الأزمة الأوكرانية

قصة “زابوريجيا”: المحطة النووية الأكبر في القارة الأوروبية

تُعيد الحرب الروسية الأوكرانية إلى أذهان العالم مخاوف تكرار كارثة “تشيرنوبل 1986″، خاصة أن الحرب الجارية تعد هي الصراع العسكري الأول من نوعه على أراضي دولة تمتلك منشآت نووية كبيرة الحجم مثل أوكرانيا التي تمتلك أربع محطات كبرى للطاقة النووية. وأهمها محطة “زابوريجيا” للطاقة النووية التي تقع في مدينة “إنيجيرجودار” الأوكرانية. وتعد واحدة من أكبر محطات الطاقة النووية الفاعلة في أوروبا. وأنشئت بقرار من مجلس وزراء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية في عام 1977. 

سيطرة روسية

تعرضت المنطقة المجاورة للمحطة، أوائل مارس -قبيل وقوعها تحت السيطرة الروسية- للقصف الذي ترتب عليه اندلاع حريق في أحد المباني الإدارية مما تسبب في حالة ذعر عالمية. وصرح مسؤولون أوكرانيون بأن القذيفة التي تسببت في هذا الحريق أطلقت من مسافة قريبة وأن إحدى وحدات الطاقة قد أصيبت بأضرار. ولكن نجح رجال الإطفاء الأوكرانيين في إطفاء النيران وتوقف القتال في محيط المحطة بعد ذلك. 

وعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعًا طارئًا، 4 مارس، وأدان ممثلو بريطانيا والولايات المتحدة قصف محطة الطاقة النووية.  وردًا على ذلك، أعلن الجيش الروسي أن الحريق في محيط المحطة كان نتيجة لاستفزاز وحشي من قبل واحدة من جماعات المخربين الأوكرانيين، التي بدأت أولًا بإطلاق النار على دورية روسية من نوافذ المبنى، ثم أشعلت النيران فيه. 

وبتاريخ 4 مارس من العام الجاري، خرج “بيتر كوتين”، القائم بأعمال رئيس شركة “إنيرجوتام”، على التليفزيون الأوكراني، ليعلن على الهواء أن القوات الروسية استولت على محطة “زابوريجيكسايا” للطاقة النووية. ووفقًا له، “في تمام الساعة 4:30 دقيقة صباحًا، تحطمت مقاومة المدافعين عن محطة الطاقة النووية، ودخل الغزاة أراضي المحطة، وسيطروا على أفرادها وإدارتها”. 

ويمثل الاستيلاء على المحطة دلالة مهمة في الحرب الجارية؛ نظرًا إلى أنها مسؤولة عن إنتاج خُمس إمدادات الطاقة الأوكرانية. مما يعني أن وقوعها تحت السيطرة بينما يلوح في الأفق شتاء قارس سيلحق بأوكرانيا أضرارًا جمة. وبعد أن صارت الأراضي المحيطة بالمحطة ملعبًا لتبادل إطلاق النيران بين الجانبين، أصبح احتمالات وقوع كارثة نووية أخرى على غرار “تشيرنوبل” يلوح في الأفق. خاصة وأن “تشيرنوبل” بوصفه أحد أخطر الحوادث النووية في تاريخ البشرية نجم عن انفجار في وحدة “واحدة” فقط من وحدات إنتاج الطاقة النووية في المحطة. 

يرى خبراء أن الحرب الجارية تهدد بانفجار نووي توازي شدته 6 أضعاف ذلك الذي اندلع في “تشيرنوبل”، نظرًا إلى أن محطة “زابوريجينكسايا” تحتوي على 6 وحدات طاقة. ويتحدث الإعلام الغربي منذ منتصف شهر يوليو الماضي عن أن القوات الروسية تستخدم منشآت المحطة كدرع وكغطاء خلال العمليات العسكرية الموجهة ضد صفوف الجيش الأوكراني. فكتبت هيئة الإذاعة البريطانية، في تقارير منفصلة نشرتها على فترات متفاوتة ما يؤكد أن الجيش الروسي نشر عدة قاذفات صواريخ، بالإضافة إلى أسلحة ومعدات أخرى على أراضي المحطة.

فيما أبلغت أوكرانيا، بتاريخ 6 مارس، الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن إدارة المحطة تواصل الضغط على العاملين فيها والذين لا يتخذون أي قرارات إلا طبقًا لأوامر مرسلة إليهم من القيادة العسكرية الروسية. كنتيجة لذلك، أدلى الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، “رافائيل ماريانو جروسي”، بيانًا علق من خلاله على الضغوط التي يتعرض لها العاملون في المحطة، وعبر من خلاله عن قلقه الشديد إزاء هذا الوضع. وأكد على ضرورة الالتزام بالإجراءات السبع للسلامة النووية، التي كان قد سبق وأعلن عنها بتاريخ 2 مارس، والتي يندرج من ضمنها ضرورة أن يكون موظفو التشغيل قادرين على تنفيذ واجباتهم واتخاذ القرارات دون ضغوط من الخارج. 

