
عبد الفتاح الجبالي يكتب : التنمية البشرية من الحماية إلى التمكين (3)
من المتفق عليه أن السياسات الملائمة للنمو الإقتصادى طويل الأجل، هى تلك التى ترتبط بتحسين توزيع العوائد الإقتصادية على كافة قطاعات وفئات المجتمع.وذلك إنطلاقا من كون السياسة الإقتصادية يجب أن تظل فى خدمة الأفراد والمجتمع. فرفع معدلات النمو وحدها ليست كافية لإنتشال الفقراء ومحدودى الدخل، إذ يجب أن يكون نموا مواليا للفقراء وموسعا لقدرتهم وفرصهم وخيارات حياتهم، أى ضرورة العمل على إزالة أسباب الفقر، جنبا إلى جنب مع التخفيف من آثاره على المدى القصير، وذلك فى إطار يهدف إلى توفير السلع الأساسية والضرورية للمواطنين، خاصة لمحدودى الدخل، بأسعار فى متناول أيديهم.مع إدراك أن الجدل العقيم، حول حتمية تعارض هدفى النمو السريع وإعتبارات العدالة، قد إنتهى تماما إذ يقدم التاريخ الإقتصادى الحديث، العديد من الدلائل على إمكانية تحقيق هذين الهدفين فى آن واحد. وهى مسألة ليست إجتماعية فحسب، بل هى إقتصادية بالأساس، من هنا تم الأخذ بمفهوم التنمية الإحتوائية. من هذا المنطلق تأتى أهمية الحديث عن الحماية الإجتماعية وعقد إجتماعى أكثر شمولا وتمكينا فى مصر، كما جاء فى الفصل الثالث من تقرير التنمية البشرية فى مصر 2021 والذى جاء تحت عنوان التنمية حق للجميع: مصر المسيرة والمسار والذى إنطلق من ضرورة التحول فى توجه الحماية الإجتماعية من التوجه الإغاثى الذى يقتصر على مساعدة الفئات الأكثر إحتياجا فى المجتمع إلى التوجه الحقوقى الذى يرى أن الحماية الإجتماعية جزء لا يتجزأ من الحق فى التنمية.وتقوم على أسس عديدة منها التمكين وهو المتعلق بتمكين الفئات الأكثر إحتياجا من الإنخراط فى سوق العمل النشط والسعى إلى شمولهم بمظلة الحماية الإجتماعية والتأمين الصحي. وكذلك الشمول والتغطية والإنصاف والحوكمة.ولذلك تم تعديل الفلسفة التى تعمل بها شبكات الأمان الإجتماعى لضمان صحة الإستهداف حتى تذهب التحويلات النقدية والعينية إلى مستحقيها، وكذلك إعتبار التمكين مكونا أساسيا فى هذه البرامج، والشمول لجميع الفئات الأكثر إحتياجا مع التركيز على المناطق الجغرافية الأكثر فقرا، مع ربط هذه البرامج بسوق العمل النشط عبر شراكات مع الجهات المعنية، سواء الحكومية أو المجتمع المدنى أو القطاع الخاص. جنبا إلى جنب مع توسيع نطاق الحماية الإجتماعية عبر السياسات العامة فى الصحة والتعليم والإسكان والتشغيل. وهناك العديد من البرامج فى هذه المجالات مثل برامج الرعاية الصحية لغير القادرين وبرامج تطوير العشوائيات والمناطق غير الآمنة، وبرامج الرعاية للعمالة غير المنتظمة. ولذلك بلغ عدد المستفيدين من الدعم النقدى عام 2020 نحو 3.8 مليون أسرة وارتفع الإنفاق على هذه البرامج من 3.6 مليار جنيه عام 2012 إلى 18.5 مليار عام 2019/2020. فى هذا السياق يشير التقرير إلى ضرورة العمل على توحيد الإطار القانونى المنظم للتحويلات النقدية كلها، سواء الضمان الإجتماعى أو تكافل وكرامة وكذلك كل ما يجرى تحويله للفئات الأخرى، حيث يتيح هذا التوحيد رؤية أكثر إتساعا لشبكة الأمان الإجتماعى. كما يتطلب وجود مؤشرات للمتابعة الدورية، مع مراعاة التنسيق بين هذه البرامج وبعضها البعض. حيث يفترض أن الإنخراط فى بعض هذه البرامج يؤدى إلى الخروج من قواعد المستفيدين من الدعم النقدى وهذا لايمكن تحقيقه إلا إذا كانت فرص العمل التى توفرها هذه البرامج تتمتع بالإستمرارية وتضمن دخلا كافيا والتمتع بالحماية الإجتماعية سواء تأمينات إجتماعية أو تأمينا صحيا.
ولكى تؤتى هذه السياسة ثمارها فلابد من توفير قواعد للبيانات وتوحيدها فى جميع مكونات المنظومة مما يؤدى إلى التغلب على التجزئة والتداخل بين البرامج المتعددة وتحسين فاعلية الإستهداف. وهو ما يتطلب الإصلاح المؤسسى والإدارى للمنظومة ككل، وإيجاد أجهزة إدارية ذات كفاءة وفعالية. جنبا إلى جنب مع ضمان التنسيق مع الجهات غير الحكومية التى تقوم بأدوار إجتماعية وتأسيس شراكة مؤسسية بينهما. وكلها أمور تشير إلى ضرورة إجراء تغييرات فى مجموعة العلاقات الإقتصادية والإجتماعية بين المواطنين والدولة والبحث عن نموذج تنموى يتلاءم مع الواقع الجديد، ويبنى على الثقة والإحتواء والشفافية والمساءلة. ويتعامل بصورة أفضل مع المرحلة الجديدة القائمة على الإقتصاد الرقمى والتكنولوجيا ويشجع الإبداع والإبتكار ويساعد على توفير فرص عمل جيدة للداخلين إلى سوق العمل، ويجعل النمو أكثر احتواء لكل الشرائح الإجتماعية، وقادرا على الإستدامة. وهى بعبارة أخرى صياغة عقد إجتماعى جديد بين المجتمع والحكومة يقوم على الشرعية والعدالة والنفع للجميع ومضمون بالقوة العامة والسلطة العليا، كما ذكر جان جاك روسو فى كتابه العقد الإجتماعى. وتأتى أهمية هذه المسألة فى ضوء ما أشار إليه المفكر الاقتصادى الهندى والحائز على جائزة نوبل أمارتيا صن فى كتابه المعنون «التنمية حرية» إلى أن التنمية هى عملية توسيع فى الحريات الحقيقية للناس وبالتالى فهى ليست فقط نموا فى الناتج أو زيادة فى الدخول، ولكنها بالأساس توسيع نطاق الحريات التى يتمتع بها الأفراد والحقوق السياسية والمدنية وحق التعبير والإختيار جنبا إلى جنب مع الحقوق الإقتصادية والإجتماعية. ولذلك ينبغى أن يقوم العقد الإجتماعى الجديد على دور أكبر للدولة خاصة فيما يتعلق بتعزيز النمو وتحقيق العدالة الإجتماعية، بإستخدام أدوات السياسة المالية وذلك لكونها القادرة على إحداث فروق كبيرة فى معالجة عدم المساواة. وأصبح الإنفاق العام يلعب دورا أكبر عن ذى قبل فى تعزيز النمو الإحتوائى والمستدام وأصبح ينظَر إليه بإعتباره أداة فعالة لتشجيع النمو الإحتوائى وتحقيق الإستقرار الإقتصادى. كما أن الإنفاق العام على الصحة والتعليم يسهم مباشرة فى تحسين نوعية الحياة ويؤدى إلى جودة النمو، ويزيد من رأس المال البشرى وبالتالى يعد بمثابة إستثمار قومى جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول.
نقلا عن صحيفة الأهرام


