
الشفــافيــة ومكافحــة الفســاد
“إن الفساد يشكل إحدى العقبات أمام تحقيق التنمية المستدامة، بوصفه ظاهرة متعددة الأبعاد؛ تقوض النمو، وتعيق تحقيق جودة الحياة، وتؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر، وضعف الثقة في المؤسسات العامة، وتوثر سلبيًا على حقوق الإنسان”. جاءت هذه الكلمات على لسان د. مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، في كلمته أثناء تسلم مصر رئاسة الدورة التاسعة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وذلك في سياق الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد، الذي يوافق التاسع من ديسمبر من كل عام؛ إذ يواكب هذا اليوم تاريخ التوقيع على الاتفاقية عام 2003، والتي دخلت حيز التنفيذ في 2005.
وهكذا تحولت هذه القضية من هاجس وطني داخلي إلى قضية عالمية ودولية. خاصة بعد أن دخلت الاتفاقية مرحلة جديدة عقب مؤتمر الدوحة (نوفمبر 2009) والذي أنشأ آلية مراجعة التنفيذ، والتي اعتمدت مراقبة الدول لبعضها البعض لمدى الالتزام بتطبيق الاتفاقية. خاصة أنها آلية حكومية، وبالتالي لن يترتب عليها أي درجات من الترتيب التصنيفي للدول، مثلما يتم في بعض المؤسسات الدولية مثل تقرير منظمة الشفافية الدولية.
وبهذه الآلية، تكون الدول قد انتقلت نقلة موضوعية نحو جعل مكافحة الفساد جزءًا لا يتجزأ من سياستها الداخلية، وبالتالي الانتقال من ثقافة قبول الفساد إلى ثقافة مغايرة تنبذ الفساد وتدينه. وهي مرحلة شاقة وطويلة تقوم على الارتقاء بمستوى الوعي العام عن طريق التوعية المستمرة ووضع مناهج تدريبية وتعليمية، مع تنقية القوانين المحلية مما يعوق هذه العملية.
في هذا السياق نفذت مصر مجموعة من السياسات والإجراءات لتحقيق ما تصبو إليه الاتفاقية من أهداف، فقد حرص المشرّع المصري منذ البداية على مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية مع الحد من إمكانية تعارض المصالح أو وقوع تحالف غير مأمون بين المصالح المادية الشخصية واستغلال المناصب. وذلك عبر النصوص الحادة والواضحة في الأطر التشريعية المعمول بها. ويأتي على رأسها دستور2014 خاصة المواد (27 و68 و109 و145و166 و218)، وكذلك أفرد الفصل الحادي عشر للجهات المستقلة والأجهزة الرقابية.
ولذلك شهد المجتمع المصري العديد من الجهود الخاصة بزيادة الشفافية، وأهمها «شفافية الموازنة»؛ فأدخلت العديد من التعديلات الدستورية لتمكين البرلمان من المشاركة في تحديد أولويات الموازنة والرقابة الفاعلة عليها، وأرست حقه في تعديل الموازنة العامة وفقًا لضوابط تتيح التوازن بين تفعيل المساءلة البرلمانية للحكومة وحق البرلمان في إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام بصورة أفضل من ناحية، وبين تحقيق الرشادة الاقتصادية والمحافظة على التوازن المالي العام من ناحية أخرى. وقد أسفرت تلك التعديلات والإجراءات عن عدة نتائج إيجابية فيما يتعلق بشفافية الموازنة.
وعلى الجانب الآخر توسعت الحكومة في تقديم الخدمات إلكترونيًا؛ وذلك بغية الحد من العلاقة الشخصية بين مقدم الخدمة الحكومية ومتلقي هذه الخدمة، بوصفها إحدى الأدوات الفاعلة في هذا المجال. لهذا بدأت تنتشر فكرة الحكومة الإلكترونية القائمة على استخدام الوسائط التكنولوجية في تقديم الخدمات الحكومية ذات الصلة، واستخدامها في كل الأنشطة الحكومية وتبادل المعلومات بين الجهات الحكومية وبعضها البعض، الأمر الذي من شأنه زيادة الكفاءة والشفافية في المعاملات الحكومية. وكذلك يساعد على خفض تكلفة هذه المعاملات على المواطنين والمؤسسات وغيرهم، ولكن مازالت هذه المسألة تحتاج إلى المزيد من التوعية للجمهور وكل المتعاملين.
يضاف إلى ما سبق تطبيق قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 الذي يقوم على فلسفة جديدة ومغايرة تماما للفلسفة التي كانت قائمة، ويهدف إلى إيجاد جهاز إداري كفء وفعال يتسم بالشفافية والعدالة ويخضع للمساءلة، ويعنى برضاء المواطن ويحقق الأهداف التنموية للبلاد، عن طريق تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وإتاحة الخدمات العامة بعدالة وجودة عالية، مستندًا إلى مبادئ الحوكمة الرشيدة كأساس لنظام العمل. وقد تضمن القانون الكثير من المبادئ التي تحقق الأهداف سالفة الذكر وتقضي على الفساد، وترسخ آليات الموارد البشرية الحديثة.
وفى إطار إرساء مبدأ الشفافية والنزاهة في الجهاز الحكومي وترشيد الإنفاق الحكومي صدر قانون تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة الصادر بالقانون رقم 182 لسنة 2018 والذي أخذ بفلسفة جديدة تستند إليها نظم المشتريات الحكومية وتحقق الكفاءة الاقتصادية وتبسيط الإجراءات وتعظيم العائد من الإنفاق العام، وكذلك تفعيل قدرات وطاقات العنصر البشرى، وإعادة تأهيل وتدريب الفئات والأجهزة المرتبطة بها؛ بما يساعد على الحد من الفساد في هذه العملية وتوسيع قاعدة المنافسة وتدعيمها.
وكذلك، ألزم الجهات المختلفة بنشر كراسات الشروط والمواصفات الخاصة بالمناقصات والمزايدات التي تقوم بطرحها على البوابة الحكومية إلكترونيًا، وكذلك كل ما يطرأ من تعديلات، وهو ما يرسي آلية للمتابعة والرقابة في هذا المجال يلعب فيها المجتمع المدني دور الرقيب من خلال نشر قرارات التعاقد والترسية.
وعلى الرغم من هذه الجهود فإن هناك العديد من المجالات التي ينبغي العمل فيها، بعضها يتعلق بالأوضاع الحالية والبعض يتطلب إدخال تشريعات جديدة في المجتمع. يأتي على رأسها تدعيم الأطر المؤسسية الناظمة لآليات السوق وتمكن المواطن من التعامل السليم مع الأجهزة الحكومية ومساءلتها ومحاسبتها، وتعزيز الحكم الديمقراطي الرشيد في الحياة الاقتصادية. والإسراع بإصدار قانون جديد للمعلومات يتيح الفرصة كاملة للحصول على البيانات والمعلومات الصحيحة مع مراعاة التوازن الدقيق بين حرية تداول المعلومات والأمور المرتبطة بالأمن القومي للدولة أو لصون صحة الأفراد وحقوقهم وإنشاء آلية قانونية لتنظيم حصول الأفراد على المعلومات. فضلًا عن تفعيل دور المجتمع المدني والأحزاب المصرية وتطويرهما؛ بغية جعلهما قادرين على المشاركة الفعالة في محاربة الفساد والمزيد من الشفافية.