درع نووي

وواصلت السلطات الأوكرانية جنبًا إلى جنب مع الدول الغربية، منذ لحظة الاستيلاء الروسي على المحطة، في التأكيد على أن الجيش الروسي يستخدم أراضي المحطة كدرع وأنه يقوم بإطلاق النار من داخل أراضي المحطة النووية. مما يمنع القوات الأوكرانية من الرد على إطلاق النار ويهدد بوقوع خطر حادث نووي مروع. 

وصرح وزير الخارجية الأمريكي، “أنتوني بلينكن”، 1 أغسطس، أنه توجد هناك تقارير موثوقة تفيد بأن روسيا تستخدم محطة الطاقة النووية “زابوريجيا” كدرع نووي بحيث يتم إطلاق النار منه باتجاه الأوكرانيين. مشيرًا إلى أن ذلك “ذروة اللا مسؤولية”. وصرح “بيتر كوتين”، رئيس شرك “إينيرجوتام” الأوكرانية، 3 أغسطس، أنه يوجد هناك ما يصل إلى 50 مركبة من المعدات العسكرية الثقيلة المزودة بمتفجرات، ونحو 500 جندي روسي يتمركزون في محيط المحطة. 

وفي المقابل، أفادت وزارة الدفاع الروسية، 8 أغسطس، أن تشكيلات أوكرانية مسلحة أطلقت النار مرة أخرى على المحطة النووية. وكنتيجة لذلك، تضرر خط الجهد العالي، وحدث ارتفاع في الطاقة، مما تسبب في تصاعد أعمدة الدخان في المفاتيح الكهربائية للمحطة. ووصفت الإدارة العسكرية الروسية القصف بأنه “عمل جديد من أعمال الإرهاب النووي”. وعلى هذا الأساس، اتهم الكرملين القوات الأوكرانية بالوقوف وراء قصف أكبر محطة نووية في أوكرانيا وأوروبا محذرًا من عواقب كارثية على أوروبا. 

محاولات للتهدئة

وفي 11 أغسطس، انعقد مجلس الأمن الدولي الطارئ بناءً على طلب روسيا، وفي غضون ذلك، قال الممثل الدائم للاتحاد الروسي لدى الأمم المتحدة، “فاسيلي نيبينزيا”، موجهًا حديثه للمشاركين “إنه في الأيام الأخيرة، أطلقت القوات المسلحة الأوكرانية النار مرارًا وتكرارًا على أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا، محطة زابوريجيا للطاقة النووية، باستخدام مدفعية ثقيلة وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة”. 

وقد عبرت الصين -التي نادرًا ما تتوجه بأي انتقادات قد تنعكس بشكل أو بآخر على موسكو بحكم ما يربط البلدين من شراكة- عن قلقها البالغ إزاء التحركات العسكرية في محيط المحطة. حيث صرح “تشانج جيون”، المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة، 11 أغسطس، أن بلاده تشعر بقلق بالغ إزاء القصف الأخير لمحطة زابوريجيا للطاقة النووية في أوكرانيا. وقال المندوب الصيني في إفادة لمجلس الأمن الدولي: “ندعو الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، والتصرف بحذر، والامتناع عن أي عمل من شأنه المساس بالسلامة والأمن النوويين، وعدم ادخار أي جهد لتقليل أي حوادث محتملة”.

من جانبه، أكد المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، “فاسيلي نيبينزيا”، 12 أغسطس، أن هجمات كييف على المواقع النووية تدفع العالم إلى كارثة إشعاعية على غرار كارثة “تشيرنوبل”، محملًا رعاة كييف الغربيين كامل المسؤولية عن الكارثة النووية المحتملة في محطة “زابوريجيا”.

وبتاريخ 18 أغسطس، نشر موظفو المحطة المحتجزون كرهائن لدى القوات الروسية نداءً للمجتمع الدولي يطالبون فيه بـ “منع ما لا يمكن إصلاحه”. ودعا الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، “رافائيل جروسي”، في بيانٍ له، 19 أغسطس، إلى ضبط النفس في محيط المحطة. وقال إن “أي تصعيد يتعلق بالمفاعلات الستة في المحطة قد يؤدي لحادث نووي خطير”. لافتًا إلى أن الوكالة تجري مشاورات نشطة مع شتى الأطراف لإرسال بعثة للقيام بأنشطة تتعلق بالأمن والسلامة في أسرع وقت ممكن. 

وفي أول مكالمة، جمعت الرئيسين الروسي “فلاديمير بوتين”، والفرنسي “إيمانويل ماكرون”، 19 أغسطس، بعد انقطاع دام لثلاثة أشهر. أعلن الكرملين أن الرئيس الفرنسي اتصل برئيسه هاتفيًا. وأوضح الكرملين في بيانه أن الرجلين دعيا إلى ضرورة إرسال فريق تفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفقد المحطة في أسرع وقت ممكن. وحذر “بوتين” خلال المكالمة من كارثة متوقعة جراء التهديدات الأوكرانية في هذا الموقع الحساس. ونبه إلى أن ضرب القوات الأوكرانية للمحطة الأكبر في أوروبا قد يتسبب في كارثة واسعة النطاق. 

