريا إلا عبر بوابة الكرملين.

الموقف الروسي من التطورات الأخيرة في شمال سوريا

وسط مخاوف من توغل بري من قِبل القوات التركية، نشرت روسيا تعزيزات عسكرية في منطقة “تل رفعت” بشمال سوريا، والتي يٌسيطر عليها مُقاتلون أكراد وقوات حكومية.  وتأتي خطوة موسكو، بعد أن شنت أنقرة ضربات جوية على أهداف كردية في سوريا والعراق في 20 نوفمبر بعد أسبوع من تفجير إسطنبول. وتقع مدينة “تل رفعت” على بعد 15 كيلومترًا جنوب الحدود مع تركيا، وتسيطر القوات الكردية على المدينة والقرى المحيطة، وفي الوقت ذاته تتواجد القوات الروسية في تلك المنطقة.

في السياق ذاته، أقامت القوات الروسية حواجز طرق في قرية قريبة تفصلها عن المواقع الخاضعة لسيطرة القوات التركية ووكلائها من المعارضة السورية. هذا ويسيطر الاتراك وحلفاؤهم على المناطق المحيطة بـ “تل رفعت” من الشمال، بينما تُسيطر القوات السورية المدعومة من روسيا على مناطق في الجنوب. 

وطالب السيد “ألكسندر لافرنتييف” المبعوث الخاص للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى سوريا تركيا “بضبط النفس” والنأي عن اللجوء إلى أي قوة مُفرطة في سوريا. وأوضح أن موسكو تبذل قصارى جهدها لمنع أي عملية برية واسعة النطاق ضد سوريا، مع ضرورة مواصلة العمل مع جميع أصحاب المصلحة لإيجاد حل سلمي، بما في ذلك للقضية الكردية. 

هل تُعطي روسيا الضوء الأخضر لتركيا؟

رغم التعزيزات العسكرية الروسية؛ يظل الموقف الروسي غير واضح المعالم فيما يتعلق بالعملية العسكرية التركية الأخيرة في الشمال السوري. وما يضع روسيا في حيرة هي أنها الضامن لاتفاق وقف إطلاق النار في شمال سوريا الموقع مع تركيا عام 2019. فبموجب اتفاق سوتشي لعام 2019، تتولى الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري تسهيل انسحاب المقاتلين الاكراد مع أسلحتهم من منطقة الحزام الأمني جنوبي تركيا، لكن ذلك لم يتحقق.

رغم ذلك تعارض روسيا عزم الاتراك على شن عملية برية جديدة في الشمال السوري. لكن ومما لا شك فيه أن الحرب الروسية الأوكرانية أثرت على الموقف الروسي؛ إذ تحاول روسيا التعامل مع تركيا لكسب مواقف داعمة لحربها في أوكرانيا.

وفي هذا السياق، يحاول المسؤولون الروس إقناع دمشق والمقاتلين الأكراد بالانسحاب من مدينة “تل رفعت” شمال سوريا لمنع هجوم بري تركي. ويأتي ذلك استجابة لمطالب تركيا التي تشترط انسحاب ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية من مدن منبج وكوباني وتل رفعت.

وكانت العملية العسكرية التركية الأخيرة في سوريا في إدلب عام 2020، وكان ذلك حادثًا مكلفًا للغاية لجميع الأطراف، حيث قُتل عشرات الجنود الأتراك ومئات السوريين قبل التوصل إلى اتفاق لإنشاء ممرات أمنية.  ومع ذلك، فقد تغير دور روسيا في الحرب السورية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام؛ فموسكو غارقة في حرب عميقة ومكلفة دفعتها إلى تحويل موارد مهمة بعيدًا عن سوريا، مثل نظام الدفاع الجوي” S300″.  ومما سبق يُمكن القول إن أولوية روسيا هي تجنب الانجرار إلى اشتباكات معقدة في سوريا في وقت يظل فيه الحياد التركي في حرب أوكرانيا ورقة مساومة قوية لأنقرة.

دوافع “أردوغان”

بمنطق براجماتي يعمل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على الاستفادة من الهجوم الجوي التركي لصالحه من خلال حافزين هما:

1 – يُمكن أن يُساعد هجوم “أردوغان” في سوريا الرئيس التركي في توحيد أنصاره قبل الانتخابات الرئاسية المُقبلة للاحتفاظ بالسلطة.

2 – يحرص “أردوغان” على الاستفادة من الاستياء المتزايد من وجود 3 ملايين لاجئ سوري في تركيا، ويحاول في الوقت الحالي علاج تلك الأزمة من أجل الفوز بشعبية كبرى مع اقتراب الانتخابات.

3 – عززت الحرب الروسية الأوكرانية النفوذ الدبلوماسي لتركيا، وأضعفت مصداقة روسيا العسكرية، بجانب أن تركيا تُدرك أن الضغط الدولي جِراء استخدامها القوة العسكرية في الشمال السوري سيكون أقل حِدة.

في الأخير، وعلى الرغم من التعزيزات العسكرية الروسية لمحاولة وقف أو تأجيل العملية العسكرية التركية، إضافة إلى دعوة وزارة الدفاع الأمريكية -التي تدعم وتقدم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية- إلى “وقف فوري للتصعيد”، والتحذير من أن الضربات الجوية التركية يمكن أن تضع القوات الأمريكية في خطر، فضلًا عن أن التصعيد التركي قد يهدد التحالف الدولي الذي تمكن من إضعاف وهزيمة “داعش” في السنوات الأخيرة؛ إلا أن العملية التركية البرية تبدو وشيكة، ومع انشغال القوات الروسية في أوكرانيا، فإن واقعًا جديدًا غير مؤكد في شمال شرق سوريا قد يلوح في الأفق.

+ posts

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

أحمد السيد

باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى