
تونس والجمهورية الثانية.. تحديات ومآلات
مثّلت محاولة اغتيال الرئيس التونسي “قيس سعيد” في الرابع والعشرين من يونيو 2022، نقطة تحول في المشهد السياسي التونسي، بعدما استنفدت حركة النهضة وحلفاؤها وسائل الضغط الميداني عبر المظاهرات المختلفة ومساعيها إلى عرقلة الإصلاح السياسي الذي وضعه الرئيس “سعيد” معلنًا في ضوئه عن الجمهورية الجديدة.
وتأتي تلك المحاولة في ظل الانتهاء من تعديل الدستور وطرح المسودة الجديدة على مؤسسة الرئاسة تمهيدًا لطرحها للاستفتاء الشعبي وما يتبعها من إجراء انتخابات تشريعية، وهو الأمر الذي ترى فيه حركة النهضة الإخوانية بمثابة المسمار الأخير لوجودها داخل تونس، لذا تسعى إلى خلط الأوراق وانتهاج العنف المسلح لإعادة مشهد ما بعد ثورة الياسمين مطلع عام 2011 مرة أخرى، وتوظيف ذلك بما يخدم أهدافها وأجندتها الداخلية.
تفاقم حدة التصدع
بالرغم مما حظي به الرئيس قيس سعيد من تأييد شعبي ومؤسسي ناجمًا بالأساس حول القرارات التاريخية المتعلقة بتجميد عمل البرلمان التونسي –ثم حله مؤخرًا– إلى جانب إقالة الحكومة منذ منتصف عام 2021، إلا أنه وفي ضوء تفاقم الأوضاع الداخلية تزايدت حدة التوتر بين العديد من المؤسسات والكيانات السياسية وبين الرئيس “سعيد”، أدت إلى تأزم المشهد السياسي، وتراجع قدرة التماسك الداخلي في تونس، وتفتح بصورة كبيرة لحالة من التجاذبات والاستقطاب الداخلي، مما يؤثر على المشهد بأكمله وعلى مسار التحول إلى الجمهورية الجديدة، ويمكن توضيح ذلك في المؤشرات الآتية:
- استنفار المعارضة التونسية: لقد اعتمدت المعارضة التونسية بصورة عامة وحركة النهضة على وجه الخصوص استراتيجية الاستنفار العام والضغط على النظام السياسي عبر المظاهرات المختلفة وتأجيج الرأي العام مع تحشيد المواطنين ضد الرئيس “سعيد”، بداية من الدعم الذي لاقاه الإضراب العام من اتحاد الشغل التونسي من جماعات الإسلام السياسي، إلى جانب تأليب الرأي العام عبر التسويق لفكرة اختزال واحتكار السلطات الثلاث في يد رئيس الجمهورية.
- تعددية الجهات المناهضة: لم تعد حركة النهضة هي الجهة المعارضة الرئيسة للرئيس قيس سعيد، بل برز في الفترة الأخيرة دخول اتحاد الشغل العام في تونس في تلك الدائرة على خلفية المطالب الفئوية علاوة على رفضها للحوار الوطني مما زاد من تعقد المشهد. الأمر الآخر تجلى في الصدام بين مؤسسة الرئاسة والقضاة في تونس وذلك على ضوء إعفاء 57 قاضيًا من مهامهم بتهم تعطيل مسار القضاء، وذلك في الثاني من يونيو 2022، مما أدى إلى قيام القضاة بإضراب مفتوح خلال الثالث والعشرين من يونيو الجاري مما ينذر بصورة كبيرة بشلل كلي للسلك القضائي.
ويأتي ذلك كمسار مكمل للإضراب العام الذي دعا إليه اتحاد الشغل، ولعل ذلك بمثابة تكتيك لجر القضاء إلى معركة سياسية بتجييشه ضد مسار الـ 25 من يوليو. ولعل تلك الخطوة دفعت الغرب إلى تصعيد لهجته حيال الإجراءات التي يتخذها الرئيس سعيد، مما يُعقد بصورة كبيرة من وضعية تونس عالميًا، خاصة وأنها على مشارف إجراء استفتاء على الدستور (يوليو القادم)، وانتخابات برلمانية نهاية العام الجاري.
- مقاطعة الحوار الوطني: خروجًا من الازمة السياسية الحالية، دعا الرئيس “سعيد” بالتشاور مع اتحاد الشغل إلى حوار وطني يجمع كافة الأطياف السياسية باستثناء بعض التكتلات السياسية وعلى رأسها حركة النهضة، بيد أن هذا الأمر قوبل بصورة كبيرة من الرفض وعدم المشاركة، فقد تزايدت مساحة المعارضة الحزبية لهذا الإجراء، فلم يقتصر رفض الانخراط في الحوار الوطني من جانب الأحزاب المعارضة والتي يأتي على رأسها الإسلام السياسي والمتضمنة جبهة الإنقاذ الوطني وفي القلب منها حركة النهضة وقلب تونس والكرامة وائتلاف “مواطنون ضد الانقلاب”، بل زادت مساحة المعارضة لتشمل أيضًا حزب التيار الوطني والحزب الدستوري الحر الذي تقوده عبير موسى، والتي وصفت قرارات الرئيس التونسي بالديكتاتورية، ولعل تلك الأحزاب تُمثل موضع رفض بالنسبة للرئاسة التونسية التي استثنتهم جميعًا من الانخراط في جلسات الحوار الوطني.
الدستور والوضعية الحرجة
منذ أن تم الإعلان عن انتهاء اللجنة الدستورية العليا من المسودة المقترحة للدستور الجديد لتونس ورفعها للرئيس “قيس سعيد” ثم طرحها للاستفتاء الشعبي أواخر يوليو المقبل، تشهد تونس حالة تخبط غير مسبوقة أججت بشكل كبير من وضعية الصدام بين المؤسسة الرئاسية وبين العديد من التكتلات السياسية والحزبية والنقابات العمالية المختلفة، التي تواصل تمسكها بدستور 2014 وترى فيه دستور الوحدة الوطنية، مع الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد وعلى رأسها حركة النهضة، وكذلك جبهة الخلاص التي دعت في 27 مايو الماضي إلى اتخاذها الإجراءات الكافية للطعن على مرسوم الرئيس “سعيد” الذي يدعو إلى الاستفتاء على الدستور الجديد ووصف هذا بغير الشرعي، وكذلك كل من الحزب الجمهوري والتيار الديمقراطي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب العمال، التي تسعى إلى دعوات المقاطعة وإسقاط الاستفتاء.
واستكمالًا لذلك؛ فقد جاء الكثير من الأحزاب ليؤيد مسار الرفض وعلى رأسها التيار الديمقراطي، والجمهوري، والتكتل، والمسار، وآفاق تونس والعمل، والتصويت بالرفض على ذلك الدستور خاصة وأنها ترى أن هذا المسار يضفي شرعية غير حقيقة على الإجراءات التي اتخذها “قيس سعيد” في يوليو 2021 ويُمثل الإطاحة بدستور 2014، مما يعطي الفرصة للرئيس التونسي للانفراد بالحكم، وفقًا لما ذكرته تلك الأحزاب.
ولعل المسودة الجديدة للدستور تضمنت نصوصًا زادت بصورة كبيرة من التصدعات الداخلية، وخاصة فيما يتعلق بالفصل الأول الخاص بالدين داخل الدولة، وإلغاء المرجعية الدينية للدولة خلافًا لدساتير تونس السابقة، مما أوجد فرصة أمام حركة النهضة لتحريك القوى السياسية والشعب حول ذلك الأمر، ومعالجةً لذلك فقد أعلن الرئيس التونسي تغيير الفصل الأول من الدستور الجديد لتونس لينص على أن الإسلام دين الأمة وليس دين الدولة.
انتهاج مذهبية العنف
لقد جاءت محاولة اغتيال الرئيس التونسي لتبرهن على المرحلة الحرجة التي تمر بها تونس، وتعد المؤشر الأكثر تصادمًا وتصعيدًا داخل المشهد التونسي؛ إذ تأتي المحاولة التي أحبطتها وزارة الداخلية التونسية علاوة على إحباط هجوم إرهابي استهدف قوات الشرطة في الرابع والعشرين من يونيو الجاري، ليُجسد ما آلت إليه الأوضاع السياسية في تونس وحالة الاحتقان الداخلي، علاوة على مساعي حركة النهضة إلى خلط الأوراق وإرباك المشهد السياسي وتعطيل مسار الإصلاح الداخلي وبناء الجمهورية الجديدة بانتهاج سياسية العنف المسلح عبر استراتيجية الذئاب المنفردة، بالتعاون والدعم الخارجي ماديًا وفكريًا تحت مظلة الجمعيات الأهلية التونسية كما هو الحال بالنسبة لجمعية “نماء” التي تم القبض على ثلاثة عناصر منها لتلقي تمويلات من الخارج لزعزعة الاستقرار التونسي.
واتصالًا بالسابق؛ فقد برز مؤخرًا نشاط مكثف للعناصر الإرهابية وخطة حركة النهضة لفرض سياسة الأمر الواقع بالعنف المسلح واستهداف الشخصيات والمؤسسات الداعمة للرئيس قيس سعيد وعلى رأسها وزارة الداخلية، وكذلك هناك نشاط مكثف لتجنيد أكبر عدد من العناصر المتطرفة لتنفيذ بنك أهداف وأجندة حركة النهضة داخل تونس، واتضحت معالم ذلك –إلى جانب محاولة اغتيال الرئيس التونسي– في إلقاء القبض على 8 عناصر إرهابية في الثامن والعشرين من أبريل 2022، وكذا القبض على 8 نساء لانضمامهن إلى تنظيم إرهابي في منطقة الكرم الغربي بالضاحية الشمالية للعاصمة التونسية وذلك في الخامس والعشرين من يونيو 2022.
ختامًا؛ إن المشهد السياسي وحالة التصعيد التي وصلت إلى حد العنف المسلح واستهداف المؤسسات السيادية وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، مع حالة التذمر العام حول الإجراءات المتخذة نحو الجمهورية الجديدة، يتطلب قدرًا من الانفتاح على الأحزاب والتكتلات السياسية الوطنية، وكذلك الكيانات المهنية وعلى رأسها اتحاد الشغل، مع تأجيل طرح الدستور للاستفتاء لحين إجراء حوار وطني شامل يتضمن مناقشة نصوص الدستور الجديد، والوصول إلى أرضية مشتركة حول الخطوات المستقبلية بداية من الدستور المطروح على مؤسسة الرئاسة، ولعل هذا يضمن قدرًا من الالتفاف الشعبي والمؤسساتي مرة أخرى حول الرئيس “سعيد”، ويضمن بصورة كبيرة إقرار هذا الدستور عبر استفتاء يحقق الهدف المنشود منه.