وبتاريخ 25 أغسطس، أعلن الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، أن الكهرباء انقطعت عن المحطة لساعات بسبب القصف الذي تعرضت له المنطقة، مما أدى لاندلاع حرائق في حفر الرماد بمحطة طاقة فحم قريبة حيث تم فصل مجمع المفاعل عن شبكة الكهرباء. وبتاريخ 26 أغسطس، أعلنت شركة “إنرجوآتوم” الأوكرانية، أن المحطة استأنفت إمدادات الطاقة الكهربية بعد إعادة توصيل أحد مفاعلاتها الستة بالشبكة الأوكرانية. بينما اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، بتحويل المحطة إلى منطقة حرب نشطة كجزء من استراتيجيتها لخلق أزمة طاقة في أوروبا بعد فصلها عن الشبكة. 

شبح تشرنوبل

تعرضت المحطة لقصف، بتاريخ 1 سبتمبر، قبل وصول بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ونشرت صحف غربية أن القوات الروسية قامت بقصف المحطة بقذائف هاون، حيث ترتب على ذلك أن تم إطلاق نظام الحماية الطارئة وإيقاف تشغيل وحدة طاقة رقم 5.  ووصلت بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، 1 سبتمبر، إلى محطة زابوريجيا النووية. وتهدف الزيارة التي تتألف من 14 عضوًا، للتأكد من أمن وسلامة المنشأة النووية. 

عقب زيارته لمحطة “زابوريجيا” للطاقة النووية، 2 سبتمبر، قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن “المحطة وسلامتها المادية انتهكت مرات عدة”. وأشار “جروسي”، إلى أن قسمًا من فريق خبراء الوكالة سيبقى في المنشأة أيامًا عدة لمواصلة تقييم الوضع في المحطة التي أثار تعرض محيطها للقصف مرات عدة مخاوف من وقوع كارثة نووية.  في الوقت نفسه، اتهمت الدفاع الروسية، القوات الأوكرانية، السبت 3 سبتمبر، بشن محاولة فاشلة للاستيلاء على المحطة. وقالت الوزارة إن فرقة من البحرية الأوكرانية يزيد قوامها عن 250 فردًا حاولت الرسو على ساحل بحيرة قريبة من “زابوريجيا”. وأضافت، “ذلك على الرغم من وجود ممثلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المحطة، لكن حاول نظام كييف مرة أخرى السيطرة عليها”. 

من ناحية أخرى، عرض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، 3 سبتمبر، الوساطة في المواجهة بين موسكو وكييف بشأن محطة الطاقة النووية. وذكرت الرئاسة التركية في بيانٍ لها، إن أردوغان، و”بوتين”، ناقشا خلال اتصال هاتفي العلاقات التركية الروسية، والقضايا الإقليمية، لاسيما عملية تصدير الحبوب والتطورات في المحطة النووية. وقال إردوغان لبوتين، إنه من الممكن لتركيا أن تلعب دورًا تيسيرًا في أزمة المحطة النووية بنفس الطريقة التي فعلت بها الأمر في اتفاقية تصدير الحبوب. 

وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، 3 سبتمبر، أن المحطة النووية قد فقدت صلاتها بآخر خط كهرباء رئيسي متبقى. وتعتمد المحطة الآن على خط احتياطي لتزويد الشبكة الأوكرانية بالطاقة. فيما قال مسؤولون محليون موالون لروسيا، إن المشكلة نجمت عن “مشاكل فنية” ناتجة عن القصف. ويتهم كل طرف من الطرفين الطرف الآخر بقصف المحطة.

وردًا على سؤال حول ما الذي من الممكن أن تؤدي إليه مثل تلك الخطوة؟! فإنه ووفقًا لتوقعات الخبراء، من المحتمل أن يترتب على ذلك:

1- إغلاق المحطة أو فصلها عن الشبكة الأوكرانية سيفرض ضغوطًا جديدة على الإمدادات الأوكرانية وخاصة في الجنوب، فيما تتوقع أوكرانيا بالفعل أن تواجه الشتاء الأكثر صعوبة منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي. 

2 – ومن الممكن أن يؤدي إغلاقها إلى تداعيات في مجال الطاقة، بالإضافة إلى احتمال تصاعد القتال الذي يرتبط بمخاوف طويلة الأجل، مثل تفاقم التغيرات المناخية. 

3 – ومن المحتمل أن يتسبب إغلاق المحطة أو قطع التيار إلى رد فعل أسوأ بمراحل من كارثة تشيرنوبل النووية. 

يأتي ذلك وسط رفض روسي مستمر للمقترحات الأممية والأوكرانية بسحب السلاح من محيط المنطقة الحساسة. مؤكدة أنها لا تنشر أسلحة ثقيلة فيها، بل تكتفي بأسلحة خفيفة تستخدم للحراسة فقط. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى