إسرائيل

التيار التقدمي الليبرالي الأمريكي.. هل يُفاقم “أزمة الثقة” بين إسرائيل وواشنطن ؟

قبل أيام، شَهِد مجلس النواب الأمريكي، في حدثٍ استثنائي، جدلاً حول المنظومة الدفاعية لإسرائيل “القبة الحديدية”، حيث سحب أعضاء ديمقراطيون في المجلس تمويلاً عسكريا بقيمة مليار دولار لإسرائيل من مشروع قانون لتمويل الحكومة الأمريكية بعد اعتراضات من الليبراليين التقدميين.
ا‎جبر الخلاف؛ لجنة القواعد في مجلس النواب على التأجيل لفترة وجيزة قبل أن يتعهد قادة لجنة المخصصات بإدراج تمويل النظام الإسرائيلي في مشروع قانون للإنفاق الدفاعي في وقت لاحق؛ وبالفعل، بعد يوم واحد فقط، تم الموافقة على تشريع منفصل داخل المجلس يقضي بتخصيص مليار دولار لمساعدة إسرائيل في صيانة منظومة “القبة الحديدية” الدفاعية، وقد أيد مجلس النواب الأمريكي التشريع بواقع 360 صوتا مقابل اعتراض 8.
وجاء اعتراض بعض الليبراليين التقدميين على سياسة تمويل المنظومة الدفاعية لإسرائيل هذا العام، مستشهدين بسقوط ضحايا فلسطينيين عندما ردت إسرائيل على الهجمات الصاروخية التي شنتها حركة حماس الفلسطينية في الحرب الرابعة على قطاع غزة، وقالت إسرائيل إن معظم الصواريخ التي أطلقت من غزة خلال الحرب، تم اعتراضها وتدميرها في الجو بواسطة نظام القبة الحديدية.
في سياق آخر، ثار الحديث حول اعتزام 20  عضواً من الكونغرس الأمريكي عن الحزب الديمقراطي، تقديم اقتراحاً تشريعيًا إلى مجلس النواب يدعو إلى أن يكون حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني سياسة رسمية أمريكية. وحال تم تمرير القانون، سيعد ذلك اعترافاً رسمياً بأن الصفة الغربية و قطاع غزة والقدس، هي أراضي محتلة، وبالتالي فإن بناء المستوطنات فيها مخالفاً للقانون الدولي.
بالنظر لما سبق، يمكن التنبؤ أن تؤدي الخطوات التي ينتهجها التيار التقدمي الليبرالي إلى توسيع الفجوة في علاقة إسرائيل بإدارة بايدن، كما تشير تلك التحركات إلى تزايد نبرة التعاطف داخل الحزب الديمقراطي تجاه الفلسطينيين، والسعي نحو اتخاذ إجراءات هدفها حل الصراع بالتزامن مع استنكار الممارسات الإسرائيلية. ويبقى السؤال الآن، هل يدفع توجه الديمقراطيين إزاء إسرائيل بتعزيز أزمة الثقة بين إسرائيل و الإدارة الأمريكية؟

الخلفيات والأبعاد

في أعقاب الحرب الرابعة على قطاع غزة، تزايدت معارضة العديد من المشرعين الديمقراطيين من التيار التقدمي الليبرالي – وهو إحدى التيارين الرئيسيين داخل الحزب الديمقراطي، وهما تيار يسار الوسط الذي يمثله الرئيس الحالي جو بايدن، والتيار التقدمي وأبرز رموزه هو السيناتور بيرني ساندرز- لسياسات الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل، وعمل هؤلاء خلال الأشهر الأخيرة على وضع شروط على المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل. وعلى خلفية ذلك، تم اتخاذ القرار إلغاء البند الخاص بتمويل منظومة القبة الحديدية، بعد أن دعمته مجموعة من أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونجرس الأميركي، بقيادة النواب ألكساندريا كورتيز ورشيدة طليب وإلهان عمر وأيانا بريسلي وبراميلا جايابال، حيث رفضوا إقرار تمويل القبة الحديدية، لأنها تستخدم كسلاح يحمي الاحتلال الإسرائيلي ويشجع على تخليده، وذلك على الرغم من تأكيد بايدن المتكرر على الالتزامات الأمنية الأميركية تجاه إسرائيل.
وعلى الرغم من دعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري للسياسات التقليدية والتاريخية للولايات المتحدة التي تشدد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ التنظيمات الفلسطينية، إلا أن العديد من التغييرات خلال السنوات الأخيرة دفعت إلى تراجع دعم الحزب الديمقراطي لإسرائيل، في مقابل تزايد الدعم للفلسطينيين، لاسيما بعد تماهي رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مع الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وسياساته التي كانت تلقى معارضة قوية داخل الحزب الديمقراطي، وكذلك مع الحزب الجمهوري، في الوقت الذي ازداد فيه الانقسام الحزبي والسياسي بصورة كبيرة داخل الولايات المتحدة خلال الإدارة الأمريكية السابقة.
وقد ظهرت مقدمات هذا التوجه في العديد من المواقف التي تبناها الديمقراطيين، إذ قدَّم 28 من المشرعين الديمقراطيين بمجلس الشيوخ – أكثر من نصف عدد الأعضاء الديمقراطيين بالمجلس – خطاباً، في يونيو الماضي، يدعون فيه إلى وقف إطلاق النار. وقاد تلك الجهود السيناتور الديمقراطي عن ولاية جورجيا، جون أوسوف، الذي يعد أصغر يهودي أمريكي بالكونجرس؛ وبينما كان الجمهوريون يركزون على مسؤولية حركة حماس عن التصعيد، دعا الديمقراطيون الطرفين إلى وقف العنف، وطالبوا بايدن بالضغط لتحقيق ذلك.
ومؤخراً،  نشرت مجلة “بوليتيكو” الأميركية، معلومات عن مشروع قانون “حل الدولتين” المعني بإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والمقرر طرحه في الكونجرس الأميركي الخميس المقبل، وقالت المجلة، ، إنه في حال وافق الكونجرس على مشروع القانون ووقَع عليه الرئيس الأميركي جو بايدن، فإن السياسة الأميركية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ستقر رسمياً بأن “حل الدولتين فقط هو الذي يضمن بقاء دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية ووطناً قومياً للشعب اليهودي، ويحقق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته”. وأضافت المجلة: “كما ستقر السياسة الأميركية، وفقاً لمشروع القانون، بأن الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وغزة، هي أراضٍ محتلة، ويجب الإشارة إليها على هذا النحو باستمرار في السياسات والوثائق الرسمية للولايات المتحدة، فضلاً عن الإقرار بأن إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتعارض مع القانون الدولي”.
لكن ذلك لا يعني أن هذا التوجه التقدمي داخل الحزب الديمقراطي سيؤثر بشكل كبير على الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل – والذي يُعد مبدأ راسخاً في السياسية الخارجية الأمريكية – إلا أنه يدل على تحولاً في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل وأنها باتت تسير في منحنى الانخفاض، وهو ما يؤثر على علاقة إسرائيل بإدارة بايدن خاصة في ظل وجود اعتراضات من قبل الديمقراطيين حول بعض القضايا مع إسرائيل.

تزايد الانقسام في الحزب الديمقراطي .. يثير قلق إسرائيل

خلال الأشهر الأخيرة، تزايدت الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي بشأن العلاقة مع إسرائيل، وفي أعقاب العدوان على غزة، تباين أعضاء الحزب الديمقراطي بين تيار اعتاد الدفاع عن إسرائيل وتيار يساري صاعد بقوة ينحاز للفلسطينيين. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في مايو الماضي، فإن اشتعال العنف في إسرائيل والأراضي الفلسطينية تسبب في إعادة القضية إلى واجهة السياسة الأميركية، حيث ظهرت الانقسامات بين قيادة الحزب الديمقراطي والجناح الناشط إلى العلن. ففي حين تتعامل إدارة بايدن مع الصراع المتنامي باعتباره تحدياً دبلوماسياً شديد الحساسية يشمل حليفاً قديماً، فإن اليسار الصاعد ينظر إليه على أنه قضية عرقية عادلة تتشابك بشدة مع سياسات الولايات المتحدة. واعتبرت الصحيفة أن الحقوق الفلسطينية والصراع المستمر منذ عقود على الأراضي في الشرق الأوسط يرتبط بأمور مثل وحشية الشرطة وظروف المهاجرين على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك”. 
وفي الشهر نفسه، أصدر ما يقرب من 150 منظمة ليبرالية بارزة بياناً مشتركاً دعا إلى التضامن مع السكان الفلسطينيين وإدانة عنف الدولة الإسرائيلية والتفوّق العرقي في القدس. ومن بين المجموعات التي وقّعت على البيان، جماعات مكرّسة لقضايا مثل تغيّر المناخ والهجرة والنسوية والعدالة العرقية، وهي علامة على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني انتقل بالنسبة إلى الفصيل الليبرالي، إلى ما هو أبعد من السياسة الخارجية.
وفي خضم ذلك، تزايدت المخاوف الإسرائيلية من تأثير هذا التيار على الدعم الأمريكي المقدم لها، وسعت للتقارب مع إدارة بايدن بشتى الطرق، وتم وضع خطط بديلة لاعتماد إسرائيل على ذاتها حال تخلت عنها الإدارة الأمريكية. وقد ساهمت تلك المخاوف في استمرار حالة عدم اليقين لدى القيادات الإسرائيلية فيما يخص قوة الدعم الأمريكي لإسرائيل. وقد برز ذلك فور الإعلان عن سحب الأموال الخاصة بنظام القبة الحديدية للدفاع الجوي الإسرائيلي من مشروع قانون تمويل الحكومة الأمريكي، حيث اشتعل الصراع سريعاً ما بين الحكومة الإسرائيلية، برئاسة نفتالي بنيت ويائير لبيد، وبين المعارضة، برئاسة بنيامين نتنياهو، وألقى لابيد اللوم على الحكومة الإسرائيلية السابقة لما وصفه بالعلاقة المتدهورة مع الديمقراطيين في واشنطن. وقال لابيد: “بعد سنوات أهملت فيها الحكومة السابقة الكونجرس الأمريكي والحزب الديمقراطي، وتسببت في إلحاق ضرر كبير بالعلاقات الإسرائيلية الأمريكية، نحن اليوم نعيد بناء علاقة ثقة مع الكونغرس.”
وارتفعت حدة الاتهامات التي وجهها لابيد لنتنياهو، حيث أشار إلى أن حكومة نتنياهو تعاملت بغطرسة مع حلفائنا في الولايات المتحدة من الحزب الديمقراطي لسنوات طويلة، وأهملت الكونجرس، وهو ما تسبب ذلك بالأضرار التي تجنيها إسرائيل اليوم. مؤكداً أن حكومته تحدث تغييراً جوهرياً في التعامل، وتبني من جديد هذه العلاقات، وتعيد الثقة بيننا وبين الأميركيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
كل ذلك يدل على مدى التذبذب الذي يحيط علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة، ويشير إلى مدى تأثيره في الداخل الإسرائيلي. وعلى الصعيد الآخر، فإن تمسك بايدن بسياسة تدير ظهرها للانتهاكات الإسرائيلية و تغض الطرف عن معاناة الفلسطينيين، ستؤثر على دعمه شخصياً، إذ يمكن أن يتخلى التيار التقدمي عن بايدن في حالة تجاهله لمطالبهم؛ لذلك عليه إثبات تبنيه لسياسة متزنة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أساسها حل الدولتين، وهو القانون الذي من المقرر طرحه، والذي يرجح أن يزيد من حدة المخاوف الإسرائيلية.

تعزيز لأزمة الثقة

 إن ما يشهده الحزب الديمقراطي من شرخ بين قاعدة الحزب والإدارة حول الملف الفلسطيني الإسرائيلي، هو ما يثير قلق داعمي إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي، خاصة في ظل إصرار التيار التقدمي على الضغط لإحداث تغيير في سياسية الحزب تجاه إسرائيل، وهو ما يتجسد في طرح مشروع قانون “حل الدولتين”، والذي يسعى، حسبما ذكر مقدموه إلى ضمان أن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة تتماشى حقًا مع الهدف النهائي المتمثل في حل النزاع مع الالتزام بالأمن وحقوق الإنسان وتقرير المصير لكلا الشعبين، فضلاً عن عدم إضفاء الشرعية على توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية أو تمكينها أو ترسيخ الاحتلال؛ ومن المؤكد أن تثبر تلك الخطوة إسرائيل وتعزز من أزمة الثقة التي تشوب علاقتها بالولايات المتحدة.
فإصدار القانون يأتي بعد محاولة التيار التقدمي عرقلة السماح بتمويل منظومة القبة الحديدية، وهو ما أثار حنق الأقلية الجمهورية، وغضب بعض الديمقراطيين المعتدلين، وإثارة القلق داخل الأوساط الإسرائيلية. وقد جاء بالتزامن مع التعارض بين كلتا الأجندتين، الأمريكية و الإسرائيلية، بشأن بعض القضايا، ومن ضمنها التعامل مع الملف النووي الإيراني، و القضية الفلسطينية، فضلاً عن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وتزامن ذلك مع ذهاب إسرائيل للاعتماد على نفسها في مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة.
جدير بالذكر، أن ما فاقم من أزمة الثقة بين الجانبين، هو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إذ ساهم في زعزعة ثقة إسرائيل في مظلة الحماية الأمريكية، حيث ترك الخروج السريع للقوات الأمريكية من أفغانستان، أثراً عميقاً على التجربة العسكرية الإسرائيلية، من المرجح أن يستمر لفترة طويلة، خاصة في ضوء التنفيذ الفاشل للانسحاب، الذي ترك أثراً سلبياً على صورة الولايات المتحدة كقوى كبرى. وقد ترتب على ذلك زيادة التوصيات الأمنية والعسكرية التي تطالب إسرائيل بمواصلة تطوير وتنمية قدراتها العسكرية الاستراتيجية، مع إعطاء أولوية خاصة للعلاقات الاستراتيجية مع الدول العربية المعتدلة الحليفة التي تتميز بأنظمة مستقرة، ويؤكد كل ذلك أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان شكل نبأ سيئاً لإسرائيل، وقلص من اعتمادها عليها.

الخلاصة، إن الالتزام الأمريكي بالحفاظ على أمن إسرائيل و توفير الدعم غير المشروط لها، هو ركيزة أساسية للعلاقات الإسرائيلية الأمريكية. لكن على الرغم من ذلك، وبالنظر إلى توجه التيار التقدمي الليبرالي داخل الحزب الديمقراطي، وما يمارسه من ضغوط على الإدارة الأمريكية، وتبني سياسة أقل دعما لإسرائيل، يتضح أن هناك تغييراً تشهده الأوساط السياسية الأمريكية، يكمن في تبدل الرؤية للدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل وتزايد التعاطف مع الفلسطينيين داخل الكونجرس، خاصة بعد الحرب الأخيرة على غزة. ويمكن القول أن مجرد الاعتراض على تقديم مساعدات لإسرائيل، والحديث عن طرح قانون “حل الدولتين”، سيؤدي، لا محالة، إلى إثارة التخوفات في الداخل الإسرائيلي، ومن المرجح أن يؤدي إلى إعادة تقييم إسرائيل لمدى تماسك تحالفها مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن، وهو ما سيدفع الحكومة الهشة الحالية برئاسة بينيت، إلى بذل المزيد من الجهد لتقوية العلاقة مع إدارة بايدن والعمل على كسب دعم كلا الحزبين الجمهوري و الديمقراطي بشتى الطرق، وذلك لإدراكها أهمية الحفاظ على متانة العلاقة التي كلما زادت قوتها، ارتفعت قدرة الحكومة الراهنة على الاستمرار و مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

هبة شكري

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى