أفغانستان

بين تصريحات متضاربة ومعارك عنيفة.. مآلات معركة “بنجشير”

تتوالى التطورات على الساحة الأفغانية يومًا بعد يوم، إذ شهد وادي بنجشير معارك عنيفة بين قوات طالبان وجبهة المقاومة الأفغانية التي شكلها أحمد مسعود نجل أحمد شاه مسعود مع عدد من القادة المحليين بعد اجتياح حركة طالبان لأفغانستان في منتصف الشهر الماضي والسيطرة على كافة ولاياتها، وتهدف الحركة من خلال هجماتها إلى السيطرة على الوادي بوصفه آخر الولايات التي لا تخضع لسيطرتها، وأعلنت طالبان سيطرتها على الوادي ولكن سرعان ما تراجعت عن إعلانها مؤكدة سيطرتها على بعض مناطقه فقط، بالتزامن مع نشر أحمد مسعود مقطع فيديو يؤكد استمرار القتال ضد طالبان.

“بنجشير” الوادي الاستراتيجي

يقع وادي بنجشير على مسافة 130 كم شمال شرق العاصمة الأفغانية كابول بالقرب من الحدود الأفغانية الباكستانية، وتبلغ مساحته 3610 كم مربع ويصل عدد سكانه قرابة 173 ألف نسمة غالبتهم من قومية الطاجيك التي ينتمي إليها أحمد مسعود ووالده أحمد شاه مسعود، وهو ما يفسر عدم قدرة حركة طالبان على بناء قاعدة جماهيرية هناك، ويمثل الوادي مدخلاً شماليًا للعاصمة كابول مما يهدد سيطرة طالبان الميدانية على الأمد البعيد.

يمتد الوادي لحوالي 120 كم وتحميه الجبال ذات القمم الشاهقة التي يصل ارتفاع بعضها إلى 3 آلاف متر، وتمثل هذه الجبال والتضاريس الوعرة حواجز طبيعية للوادي تحميه من أي هجوم خارجي مما يجعله موقع عسكري بامتياز، فضلاً عن وجود الكثير من الأنفاق التي كانت ولا تزال تستخدم من قبل قوات جبهة المقاومة، بجانب توفر الغذاء والمياه العذبة نظرًا لوجود 126 واديًا كبيرًا وعشرات الأودية الصغيرة، كل هذه العوامل تؤهل الوادي للصمود أمام الحصار طويل الأمد.

ويعد الوادي مصدر فخر لسكانه نظرًا لصموده أمام الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979 وأمام حركة طالبان بعد سيطرتها على أفغانستان عام 1996، ويعد القائد العسكري أحمد شاه مسعود الذي اغتاله تنظيم القاعدة عام 2001 ولقب بـ”أسد بنجشير” بطلاً قوميًا في نظر السكان لأنه قاد القتال ضد السوفيت وطالبان وانتصر عليهم، وتنتشر صوره في جميع أنحاء الوادي بداية من المعالم الأثرية وحتى المتاجر واللوحات الإعلانية، ويتم إحياء ذكراه في يوم الشهداء الذي يوافق التاسع من سبتمبر في كل عام.

مفاوضات فاشلة

خلال الأسابيع القليلة الماضية جرت لقاءات مباشرة بين ممثلين عن حركة طالبان وجبهة المقاومة الأفغانية، وأشار عبد الحافظ منصور المفاوض من جبهة المقاومة إلى عقد اللقاءات بمدينة شاريكار عاصمة ولاية بروان شمال شرق أفغانستان، موضحًا أن الحركة والجبهة اتفقتا على الحوار لتجنب القتال وإرساء السلام، ولكن التطورات على أرض الواقع تشير إلى عكس ذلك؛ إذ عمد الطرفان إلى حشد قواتهما العسكرية استعدادًا لمعركة محتملة للسيطرة على الوادي.

وفي 25 أغسطس الماضي قال أحمد مسعود في مقابلة مع قناة “RBC” الروسية أنه يمكن للمجتمع الدولي والقوى الإقليمية بما فيها روسيا الضغط على حركة طالبان لإنشاء منطقة عازلة لمن لا يستطيعون مغادرة أفغانستان مشيرًا إلى أن المفاوضات هي الحل الوحيد للسلام في البلاد مع ضرورة  شمول الحكومة التي ستشكلها الحركة تفاديًا لفشل محاولات بناء الدولة، وأعرب مسعود عن أمله أن تكون هناك فرصة لوساطة روسية مع طالبان لمنع تصعيد العنف في ظل المخاوف الأمنية والسياسية، وأضاف إن كلا الطرفين حتى الآن ينتهجان سياسة ضبط النفس ويحاولان إطلاق مفاوضات، بالتزامن مع استعداداتهما للجوء إلى الخيار العسكري إذا فشل الحوار.

مع بداية الشهر الجاري أعلن أمير خان متقي رئيس لجنة الدعوة والتوجيه بحركة طالبان عن فشل المفاوضات وقال في رسالة مسجلة أن المفاوضات التي جرت لم تفض إلى أي نتائج، داعيًا سكان الإقليم إلى الانضمام إلى الإمارة الإسلامية التي تقوم الحركة بإنشائها في أفغانستان، مؤكدًا أنه عرض على مسعود حماية الممتلكات الخاصة إذا ألقى السلاح، وردًا على ذلك، قال فهيم دشتي المسؤول في جبهة المقاومة الأفغانية أن المقاومة لا تبحث عن قضايا شخصية أو منصب في الحكومة وإنما تسعى من أجل أفغانستان، وأن المقاومة قادرة على الصمود أمام طالبان ومستعدة للدفاع عن كل الشعب الأفغاني، وأعقب ذلك اندلاع الاشتباكات في أجزاء مختلفة من الوادي بين قوات حركة طالبان وجبهة المقاومة الأفغانية التي نجحت في صد محاولات طالبان دخول الوادي من عدة جهات.

معارك عنيفة وتضارب الأنباء

استمرت خلال الأيام الماضية المعارك العنيفة بين عناصر طالبان وعناصر المقاومة في جبهتين على الأقل وهما جبهة “مدخل الوادي” وجبهة “ممر خواك” الذي يمتد عبر الطريق المتجه إلى الشمال الغربي عبر سلسلة جبال “هندو كوش” بالقرب من رأس الوادي، وذلك وسط أنباء متضاربة عن سيطرة طالبان على كافة مناطق الوادي.

قال بلال كريمي المتحدث باسم الحركة عبر حسابه الرسمي على موقع تويتر أن قوات طالبان حققت تقدمًا ملحوظًا وسيطرت على 4 مناطق في المقاطعة الجبلية وهي (خنج – التي تعد أهم المناطق الاستراتيجية في الوادي- وعنابة وشتل وبريان)، مضيفًا أن منطقة أبشار لاتزال خارج سيطرة قوات الحركة، وتشير هجمات الحركة من جوانب متعددة إلى السيطرة على “بازراك” عاصمة الوادي، وقال أمر الله صالح نائب الرئيس الأفغاني السابق “بلا شك نحن في موقف صعب، نحن تحت اجتياح طالبان”، مؤكدًا “لن نستسلم، نحن نقف من أجل أفغاستان”.

وردًا على ذلك، قام أحمد مسعود بنشر مقطع فيديو يوضح استمرار المعارك بين قوات المقاومة وحركة طالبان متعهدًا بمواصلة القتال ضد حركة طالبان في سبيل الله والحرية والعدالة، ونفى المتحدث باسم جبهة المقاومة علي ميسم نظري سيطرة طالبان على مناطق بالوادي وأن الاشتباكات الجارية عنيفة وأسفرت عن وقوع خسائر كبيرة في صفوف حركة طالبان، وهو ما أكده عبد القادر فقير زاده عضو لجنة المقاومة مشيرًا إلى أن طالبان تنشر الشائعات حول سيطرتها على مواقع داخل بنجشير ضمن الحرب النفسية والإعلامية التي تشنها بعد فشل المفاوضات بين المقاومة والحركة، وأن جميع ممرات ومداخل الوادي تحت سيطرة الجبهة.

وفي سياق آخر، حذر علي ميسم نظاري في تصريحات لمجلة “نيوزويك” الأمريكية من هزيمة الجبهة مؤكدًا أنها الأمل الخير للغرب في محاربته المجموعات الإرهابية في المنطقة، موضحًا إنه في حال هزيمتها لن يبقى للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما حليف في أفغانستان إذا اضطرت للعودة أو التدخل في البلاد بعد مرور عام أو فترة زمنية أخرى، وأكد أن الحركة لن تستسلم حتى تنفيذ شرطين، الأول، إنشاء دولة أفغانية عادلة تتعايش فيها جميع مكونات المجتمع، وذلك عبر إعاد بناء الدولة على أسس فيدرالية، والثاني التخلي عن القراءة التي تتمسك بها حركة طالبان للدين الإسلامي.

مالآت المعارك في “بنجشير”

تشكل جبهة المقاومة التي يقودها أحمد مسعود حجر عثرة قوي أمام حركة طالبان، وذلك لأن الجبهة تضم عدد من عناصر القوة التي تصعب من مهمة الحركة للسيطرة على الوادي وهزيمة الجبهة، ويأتي “الأفغان الطاجيك” في مقدمة تلك العناصر إذ يمثلون الظهير الشعبي لأحمد مسعود مثلما كانوا يمثلون لوالده أحمد شاه مسعود، فضلاً عن استقطاب مسعود لكافة المعارضين والرافضين والمتخوفين من حكم الحركة، والتحالف مع أمر الله صالح نائب الرئيس الأفغاني السابق والميليشيات المحلية وعناصر الجيش الأفغاني والقوات النظامية التي هربت بعتادها العسكري إلى وادي بنجشير بعد سقوط العاصمة الأفغانية كابول في 15 أغسطس الماضي، والجدير بالذكر أن أحمد مسعود طالب في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست في 18 الشهر الماضي بدعم أمريكي بالأسلحة والذخائر للقوات التي يقودها لمقاومة طالبان.

ويبدو أن أحمد مسعود يطمح في قيادة المقاومة على غرار والده الذي جمع مختلف الفصائل الأفغانية، وأنشأ التحالف الشمالي خلال الفترة من 1996 – 2001 وسيطر على شمال وشرق البلاد ولم تتمكن طالبان حينها من السيطرة على المنطقة رغم سيطرتها على كامل أنحاء أفغانستان، ولكن الواقع الحالي يختلف بشكل كبير عن الفترة المذكورة، فقد حظى أحمد شاه مسعود بدعم الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر التي قدمت دعمًا لقواته البرية للسيطرة على باقي مناطق أفغانستان والإطاحة بحركة طالبان، وهو الأمر الذي يفقده الأبن الشاب الآن، فقد أكد “جون كيربي” المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية أن واشنطن لا تنوي مساعدة قوات الجبهة في معاركها ضد قوات طالبان، مشيرا إلى أن المهمة العسكرية للولايات المتحدة قد انتهت، هذا فضلاً عن دعم روسيا لمسار المحادثات والمفاوضات.

كما تمتلك حركة طالبان عناصر قوة هي الأخرى، يتمثل أهمها في العتاد العسكري الضخم التي تحصلت عليها مخازن قوات الجيش الأفغاني عقب انسحابه وبسط الحركة نفوذها وانتشارها على كامل أفغانستان وحصارها الإقليم من جهات عدة، فضلاً عن احتمالية دعم عناصر تنظيم القاعدة لقوات حركة طالبان في قتالها ضد حركة قوات جبهة المقاومة.

في الختام، تلعب تطورات المعارك خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة دورًا جوهريًا في مسار الأحداث، فمن المرجح أن تكثف حركة طالبان هجماتها على الجبهة وحصارها بهدف السيطرة على الوادي والقضاء على قوات أحمد مسعود والقضاء على شبح سيناريو والده وفرض السيطرة الميدانية على كافة أنحاء أفغانستان مما يحقق حالة الاستقرار السياسي اللازمة للمراحل القادمة، أو نجاح جبهة المقاومة في صد هجمات طالبان والحصول الدعم الإقليمي والدولي الذي قد ينتهي بإزاحة الحركة عن الحكم، أو على الأقل الانخراط في في مفاوضات سياسية مع حركة طالبان تنتهي بالتوصل إلى تسوية سياسية تحقق مطالب كلا الطرفين وتضمن مصالحهم.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

صلاح وهبة

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى