
د. محمد فايز فرحات يكتب: النموذج المصري في التنمية
جاءت عملية التنمية في آسيا عبر موجات متتالية، لكن ظلت هناك تمايزات عديدة بين كل حالة وأخرى، فأصبح هناك حديث عن النموذج الياباني، والنموذج الكوري، والنموذج الصيني، وآخر هندي.. إلخ. عملية التأصيل لكل نموذج من هذه النماذج جاءت عبر دراسة للسياسات والملامح الأساسية لكل حالة من هذه الحالات، خاصة طبيعة وحجم دور الدولة، والعلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، والأوزان النسبية لمختلف المؤسسات المحلية، وطبيعة القطاعات الاقتصادية التي اعتمدت عليها عملية التنمية والنمو الاقتصادي، ومصادر تمويل التنمية، والسياسات التوزيعية، والعلاقة مع الاقتصاد العالمي، والأوزان النسبية لمختلف الأقاليم داخل عملية التنمية، وغيرها من المداخل المختلفة لفهم التجربة التنموية.
في هذا السياق، وعقب مرور أكثر من سبع سنوات على بدء تجربة التنمية في مصر، نجحت خلالها في تحقيق العديد من النجاحات، وفقا للعديد من المؤشرات المهمة غير المختلف عليها، ربما بات من الممكن، والضروري أيضا بدء التأصيل لنموذج مصري في التنمية.
لقد بدأت مصر نموذجها التنموي في سياق دولي يختلف جوهريا عن السياق الذي بدأت فيه الدول الآسيوية تجاربها التنموية. لقد كان لهيمنة الحرب الباردة والنظام ثنائي القطبية عامل مشجع لهذه التجارب، وأساس للاستفادة من الدعم الأمريكي والغربي، كان أبرز مظاهره انفتاح الاقتصادات والأسواق الغربية أمام صادرات هذه الاقتصادات الناشئة، وذلك على العكس من النظام أحادي القطبية الذى قام على فرض قيم اقتصاد وآليات السوق على الاقتصادات المحلية والاقتصاد العالمي، فضلا عن تصاعد السياسات التجارية التمييزية. ومع ذلك استطاعت مصر أن تدشن نموذجها التنموي، ليس فقط في ظل التحديات المرتبطة بالنظام العالمي، لكن أضيف إليها أيضا التحديات الضخمة الناشئة من البيئة الأمنية الإقليمية الهشة والمأزومة.
هناك سمات عدة للنموذج المصري للتنمية. السمة الأولى، هي مركزية دور الدولة في عملية التنمية. هذه السمة ليست خصيصة مصرية، لكنها تمثل إحدى نقاط التشابه الأساسية بين النموذج المصري والنماذج الآسيوية السابقة، والتي استندت إلى مفهوم الدولة التنموية. ولا يقوم هذا المفهوم على استبعاد الفاعلين الآخرين، وعلى رأسهم القطاع الخاص، بقدر ما يقوم على اضطلاع الدولة بدور مهم في تحديد أولويات عملية التنمية، وتنسيق أدوار الفاعلين المختلفين بما في ذلك القطاع الخاص، بحيث لا تُترك عملية التنمية لقرارات عشوائية، أو تتم وفقا لأولويات مختلة. كما لا يعنى ذلك تجاهل قواعد وآليات السوق، حيث تهدف الدولة التنموية في هذا السياق إلى تجنب الآثار السلبية للاعتماد المفرط على هذه الآليات بشكل لا يخدم أولويات عملية التنمية. المتابع لمسار النموذج التنموي المصري يلاحظ استناده إلى حد كبير إلى مفهوم الدولة التنموية. هذه السمة تعود في الأغلب إلى قراءة دقيقة للخبرات الآسيوية، كما تعود أيضا إلى قراءة لخبرة العقود الثلاثة السابقة في مصر على عام ٢٠١٤.
السمة الثانية في النموذج المصري هي التنمية المتوازنة، وهى سمة تمثل نقطة تمايز أساسية بين النموذج المصري ومعظم النماذج التنموية الآسيوية التي اعتمدت في المراحل الأولى من عملية التنمية على مفهوم التنمية غير المتوازنة، سواء على المستوى الجغرافي أو القطاعي. على سبيل المثال، ركزت عملية التنمية في الهند على قطاع تكنولوجيا المعلومات، وعلى مناطق جغرافية محددة. الأمر ذاته في حالة الصين، التي اتسمت فيها عملية التنمية بالتركيز الشديد على المناطق الساحلية الشرقية. الافتراض الذى وقف وراء تبنى هذه النماذج لاستراتيجية التنمية غير المتوازنة أنه لا يمكن نشر عملية التنمية في المراحل الأولى -لأسباب عديدة- على مختلف الأقاليم والقطاعات، وأن نجاح التنمية في أقاليم وقطاعات بعينها سوف يجر عملية التنمية في مرحلة تالية إلى أقاليم وقطاعات أخري. لكن عمليا هذا لا يحدث بالضرورة. على سبيل المثال، فقد نتج عن نموذج التنمية الصيني تطور فجوات ضخمة ومركبة بين الشريط الساحلي الشرقي من ناحية، وأقاليم الوسط والغرب من ناحية أخرى، فضلا عن الفجوات الضخمة بين الريف والمدينة سواء بين هذه الأقاليم أو حتى داخل هذه الأقاليم نفسها. وقد تنبه الحزب الشيوعي الصيني لاحقا لهذه المشكلة وبدأ في تصحيحها بعد عدة عقود من بدء عملية التنمية، من خلال إفساح الطريق لأقاليم الوسط والغرب للانفتاح على الأسواق الخارجية.
على العكس من ذلك، تبنت مصر استراتيجية التنمية المتوازنة، سواء كان جغرافيا، وهو ما يتضح في انتشار مشروعات التنمية على مختلف الأقاليم الجغرافية، من سيناء إلى أسوان، أو قطاعيا، إذ لم تنحز عملية التنمية لقطاع اقتصادي بعينه على حساب باقي القطاعات.
انحياز النموذج المصري إلى استراتيجية التنمية المتوازنة يخلق بالتأكيد أعباء ضخمة على عملية التنمية، خاصة الأعباء التمويلية، لكنه يجنبها في الوقت نفسه مشكلات لاحقة تتعلق باتساع فجوة التنمية القائمة فعلا منذ عقود بين الشمال والجنوب، أو بين الريف والحضر، وهى مشكلة لم تعد قابلة للاستمرار أو الدفاع عنها بعد تحولات كبيرة شهدها المجتمع المصري في عامي ٢٠١١، ٢٠١٣، نتج عنها خلق ثورة توقعات كبيرة بشأن عملية التنمية في مصر، وتزايد الأهمية النسبية لمفهوم العدالة الاجتماعية ضمن هذه التوقعات. ويفسر ذلك الأولوية الكبيرة التي يعطيها النموذج المصري للمفهوم الشامل لحقوق الإنسان، وهو ما يمثل بدوره سمة ثالثة مهمة لهذا النموذج تميزه عن غيره من النماذج التنموية التي سبقته.
نقلا عن صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر اليوم الأربعاء 13 أكتوبر الجاري
مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية


