
كل الطرق تؤدي إلى فيينا.. هل تتحول إيران عمليًا إلى مستورد للنفط والغاز؟
في إعلانٍ يحمل في طيّاته مؤشراتٍ خطيرة، حذّر وزير النفط الإيراني في حكومة المحافظين الجديدة، جواد أوجي، من دخول بلاده مرحلة متطورة من عدم الاستقرار الاقتصادي تتمثل في تحولها إلى مستورد للنفط والغاز على حد تعبيره. وما يجعل هذا الإعلان غير عادي هو أن الدولة الإيرانية كانت لعقود من أهم مُصَدِّري وحائزي النفط على مستوى العالم.
ولا تزال إيران تحتل المرتبة الرابعة عالميًا من حيث امتلاك أكبر الاحتياطيات النفطية والثانية أيضًا من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي، فضلاً عن أنها كانت ثاني أكبر مُصدر للنفط في منظمة “أوبك” قبل انخفاض نسب تصديره بشدة في أعقاب حزم العقوبات التي فُرضت في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
وعلاوة على هذا، مثّل النفط للجمهورية الإسلامية، وحتى في عهد الملكية قبل ثورة عام 1979، مصدرًا أساسيًا أو بمعنى أدق المورد الأكبر للدخل القومي والعملة الصعبة في البلاد. وهو على سبيل المثال كان البنية الأساسية التي اعتمد عليها الشاه الأخير في تاريخ بلاد فارس، محمد رضا بهلوي، في توطيد أركان حكمه وبناء الدولة.
وفی الإعلان نفسه المُشار إليه، قال وزير النفط الإيراني، أوجي، إن بلاده بحاجة إلى 160 مليار دولار في شكل استثمارات داخل صناعات النفط والغاز، مضيفًا أنه “إذا لم يتم الإنفاق من أجل التنمية، فإن إيران سوف تتحول في المستقبل إلى مستورد للنفط والغاز”. وأوضح أوجي خلال جلسته الأخيرة مع رئيس منظمة التخطيط والميزانية الإيراني أن عدم وجود القدر الكافي من الاستثمارات اللازمة في صناعة النفط والغاز كان أحد أبرز أسباب هذا التحول.
ويأتي هذا التطور وتلك التصريحات بالتزامن مع إعلان آخر من جانب النائب السياسي لوزير الخارجية الإيراني ومسؤول ملف المفاوضات النووية، علي باقري كني، أكد فيه على استئناف المفاوضات النووية في العاصمة النمساوية فيينا في 29 من الشهر الجاري.
وهنا تكمن القضية، إذ لا تبدو مسألة عدم توافر الكميات المطلوبة من النفط والغاز في إيران ببعيدة عن تعقيدات ومعادلات التوازن المتعلقة بالمفاوضات النووية لطهران مع القوى الكبرى؛ حيث إنه مثلما تملك إيران نقاط قوة في هذه التوازنات، تتركز غالبيتها في الشق النووي وتخصيب كميات غير قليلة من اليورانيوم، تُعد ورقة تصدير النفط الإيراني فرصة للقوى الأجنبية المفاوضة وتهديدًا لإيران في الوقت ذاته.
لماذا باتت إيران على وشك التحول من مُصَدِّر إلى مستورد للنفط والغاز؟
خلال السنوات الماضية، كانت الميزانية الاقتصادية لإيران تعتمد في جزء كبير منها على صادرات النفط، ولكن مع فرض الولايات المتحدة لعقوباتها الاقتصادية على طهران منذ عقود، خاصة تلك التي استهدفت قطاع صادرات النفط والغاز، انخفضت العوائد المادية التي كانت تجنيها من ذلك المورد وانخفضت فرص الاستثمار في هذا القطاع أيضًا، على الرغم من أن صناعة النفط كانت لا تزال قائمة وتلعب دورًا إيجابيًا في الاقتصاد آنذاك.
ولكن بمرور الوقت، انخفضت الاستثمارات المحلية والدولية على وجه الخصوص في مجال الطاقة الإيراني سواء النفطي أو الغازي، خاصة مع التوتر الشديد في العلاقات الأمريكية الإيرانية إبان عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قام تباعًا بفرض حزم قاسية من العقوبات على طهران. إن عدم توافر رؤوس الأموال للاستثمار والعمل في مجال الطاقة أدى إلى توقف الكثير من عمليات استخراج وإنتاج النفط والغاز داخل إيران، وذلك إلى الحد الذي جعل جواد أوجي يتوقع تحول بلاده إلى مستورد للطاقة خلال سنوات قليلة مقبلة، ما لم يتم ضخ استثمارات ضخمة جديدة في قطاع الطاقة الإيراني.
وعلى الرغم من تفاقم العقوبات في عهد ترامب، إلا أنه من غير الصواب القول إن توقف الاستثمارات في قطاع الطاقة الإيراني قد بدأ خلال عهد الأخير؛ لأنه يعود إلى أكثر من 20 عامًا مضت. ما حدث هو أن هذا التوقف قد بلغ ذروته في عهد ترامب. وكان من بين تداعيات هذه الأزمة تدريجيًا بمرور الوقت عدم التمكن من استخدام تكنولوجيا أكثر حداثة في مجال الطاقة في الوقت الذي تمتعت فيه الدول المجاورة المصدرة للنفط أيضاً بمستوى عالٍ من التكنولوجيا المتقدمة في هذا الصدد.
لقد أدى هذا التوقف التدريجي في الاستثمار داخل قطاع الطاقة إلى عدم قدرة الدولة الإيرانية على إنتاج النفط والغاز أنفسهما، وهو ما دعى المدير التنفيذي لشركة النفط الإيرانية الوطنية “محسن خجسته مهر” إلى التحذير مؤخرًا من أن عدم توافر الاستثمار اللازم في قطاع الطاقة الإيراني، النفط والغاز، يعني أن بلاده سوف تتحول بعد 4 سنواتٍ فقط من الآن إلى دولة مستوردة للطاقة.
ولعل أحدالمؤشرات الحالية المتعلقة بتحول إيران من بلد مُصدر إلى مستورد للنفط، هو سعي الحكومة الإيرانية في الوقت الراهن إلى تعويض النقص في الوقود من خلال إبرام اتفاقيات مع دولة تركمانستان بغرض استيراد الغاز الطبيعي.
كل الطرق تؤدي إلى فيينا .. هل تتحول إيران إلى مستورد للنفط والغاز؟
على الرغم من أن الحالة الاستثمارية في قطاع النفط والغاز الإيراني غير جيدة في الوقت الحالي، إلا أنه بالنظر إلى المستقبل القريب سنجد أن هذا الوضع من الممكن أن يتغير للأفضل، وذلك للعديد من العوامل التي يجيء على رأسها:
– احتمالية عودة الاستثمار الأوروبي والأمريكي إلى سوق الطاقة الإيراني:
وهذا الاحتمال قائمٌ في ظل ترجيحٍ قويٍّ لاستئناف المفاوضات النووية قريبًا، خاصة بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي وإيران مؤخرًا عن نيتهما العودة لطاولة المفاوضات في النمسا يوم 29 نوفمبر الجاري؛ استكمالاً للجولة السابعة من ماراثون المفاوضات النووية التي انتهت جولتها السادسة في يونيو الماضي قبل وصول إبراهيم رئيسي إلى سُدة الرئاسة.
إذ إنه من البديهي أن تفرج الولايات المتحدة وغيرها عن بعض، أو كثير من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، وهو ما تحتاجه طهران لاستئناف العمل في سوق الطاقة كما سبق إيضاحه. كما أنه وعلى المنوال ذاته الذي سارت عليه التطورات بعد التوصل إلى الاتفاق النووي في عام 2015، فإن عودة الشركات الأوروبية الكبرى، مثل “توتال” الفرنسية و”بي بي” البريطانية، ستكون متوقعة حال نجاح المفاوضات النووية في العاصمة فيينا، ما يعني عودة المسار التصاعدي لإنتاج وتصدير النفط الإيراني إلى سابق عهده.
– الاتفاقية الإيرانية – الصينية طويلة الأمد:
وقعت إيران مع جمهورية الصين الشعبية في 27 مارس 2021 اتفاقية شاملة طويلة الأمد تتضمن تعاونًا استراتيجيًا في مجالات شتى ما بين الاقتصاد والأمور العسكرية والأمنية والطاقة. وتبلغ المدة الزمنية لهذه الاتفاقية 25 عامًا، وتتمحور بالأساس حول دعم بكين للاقتصاد الإيراني بحوالي 400 مليار دولار أمريكي مقابل منح طهران امتيازات نفطية واسعة للصين.
إن هذه الاتفاقية إلى جانب أنها سوف تقلل من تبعات العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران من حيث تضاؤل حجم الصادرات النفطية، فإنها لن تجعل إيران بحاجة إلى استثمارات خارجية واسعة بالأساس من دول أخرى غير الصين، إذ إن أهم بنود هذه الاتفاقية بين البلدين تركز على الجوانب الاقتصادية وعلى وجه الخصوص قطاع النفط.
وعليه، فإنه في حال دخول هذه الاتفاقية دائرة التنفيذ، سيعاود إنتاج النفط الإيراني الصعود مرة أخرى مثلما كان عليه قبل ذلك، وهو تطور تسبقه حتمًا استثمارات كبرى في إيران في مجالات استخراجه وتحويله وتصديره إلى الصين.
– دخول دول أخرى على خط التعاون في قطاع الطاقة مع إيران:
وهو أمرٌ قد بدأ يتبلور مؤخرًا بعدما أعلن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن عزم بلاده توقيع اتفاقية أخرى طويلة المدى، ولكن هذه المرة مع فنزويلا لمدة 20 عامًا خلال زيارة مستقبلية مرتقبة للرئيس نيكولاس مادورو قريبًا. فإلى جانب الاتفاقية المذكورة آنفًا مع الصين، وقعت طهران في الماضي اتفاقية مع روسيا تبلغ مدتها 20 عامًا وأخرى مع الهند عام 2018.
يعني هذا أن تشكيل “تحالف”، مجازًا، اقتصادي للدول المعادية بالأساس لواشنطن بين هذه الكتل في طريقه إلى التشكل، خاصة وأنها جميعًا، باستثناء الهند، تجمعها مواقف عدائية متشابهة إزاء الولايات المتحدة. وتنص الاتفاقات الاقتصادية بين هذه الدول وإيران على التعاون في مجالات عدة وعلى رأسها الطاقة.
الاستنتاج
بعد استعراض النقاط الأخيرة الخاصة بإمكان حدوث تغيير في الموقف الحالي بشأن صعود ملف الطاقة مجددًا في إيران، يمكن القول إن تطورات مثل التوصل إلى إعادة صياغة الاتفاق النووي من جديد في فيينا، والاتفاقات الإيرانية الموقعة مع عدة بلدان، خاصة الصين، يمكنها أن تعوض في المستقبل النقص والأزمة الحالية في سوق الطاقة الإيراني محليًا، بمعنى عدم استيراد طهران للنفط والغاز، وإن كانت هذه التطورات نفسها تخضع لتقديرات متفاوتة.
أي أن العودة للاتفاق النووي نفسه لا تزال أمرًا غير مؤكد، فضلاً عن أن تحقيق إيران مكاسب اقتصادية من ورائه لا يمكن التيقن منه، ناهيك عن حجم هذه المكاسب نفسها. وبالنسبة للاتفاقية الصينية، فإن تنفيذها على أرض الواقع وبالآفاق المنصوص عليها في بنودها لم يبدأ حتى الآن، ما يجعل استفادة إيران اقتصاديًا من ورائها وبالقدر المتوقع غير مؤكد هو الآخر.
إذًا، سيصبح الطريق الأكثر ترجيحًا وضمانًا أمام إيران من أجل الخروج من الوضع الحالي في سوق الطاقة محليًا ودوليًا أيضًا هو المشاركة بفعالية في المفاوضات النووية مع القوى الكبرى من أجل إنجاحها وحصد أكبر قدرٍ من المكاسب الاقتصادية الناتجة عنها. حيث إن هذا النجاح سيتيح لطهران بيع النفط بسهولة دوليًا، بعد جذب استثمارات أوروبية وأمريكية خارجية كبرى إلى السوق المحلي.
باحث بالمرصد المصري