
شرطة حديثة
لا يخفى على أحد عملية التنمية والتحديث التي تجري على كل شبر في أرض مصر، في مختلف القطاعات والمؤسسات والأقاليم. أي عملية تحديث تحتاج إلى عدد من الشروط، بدءًا من التمويل، ووجود الكوادر البشرية التي تقود تلك العملية، ووجود كتلة بشرية تقف وراء عملية التحديث تؤمن بها وتدافع عنها، وغيرها من الشروط. ويمكن أن نتخيل هنا حجم المشكلات التي قد تواجهها عملية تحديث مؤسسة ما، خاصة المؤسسات الكبيرة، ليس فقط العقبات التي قد تأتي من خارج المؤسسة (بيئتها الخارجية) لكن -وذلك هو الأهم- تلك التي قد تأتي من داخل المؤسسة نفسها. مما قد يؤدي في الأغلب إلى فشل عملية التحديث أو تفريغها من مضمونها.
إحدى المؤسسات المهمة التي تشهد تحديثًا لا يمكن إنكاره هي مؤسسة الشرطة المصرية. مظاهر عدة لهذا التحديث لمسها معظمنا خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة المتعلقة بقطاع خدمات الأحوال المدنية والمرور. لكن في الحقيقة أن عملية التحديث أعمق بكثير من هذه المظاهر. تحت عنوان “دور وزارة الداخلية في إنفاذ محددات الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، نظم مركز بحوث الشرطة (9 فبراير 2022) ندوة مهمة، شرف مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالمشاركة في أعمالها. الندوة كانت مناسبة كاشفة عن عمق التحولات وعملية التحديث التي تجري داخل مؤسسة الشرطة المصرية.
عدد من الملاحظات المهمة يمكن طرحها في هذا السياق:
أولاها: التفاعل السريع لمؤسسة الشرطة مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، من خلال محاولة الإجابة عن سؤال طُرح على جميع المشاركين في الندوة وورش العمل التي سبقتها: ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الشرطة في تنفيذ هذه الاستراتيجية؟ قدم أبناء مؤسسة الشرطة رؤيتهم في هذا المجال، لكن المهم هو فتح المجال أمام مساهمين من خارج المؤسسة لطرح رؤاهم ومساهماتهم، فكانت هناك رؤى من جانب رجال القضاء والقانون، والجامعات، والبرلمان، ووزارة الخارجية، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، والمجلس القومي للمرأة، ومراكز الفكر.. إلخ.
الملاحظة المهمة التي يجب تسجيلها هنا هي انفتاح مؤسسة الشرطة على جميع الشركاء والأطراف ذات الصلة، وأنها لا ترى في نفسها مالكًا للحقيقة وحدها. هذا السلوك يعكس تحولًا عميقا في دور وإدراك المؤسسة لنفسها ولعلاقاتها بباقي المؤسسات. هذا لا يعني أن تأقلم مؤسسة الشرطة مع معايير حقوق الإنسان جاء فقط مع الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية؛ إذ إنه يعود إلى ما قبل ذلك، على نحو ما عكسه تأسيس قطاع حقوق الإنسان داخل الوزارة سنة 2012. لكن صدور الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان استتبعه طرح سؤال مهم أمام كل مؤسسات الدولة حول الدور الذي يمكن أن تقوم به في تنفيذ هذه الاستراتيجية، خاصة أنها صدرت من أعلى سلطة سياسية ممثلة في رئيس الدولة.
ثانيتها: هناك تحول كبير في اللغة المستخدمة من جانب مؤسسة الشرطة وقياداتها. التحول في اللغة ينصرف هنا إلى مستويين مهمين: المستوى الأول، هو المفردات المستخدمة من جانب قيادات وكوادر المؤسسة، وهي لغة يغلب عليها الطابع العلمي، وهو تحول يرتبط بتفاعل واشتباك المؤسسة مع التطورات الجارية ليس فقط في العلوم الأمنية التي تمثل الحقل المعرفي الأساسي للعاملين بها، ولكنه تطور جاء نتيجة انفتاح المؤسسة على المعارف العلمية الحديثة ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بمجالات عملها، خاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والقانون الدولي، والعلاقات الدولية، والدراسات الديموغرافية…إلخ.
المستوى الثاني، يتعلق بمراجعة المؤسسة الكثير من المفردات المستخدمة ذات الدلالة، وهي مراجعات لا تقف عند حد تغيير المفردات بقدر ما تعكس تغيرًا هيكليًا في فلسفة عمل المؤسسة وطبيعة دورها داخل المجتمع وعلاقتها به. من ذلك، على سبيل المثال، استخدام مفهوم النزيل بدلًا من السجين، وقطاع الحماية المجتمعية بدلًا من قطاع السجون، وهي مفردات تعكس تحولًا ضخمًا في مفهوم وفلسفة العقاب، وهو ما استتبعه بالضرورة الانتقال من الشكل القديم للسجون إلى نمط حديث للمؤسسات العقابية.
ثالثتها: تأكيد أن العلاقة بين الشرطة، كمؤسسة وظيفية، من ناحية، وباقي الفاعلين الآخرين داخل المجتمع، من ناحية أخرى، بدءًا من المواطن الفرد وانتهاء بالفاعلين غير الرسميين ومرورًا بباقي المؤسسات الرسمية، هي علاقة تكامل وتوزيع أدوار، ما يعني غياب أي علاقات رأسية، أو فوقية أو علاقة وصاية، بين الشرطة وباقي الفاعلين داخل المجتمع. مثل هذه التحولات، وغيرها، تعكس قدرة كبيرة من جانب مؤسسة الشرطة على التحديث الذاتي، وقدرة كبيرة لدى قيادتها وكوادرها على الانفتاح على العلوم الحديثة.
كما سبق القول، الكثير من المؤسسات قد تفشل في إجراء عملية التحديث المخططة، ليس بسبب غياب التمويل، أو عدم القدرة على الانفتاح على التكنولوجيات الجديدة، أو عدم امتلاكها رؤية محددة وواضحة للتحديث، لكن قد يحدث هذا بسبب مقاومة كوادر المؤسسة نفسها لمشروع التحديث، لكن ذلك لم يحدث في حالة الشرطة المصرية.
عملية التحديث الجارية تجري بتناغم شديد بين الكوادر ومختلف الأجيال. غالبا، يرتبط التحول والتحديث بالأجيال الجديدة، بينما تبدي الأجيال الأكبر درجة من المقاومة أو الممانعة النسبية في التأقلم مع عمليات التحول والتحديث، لكن هذا لم يحدث أيضًا في حالة الشرطة المصرية؛ فقد كان واضحًا خلال أعمال الندوة قدرة القيادات العليا نفسها على استخدام اللغة الحديثة، بل والدفاع عن عملية التحديث الجارية بكل أبعادها.
عملية التحديث الجارية بمؤسسة الشرطة ليست الأولى بالتأكيد لكنها الأعمق. كما أن التحولات الناجمة عنها ستكون أكثر وضوحًا خلال الأجيال القادمة بالنظر إلى عملية التحديث والمراجعة الموازية التي تجري للمقررات والمناهج العلمية داخل المؤسسات التعليمية الشرطية المصرية، والتي تقوم عليها قيادات تؤمن بعملية التحديث تلك.
تحية تقدير واحترام لهذه المؤسسة الوطنية العريقة.
مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية